يفضل كثير من الباحثين وأهل الاختصاص أن يصفوا هذا العصر بعصر الإعلام؛ فقد مكنت وسائله الضخمة من احتلال مكانة خاصة في قلوب الناس؛ حتى ليصعب عليهم أن يتصوروا الحياة اليوم بدون وسائل إعلام تنقل إليه تفاصيل الأحداث وشتى الأفكار والثقافات وصنوف المعرفة.
وتكمن خطورة الإعلام الرئيسية في عملية تطبيق منهج أو ثقافة إعلامية تناقض ثقافة المجتمع وعقيدته وتقاليده.
فالنظم الإعلامية المطبقة في مجتمعات نبذت هدى الله، واستبدلت به غواية الشيطان ونزوات النفس وشهواتها، لا بد أن تكون مناهضة تماماً لمجتمع يؤمن بالله رياً وبالإسلام ديناً وبمحمدٍ نبياً ورسولاً، كما يقول الدكتور سيد الشنقيطي.
وقد وقع المجتمع المسلم ضحية تلك الثقافة الإعلامية الغريبة الغربية الغازية والمستوردة في نفس الوقت؛ فهي من جهة جاءت عن طريق الغزو مقرونة بالاستعمار والهيمنة الغربية، ومن جهة أخرى تقبلها واستوردها كثير ممن انتكست مبادئهم وفسدت عقولهم وتفسخت أخلاقهم.
والغزو الإعلامي جزءٌ رئيسي في منظومة الغزو الثقافي الشامل، وكما يقول الشيخ الغزالي فإن ثمة مخاطر عظيمةً هائلةً تواجه المسلم اليوم وخصوصاً الشباب، وأبرزها: الغزو الثقافي والفكري لشباب الأمة؛ مِن أجل إغراقها في وحَل الثقافة الغربية الزائفة، وفَتنها بمظاهر الحياة المادية التي تقوم على إشباع حياة الجسد والبدن دون أدنى مراعاة لحياة القلب والروح، يقول تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ} [محمد:12].
وقال: ومن هذه المخاطر وسائل الإعلام والاتصال الحديثة التي ظهرت ويظهر الجديدُ منها في كل يوم، من القنوات الفضائية، وشبكات الإنترنت، وهواتف التصوير وغيرها من الوسائل التي غزت معظم البيوت، حتى لا يكاد يسلم منها أحد، بما فيها من شر ومنكر، وضرر وإضرار، وعري وفساد، وذلك من خلال إساءة استخدامها، وإخراجها من دائرة، وتحويلها من وسيلة توعية أخلاقية إلى وسيلة هدم للنفوس والعقول والأبدان.
فأمام المجتمع الإسلامي خياران: إما أن يظل خاضعاً خانعاً لوسائل الإعلام المناهضة لمبادئه وثقافته؛ وبالتالي البقاء في مستنقعات الانحراف الشرعي والفساد الأخلاقي والوهم المعرفي.
وإما أن يأخذ بالبديل الصحيح المستقيم الذي يساعده على الجمع بين الوعي الشرعي السليم، والالتزام الأخلاقي القويم، والتماسك الاجتماعي المتكامل، والنجاح الدنيوي الحقيقي الذي يحقق - فعلياً - الاستقرار والأمن والتوازن في الأرض، ولما فيه مصلحة البشرية جمعاء.
وفي هذا التقرير إشارات سريعة للبديل الإعلامي الذي يحتاجه المجتمع المسلم كوسيلة من وسائل إبلاغ رسالة الإسلام، وتنقية النفوس، وإصلاح القلوب، وتطهير الشعوب، وبناء المجتمع الصالح.
ويحاول التقرير التذكير بأن الإسلام قد سبق غيره من النظم والثقافات ويتميز عنها بوجود منهجية إعلامية ربانية عظيمة لا يأتيها الباطل من بين يدها ولا من خلفها، ويشمل ذلك المبادئ والقيم، والمضمون، والأساليب، والغايات.
فكل ما جاءت به النظم الإعلامية المعاصرة من قواعد وأسس ومناهج تطبيقية في كيفية العمل الإعلامي نجد أن الإسلام قد سبق إلى ذلك وجاء بما هو أسلم وأكمل وأفضل.
خصائص الإعلام الإسلامي
فمن الخصائص التي يتميز بها الإعلام الإسلامي:
- الصدق:
فالصدق سمة من سمات القرآن في الرسالة والدعوة الإسلامية، كما أنه سمة رسولنا الكريم محمد - صلى الله عليه وسلم - رسولاً وداعية، وسمة المجتمع الإسلامي الأمين الحريص على الدعوة الإسلامية.
فالقرآن كتاب الدعوة جاء من الحق بالحق، فهو ينهى عن الكذب والخداع، كما أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أُرسل للناس كافة بالحق مصدقاً لما بين يديه من سابق الرسالات الأخرى. فالإسلام منهج حياة متكامل، ونظرته الإعلامية تتوخى الصدق وتتحرى الحق سواء في الأخبار أو في السلوك، وحتى في النوايا، فلا بد من إخلاص النية لسلامة العمل.
والصدق كإحدى قسمات النظرة الإسلامية للإعلام، لا بد من الالتزام به في مواطن كثيرة:
1- صدق الخبر.
2- صدق الكلمة.
3- صدق الحكم.
والإعلام في النص القرآني لطالما رد على أكاذيب المنافقين وكشف الحقائق وقطع ألسنة الشائعات؛ فالإعلامي المسلم عليه أن يميِّز بين الوقائع والشائعات، وأن يحلل ويفهم ويتابع كل شيء، فيجب عليه تسجيل الوقائع بكل أمانة دون تحيز.
- الواقعية:
وقد قضى الإعلام بعدم الخضوع للواقع المعوج، أو الأهواء المنحرفة، وإنما يدل ذلك على أن الـشريعة جاءت لإخراج المكلفين من دواعي أهوائهم وملذاتهم والذين يسيرون حسب منافعهم ومقاصدهم.
وهذا هو الواقع الذي يختص به الإعلام الإسلامي، فالواقعية تعني أنه لا تستقر أحكامها ولا تضبط قواعدها إلا بملاحظة المصالح المطلقة، وهي بعيدة عن الأغراض والأهواء.
وخصيصة الواقعية في الإعلام الإسلامي، هي إحدى الخصائص العامة للإسلام، أو إحدى خصائص الفقه الإسلامي الذي تنتمي إليه النظرة الإسلامية في الإعلام.
ورؤية الواقع من المنظور الإسلامي، هي مدخل رجل الإعلام في الإعلام الإسلامي؛ وذلك لكي ينير الواقع ويقوم بتغييره، ليتطابق المجتمع في واقعة مع الإسلام ومنهجه.
ولوسائل الإعلام تأثير على فكر الإنسان الحديث، فينبغي التحذير من سوء استعمالها؛ لأن ذلك يشكل خطرا على مستقبل البشرية.
ومن هنا نستنتج أن الإعلام يبتعد عن الإثارة، فهو يؤثر لا يثير، فعين "الكاميرا" تطوف في آفاق الدنيا للتعبير عن قدرة الله وآثارها في الكون، ولكنها لا تثير الشهوات بالصور الخليعة وغيرها من المشاهد أو المسامع غير المرغوب بها.
لقد كان الإسلام في عصر الرسول - صلى الله عليه وسلم - يواجه تحديات من لون خاص، فقد كان يستخدم الوسائل المتاحة له، فكانت الكعبة تستقبل كل عام مؤتمراً إسلامياً ضخماً، فكان الرسول يترقب الوفود من كل الطرق التي يدخلون منها وكان يبث فيهم الرسالة.
وهذه المؤتمرات سواء أصغيرة كانت أم مكبرة، فقد كانت تتسم بالقواعد الأساسية في الإعلام فتبدأ بالاتصال، ثم عرض الدعوة والإعلام بها، ومن ثم الحوار الذي يؤدي إلى سبل الإقناع، وهذا ما يسمى بالمرونة في الإسلام.
- المرونة:
هي الخصيصة الثالثة للنظرة الإسلامية للإعلام، فهي مستمرة وقادرة على مواجهة التطورات، سواء في كيفية المواجهة، أو في وسائلها.
كما أنها قادرة على مواكبة الوقائع المتغيرة المتجددة، بحيث تجد لكل واقعة حكما. وتتسم المرونة بالاستمرارية والثبات في أصولها، بينما ليس هناك جمود على رأي أو موقف، فالحياة تتطلب تجديد الأفكار، وتنويع المواقف.
وفي سنة رسول الله وسيرته نجد أرقى وأعظم وأنجح عمل إعلامي عرفته البشرية كلها، من حيث المنهجية والمضمون والوسائل والغايات.
منهج الرسول في تبليغ الدعوة:
لقد بقيت الدعوة سراً ثلاث سنوات إلى أن أمر الله تعالى نبيه - صلى الله عليه وسلم - بإظهار دينه، قال تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر: 94]، ثم أتبع هذا الإنذار العام بإنذار خاص لقومه وعشيرته صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 214]؛ عندئذ انطلقت صيحة الحق، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لما نزلت {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} صعد النبي صلى الله عليه وسلم الصفا، فجعل ينادي: يا بني فهر، يا بني عدي - لبطون قريش - حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش، فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟، قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقاً. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. قال أبو لهب: تباً لك سائر هذا اليوم، ألهذا جمعتنا؟، فنزلت: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [المسد: 1-2]).
وفي رواية أخرى: لما نزلت هذه الآية خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد الصفا، فهتف: (يا صباحاه)، فقالوا: من هذا الذي يهتف؟، قالوا: محمد. فاجتمعوا إليه، فقال: يا بني فلان، يا بني فلان، يا بني فلان، يا بني عبد مناف، يا بني عبد المطلب، فاجتمعوا إليه، فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم لو أخبرتكم أن خيلاً تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مصدقي؟، قالوا: ما جربنا عليك كذباً. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تباً لك، أما جمعتنا إلا لهذا؟، ثم قام. فنزلت هذه السورة: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}.
وفي رواية أنه لما نزلت هذه الآية {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً فعم وخص، فقال: (يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أملك لكم من الله ضراً ولا نفعاً، يا معشر بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أملك لكم من الله ضراً ولا نفعاً، يا معشر بني قصي أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أملك لكم من الله ضراً ولا نفعاً، يا معشر بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، فإني لا أملك لكم من الله ضراً ولا نفعاً، يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار، فإني لا أملك لك من الله ضراً ولا نفعاً، إن لك رحماً سأبلها ببلالها).
ومن الدلالات والمعاني والمفاهيم الإعلامية في خطبة الصفا:
1- مبدأ البشارة والنذارة:
وهو مبدأ أصيل من أهم مبادئ الإعلام الإسلامي؛ حيث إن الاتصال من خلال المنظور الإسلامي ينبغي له أن يلتزم هذا المبدأ في مخاطبة الناس وتوجيه الأحداث، فالإعلام الإسلامي يبشر الناس، ويفتح أمامهم آفاق الأمل، ولا يثبط هممهم، وهو أيضاً ينذرهم من سوء المصير لمن لم يعتبر بالآيات والسنن، وأتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني.
2- من الاتصال الشخصي إلى الاتصال الجمعي:
لقد كانت هذه الخطبة نقلة عظيمة للحركة بالدعوة الإسلامية في العهد المكي، حيث كانت البداية الحقيقية للاتصال الجمعي، الذي تميزت به الحضارة الإسلامية في عهد النبوة والخلافة الراشدة، وفي العهود الإسلامية الزاهرة.
لقد كان الاتصال الدعوي قبل هذه الخطبة يدور في إطار الجماعات الأولية، مثل: الأسرة، والأصدقاء، ومن يثق بهم الرسول صلى الله عليه وسلم مثل: زوجته خديجة بنت خويلد، وابن عمه علي بن أبي طالب، وصديقه أبي بكر الصديق رضي الله عنهم جميعا.
فلما نزل قول الله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ}، أرشد الله تعالى نبيه إلى هذا الشكل الاتصالي الجديد في حمل الدعوة الإسلامية.
3- فن التوقيت:
لقد اهتبل الرسول صلى الله عليه وسلم ظروف الزمان المواتية، ودرس اللحظة المناسبة لتحقيق أكبر قدر ممكن من الإقناع برسالات ربه.
لقد جاءه الأمر الإلهي بالصدع برسالته، ومكاشفة المجتمع الجاهلي بدعوته، فساق لهم الحقيقة كاملة.
هذه الدلالة الإعلامية في خطبة الصفا تؤصل مبدأ من أهم مبادئ الإعلام الإسلامي، ألا وهو العرض الموضوعي، وقول الحقيقة، والبعد عن التعتيم الإعلامي، وتزوير الأخبار، وتلفيق الوقائع، وتزييف الحقائق، لما في ذلك من امتهان لحرية الإنسان وكرامته، وتلاعب بعقله.
ومع ذلك وأنه لا يلبث الواقع حتى يكشف عوار هذا الإعلام الدعائي التضليلي ويفقده ثقة الناس بأهله ومؤسساته، فقد أثبت التاريخ فشل التضليل والكذب في اكتساب القلوب، وإقناع العقول، والهيمنة على النفوس، وما التجارب الدعائية النازية والفاشية والبلشفية من ذلك ببعيد.
4- المقاصد الحسنة والغايات السامية تقتضي استخدام الوسائل المناسبة:
فقد وفق الرسول صلى الله عليه وسلم في أعلى وسيلة تختصر مساحات المكان، وتخاطب أكبر عدد من الناس في أسرع وقت ممكن، فصعد جبل الصفا، ولعل في هذا دلالة أهمية العناية بالوسيلة، والتألق في فنون الاتصال الإعلامي لإقناع الناس بالحق، وحتى لا يكون سبب الإعراض عن الدعوة الإسلامية عجز القائم بالاتصال عن القيام بواجبه.
5- المدخل الاتصالي المناسب:
لقد كانت كلمة: "يا صباحاه" - التي استهل بها الرسول صلى الله عليه وسلم خطبة الصفا - غاية البدايات الجيدة، والاستهلال الحسن، والمدخل المثير للانتباه والاهتمام، والمحرك للوعي، والملفت للنظر في مجتمع ديدنه الحروب التي كانت تنشب بين قبائله لأتفه الأسباب؛ لذا كان حسن الابتداء هذا مفتاحاً لعقول القوم، فجاءوا زرافات ووحدانا، حتى إن الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً، حتى امتلأت ساحة الصفا.
6- إشراك الجمهور في العملية الاتصالية والحوار المفتوح:
وهذا الأسلوب الحواري في الإعلام له أثره الفعال في تحقيق الإقناع والاقتناع، وهذا ما تؤكده الدراسات الاتصالية، حيث تعد من مؤهلات الإقناع بالرسالة الإعلامية إشراك الجمهور المتلقي في العمل الإعلامي.
كما أن الدراسات الإعلامية تؤكد أيضاً على احترام إرادة الإنسان وحريته الاتصالية، والحوار، والمناقشة.
فالإعلام إنما يكون للناس وليس للقائم بالاتصال، فإذا كان الناس لا يستمعون للقائم بالاتصال، وإذا كان لا يقرأ رسائله إلا هو فالسكوت له أفضل من صرخة في واد.
7- القدرة على بث الثقة في الجمهور:
من أهم عوامل الإقناع في الاتصال، وهذا يعني ثقة القائم بالاتصال بما عنده، وبقيمه، وأهدافه، وغاياته السامية، وثقة الناس في صدقه، وأمانته، وعدله، وهذه الدلالة تؤكد على أهم مؤهلات القائم بالاتصال.
والقائم بالاتصال في هذه الخطبة هو الرسول صلى الله عليه وسلم الذي انتزع الله له إجماعاً عاماً من قريش بأنه الحكم العدل والصادق الأمين، كلمة قالوها، وشاء الله أن تكون عليهم حجة إلى يوم القيامة.
وقريش شوكة العرب، وهي عندهم المأمونة على حرم الله، المحروسة بحراسة الله، وحمايته لبيته وحرمه، وخاصة بعد حادثة الفيل؛ حيث عجز العرب قاطبة أن يقفوا في وجه أبرهة الحبشي ويمنعوا البيت الحرام، ولكن الله حمى بيته وأهله، ولذا كانت قبائل العرب تقول: إذا دخلت قريش الإسلام دخلنا؛ لأنها قبيلة مؤيدة بتأييد الله لها، فما إن فتحت مكة حتى سمي العام التاسع من الهجرة بعام الوفود؛ لكثرة وفود العرب المسلمة.
8-إحكام الاتصال:
وهذا يعني تنظيم طرح حقائق ومضامين الاتصال، إذ إن لكل حقيقة في الإسلام حدا لا ينبغي أن تتجاوزه، والمساواة بينها في الطرح الإعلامي من أهم أسباب الاضطراب في عملية الاتصال، فالرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الخطبة لم يتجاوز حقيقة الألوهية والعبودية، وحقيقة البعث والنشور والجزاء والحساب يوم القيامة، وما ينتظره المحسنون من الأجر والمثوبة، والمعاندون الكافرون من العذاب.
وإحكام الاتصال غاية الحكمة لذلك عرف ابن القيم الجوزية الحكمة بقوله: هي "أن يعطى كل شيء حقه، ولا تعديه حده، ولا تعجله عن وقته، ولا تؤخره عنه"، ثم يقول: "وهذا حكم عام لجميع الأسباب مع مسبباتها شرعاً وقدراً، فإضاعتها تعطيل للحكمة بمنزلة إضاعة البذر وسقي الأرض، وتعدي الحق كسقيها فوق حاجتها، بحيث يغرق البذر والزرع ويفسد، ويعجلها عن وقتها كحصاده قبل إدراكه كماله"، والحكمة إذاً فعل ما ينبغي على الوجه الذي ينبغي في الوقت الذي ينبغي.
9- ربط الطرح الإعلامي بمسلمات الأمة:
وذلك لأن الإطار المرجعي يقوم بتمرير المعلومات والمعارف المقبولة بناء على أساس المخزون المعرفي الذي تكون نتيجة العوامل الثقافية المؤثرة على شخصية الإنسان، بالإضافة إلى قيم المرء الدينية وتقاليده الاجتماعية، ولذلك فإنه ينبغي على القائم بالاتصال مراعاة الرواسب الفكرية والاجتماعية، التي تكون الإطار المرجعي حتى يقرر الإطار المرجعي قبول هذه المعلومات، ومن ثم تمثلها واختزانها، لتكون نظاماً معرفياً، يحكم مواقفه وسلوكه.
وقد جاءت دلالة الطرح الإعلامي بالمسلمات العقلية والفكرية والاجتماعية عندما بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم خطبة الصفا بقوله: "يا صباحاه"، وهذا الهاتف له دلالة في مجتمع القبائل والعشائر التي يغير بعضها على بعض لأتفه الأسباب، هذه الكلمة تعني: الجيش صبحكم أو مساكم.
"يا بني فلان يا بني فلان"، يدعو العشائر القرشية بأحب الأسماء إليها، وبما تعارفوا عليه في مجتمعهم، ليثير فيهم النخوة والحمية.
ثم يوجه لهم الخطاب والطرح الإعلامي من خلال مسلمة في أدمغتهم، وحتى يلزمهم بالحجة العقلية بدأ بسؤالهم: (أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مصدقي؟، قالوا: ما جربنا عليك كذباً. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد).
فما تفوه أحد بكلمة إلا من سبقت عليه الشقاوة في الدنيا والآخرة أبو لهب عليه لعائن الله.
10- التكرار والملاحقة:
هذه الدلالة تؤكد على أسلوب من أساليب الإعلام وهو التكرر الذي يساعد العمل الإعلامي على الانتشار بين الجماهير، ويعد من أجدى الأساليب الإعلامية، وأكثرها فاعلية في تغيير اتجاهات الرأي العام، إذا أتقنه القائم بالاتصال، وأخذ في اعتباره الأوقات التي يتم فيها التكرار، والوسائل الإعلامية الملائمة، والظروف المرتبطة بها، والسوابق الإعلامية، والتأثير الممكن حدوثه.
وتزداد أهمية هذا الأسلوب في الإعلام الإسلامي؛ لأنه احتفى به القرآن الكريم احتفاء عظيماً؛ لما له من الأثر النفسي في تثبيت المعنى وتقريره، حتى يصبح عقيدة راسخة.
ومما يؤكد هذا الأسلوب الفعال أن خطبة الصفا جاءت بأكثر من رواية، وهذا يعني أنها كررت في أوقات متعاقبة لاعتبارات ترتبط بالظرف الاتصالي جملة، فالتكرار المتنوع على هذه الصورة هو جوهر الفاعلية المطلوبة لكل رسالة إعلامية.
11- المسؤولية الإعلامية ودرجاتها:
هذه الدلالة يؤكدها الانتقال من الإنذار العام إلى إنذار عشيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وذوي قرباه، وكان من الممكن الاكتفاء بعموم الأمر الأول في قول الله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ}، فما الحكمة من خصوصية الأمر بإنذار العشيرة؟.
الحقيقة أن في هذا الانتقال إلماحاً إلى درجات المسؤولية التي تقع على عاتق رجل الاتصال في الإعلام الإسلامي.
فأدنى درجات المسؤولية هي المسؤولية الشخصية وهي مسؤولية الرسول صلى الله عليه وسلم عن نفسه، وإعدادها لهذا العمل العظيم،, ومن أجل ذلك استمرت فترة ابتداء الوحي تلك المدة الطويلة، ريثما يطمئن الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أنه نبي مرسل، وأن ما ينزل عليه هو وحي من الله عز وجل، فيؤمن أولاً، ويوطن ذاته على حمل حقائق الإسلام وقيمه للناس، فالعلم النافع قاعدة العمل الصالح، قال الله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد: 19].
ومن هنا فإن رجل الاتصال الحر لا بد أن يكون على علم بما يقدمه من معلومات وأفكار حتى يستطيع أن يؤثر في الناس.
الدرجة الثانية من درجات المسؤولية هي مسؤولية الإنسان تجاه أهله وعشيرته الذين يلوذون به للقيام بحق هذه المسؤولية، خص الله تعالى الأقارب بضرورة الإنذار والتبليغ بعد أن أمر بعموم التبليغ والجهر به، وليس من فرق في مضامين دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم ودعوة رجال الاتصال في الإسلام، إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو إلى شرع جديد نزل عليه.
ورجل الإعلام الإسلامي يدعو أهله وعشيرته الأقربين بدعوة الرسول الذي بعث إليه، فهو يبلغ عنه ويدعو بدعوته وينطق بلسانه، وكما أنه لا يجوز للنبي أو الرسول أن يقعد عن تبليغ الناس ما أوحي إليه، فكذلك لا يجوز لرجال الإعلام الإسلامي والدعاة المخلصين أن يقعدوا عن إنذار قومهم، بل يجب إقناعهم بالإسلام وحملهم عليه وإلزامهم به.
أما الدرجة الثالثة فهي مسؤولية رجل الاتصال الإسلامي في مسؤولية رجل الاتصال في الإسلام تجاه الإنسانية بهدف إنقاذ أكبر عدد ممكن من البشرية من النار، رحمة بهم ووفاء بالأمانة وأداء لواجب البلاغ المبين، وهذه المسؤولية كان يضطلع بها الرسول صلى الله عليه وسلم انطلاقاً من قول الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [سبأ: 28]، وقول الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].
وانطلاقاً من هذه المسؤولية فإن وسائل الإعلام في المجتمع المسلم ينبغي أن تحسن الخطاب الإعلامي لأمة الدعوة فتصمم برامج على أسس علمية دقيقة تقنع الناس وتكفل الاستجابة لها، وذلك عندما تراعي خصائص المجتمعات التي توجه لها الرسالة وخلفياتها الفكرية والاجتماعية، انطلاقاً من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة الصفا.
12- المكاشفة والمصارحة في الطرح الإعلامي:
هذه الدلالة تؤكدها نصوص خطبة الصفا جميعها، فقد صدع الرسول صلى الله عليه وسلم بحقيقة الألوهية وحقيقة الإنسان وحقيقة الدين وحقيقة ما عليه ذلك المجتمع الجاهلي من خلال ما عاب على قومه أن يأسروا أنفسهم للتقاليد الموروثة عن آبائهم وأجدادهم دون تفكير ودون تحرير لعقولهم من أسر الاتباع الأعمى لجاذبية تلك المواريث التي لا تقوم على الفكر والمنطق السليم.
لقد كانت هذه الخطبة غاية في مفاصلة القوم على المبدأ كما كانت غاية في البلاغ، إذ لم تكن طريقاً أقصر من هذا البيان وأوضح وأبين، فقد أوضح لأقرب الناس إليه أن التصديق برسالة الإسلام هو أس الصلة، والرابطة الحقة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قومه، بل وبينه وبين أقرب الناس إليه.
والمكاشفة بالحقائق من مبادئ الإعلام الإسلامي؛ لأن الإعلام الذي ينطلق من هدي النبي صلى الله عليه وسلم لا يبالي فيما يدعو إليه وفي طريق تعامله مع الناس بالمصلحة الآنية ولا المكاسب السياسية المرحلية، ولا يهتم بتحقيق أغراض وأعراض دنيوية طارئة، فيتنازل وينادي بنصف الحقيقة ويوافق على إجراء أي تسوية أو تأييد مشروط؛ لأن الإعلام الهادف إلى نشر عقيدة التوحيد الملتزم بالأوامر والنواهي الموصول بها لا يقول إلا الحق ولا يهدف إلا إلى إظهار دين الحق في الأرض.
من أجل ذلك كله تميز الإعلام الإسلامي في عهود الحضارة الإسلامية الزاهرة بالوضوح والصراحة والواقعية دون مراعاة لمصلحة فرد أو فئة من الناس؛ لأن مصير المجتمع الذي يبنيه الإعلام.
ينطلق منها وهي عقيدة الإيمان بالله الواحد الأحد التي حررت الإنسان من أنواع العبودية لغير الله وجاذبية الأعراف الجاهلية.
13- أسلوب حسن العرض وفن الصياغة:
هذه الدلالة تؤكدها نصوص هذه الخطبة جميعها فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يبتكر جديداً في ألفاظ اللغة العربية، ولكن الأمر حسن الاختيار في تلك الألفاظ والأوضاع أيها أحق بالأخذ لتأدية الغرض، سواء بالنسبة للألفاظ المفردة باعتبارها اللبنات التي تصاغ منها الجمل، أو طريقة تركيب الجمل وصياغة العبارة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخير أشرف المواد وأمسها رحماً بالمعنى المراد، ويضع كل لفظ في موضعه الذي هو أحق به.
وأسلوب العرض الجيد لا تخفى أهميته على المنظرين للفلسفة الإعلامية والعاملين في حقل الإعلام، كما أن هناك بعضاً من رجال الاتصال والدعاة إلى الله أهملوا قضية أسلوب الصياغة وطرحوه جانباً، وانطلقوا يقدمون ما يحفظون من نصوص للناس، فأخفق الاتصال بالناس، ونفروا الناس بأسلوبهم السيئ، وخالفوا هدي النبي صلى الله عليه وسلم في استخدام بلاغة القول وفن صياغة الرسالة الاتصالية لإقناع الناس بمبادئ الإسلام وقيمه.
الدلالات والمعاني الإعلامية في أول خطبة جمعة
لقد كانت الهجرة النبوية فتحاً عظيماً للدعوة الإسلامية، كما كانت نقلة كبيرة للإعلام النبوي؛ حيث تعد هذه الخطبة قاعدة لإعلام جماعة المسلمين في مجتمع قائم وشريعة مطبقة؛ ولذا فإن هذه الخطبة هي في الحقيقة نموذج لشكل من أشكال الاتصال في المجتمع الإسلامي، وهو الاتصال الجمعي؛ حيث يخاطب القائم بالاتصال جماعة من المسلمين متجانسة عقيدتها واحدة وإيمانها واحد وقيمها السائدة ومعاييرها وأفكارها متجانسة؛ ولذلك فإن الطرح الإعلامي سيأتي بلا شك مختلفاً عن متطلبات خطبة الصفا التي كانت الخطبة فيها موجهة إلى القوم والعشيرة من أمة الدعوة، وليس لأهل الرابطة الإيمانية.
روى ابن كثير عن ابن جرير قال حدثني يونس بن عبد الأعلى أخبرنا ابن وهب عن سعيد بن عبد الرحمن أنه بلغه عن خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في أول جمعة صلاها بالمدينة في بني سالم بن عون رضي الله عنهم: (الحمد لله أحمده وأستعينه وأستغفره وأستهديه، وأومن به ولا أكفره، وأعادي من يكفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق والنور والموعظة على فترة من الرسل، وقلة من العلم، وضلالة من الناس، وانقطاع من الزمان، ودنو من الساعة، وقرب من الأجل، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى وفرط وضل ضلالاً بعيداً، وأوصيكم بتقوى الله، فإنه خير ما أوصى به المسلم المسلم أن يحضه على الآخرة، وأن يأمره بتقوى الله. فاحذروا ما حذركم الله من نفسه، ولا أفضل من ذلك نصيحة ولا أفضل من ذلك ذكرى، وإنه لتقوى لمن عمل به على وجل وفخامة، وعون وصدق على ما تبتغون من أمر الآخرة، ومن يصلح الذي بينه وبين الله من أمر السر والعلانية لا ينوي بذلك إلا وجه الله يكن له ذخراً في عاجل أمره، وذخراً فيما بعد الموت حين يفتقر المرء إلى ما قدم، وما كان من سوء يود لو أن بينه وبينه أمدا بعيدا، {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}، هو الذي صدق قوله وأنجز وعده، لا خلف لذلك فإنه يقول تعالى: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}، واتقوا الله في عاجل أمركم وآجله، في السر والعلانية، إنه {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا}، {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}، وأن تقوى الله توقي مقته، وتوقي عقوبته، وتوقي سخطه، وإن تقوى الله تبيض الوجه، وترضي الرب، وترفع الدرجة. خذوا بحظكم، ولا تفرطوا في جنب الله، قد علمكم الله كتابه، ونهج لكم سبيله، ليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين، فأحسنوا كما أحسن الله إليكم، وعادوا أعداءه وجاهدوا في الله حق جهاده، هو اجتباكم وسماكم المسلمين، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة، ولا قوة إلا بالله، فأكثروا ذكر الله، واعملوا لما بعد الموت، إنه من أصلح ما بينه وبين الله يكفه ما بينه وبين الناس، ذلك بأن الله يقضي على الناس ولا يقضون عليه، ويملك من الناس ولا يملكون منه، الله أكبر ولا قوة إلا بالله العلي العظيم).
وفي رواية ابن كثير عن البيهقي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما قال: (كانت أول خطبة خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة أن قام فيهم، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أما بعد أيها الناس: فقدموا لأنفسكم تعلمن والله ليصعقن أحدكم ثم ليدعن غنمه ليس لها راع ثم ليقولن له ربه، ليس له ترجمان ولا حاجب يحجبه دونه: ألم يأتك رسولي فبلغك، وآتيتك مالاً وأفضلت عليك، فما قدمت لنفسك؟، فينظر يميناً وشمالاً فلا يرى شيئاً، ثم ينظر قدامه فلا يرى غير جهنم. فمن استطاع أن يقي وجهه من النار ولو بشق من تمرة فليفعل، ومن لم يجد فبكلمة طيبة فإن بها تجزئ الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والسلام عليكم وعلى رسول الله ورحمة الله وبركاته).
وفي رواية خطب الرسول صلى الله عليه وسلم مرة أخرى، فقال: (إن الحمد لله أحمده وأستعينه، نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، إن أحسن الحديث كتاب الله، قد أفلح من زينه الله في قلبه، وأدخله في الإسلام بعد الكفر، واختاره على ما سواه من أحاديث الناس، إنه أحسن الحديث وأبلغه، أحبوا من أحب الله، أحبوا الله من كل قلوبكم (ولا تملوا كلام الله وذكره، ولا تقس عنه قلوبكم)، فإن من كل ما يخلق الله يختاره الله ويصطفي، فقد سماه خيرته من الأعمال مصطفاه من العباد والصالح من الحديث، ومن كل ما أوتي الناس من الحلال والحرام، فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، واتقوه حق تقاته واصدقوا الله صالح ما تقولون بأفواهكم، وتحابوا بروح الله بينكم، وإن الله يغضب أن ينكث عهده. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته)، قال ابن كثير رحمه الله تعالى وهذه الطرق مرسلة إلا أنها مقوية لما قبلها، وإن اختلفت الألفاظ.
ومن الدلالات الإعلامية لأول خطبة جمعة للرسول في المدينة:
- براعة الاستهلال والبداية المثيرة للانتباه:
هذه الدلالة تؤكدها بدايات الخطب الثلاث، ويظهر في هذا الاستهلال وبراعة الانطلاق من المسلمات الفكرية والعقدية في الاتصال بجماعة المسلمين وبناء الرأي العام المستنير على أساس عقيدة الإيمان بالله الواحد الأحد، والبداية المثيرة للانتباه ينبغي في إطار الأصل الاتصالي أن تكون قريبة من الصورة الذهنية للجمهور المتلقي، وبسيطة وبعيدة عن التعقيد، وقريبة جداً من الموضوع الذي يرغب القائم بالاتصال طرحه على الناس، والمتتبع لخطب الرسول صلى الله عليه وسلم يدرك اختلاف البداية المثيرة للانتباه من خطبة إلى أخرى تبعاً لموضوع الخطبة وطبيعة الجمهور المستهدف.
- في هذه الخطبة نقلة كبيرة في مستويات التأثير الاتصالي:
فمن الخطاب الإعلامي للجماعات الأولية البسيطة المتمثلة في الأفراد والجماعات العشائرية إلى مستوى الأمة ذات الرابطة القائمة على أساس العقيدة والمبادئ الإسلامية الخالدة، بدل النعرات العرقية الجاهلية، هذا بالإضافة إلى اعتبار أن الجمهور الذي كان يتلقى هذا الخطاب الإعلامي النبوي لم يكن هو المقصود بالمضامين الدعوية فقط، وإنما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعد هذه الجماعة لتولي أعباء قيادة الأمة الإسلامية تلك القيادة الراشدة التي أخرجت الناس من ظلمات الجاهلية إلى نور الإيمان، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن تسلط النظم والفلسفات المادية إلى آفاق الحرية الحقة في رحاب الإسلام. والذي يؤكد هذه الدلالة أسلوب مخاطبة الروح الجماعية في الروايات الثلاث لأول خطبة جمعة للنبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، والإطار المرجعي الذي صيغت رموز الخطبة من خلاله، وهو خلاصة خبرات جماعة المسلمين الأولين في المدينة وتجاربها وما تعلمته من الوحي ومن هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فخاطبها الرسول صلى الله عليه وسلم من خلال هذه التجارب.
- استثارة الدوافع الإيمانية والإنسانية:
فقد جاءت الوصية بالتقوى ومراقبة الله تعالى في السر والعلانية في الروايات الثلاثة للخطبة ففي الرواية الأولى قال صلى الله عليه وسلم: (أوصيكم بتقوى الله فإن خير ما وصى به المسلم المسلم أن يحضه على الآخرة وأن يأمره بتقوى الله).
وفي الرواية الثانية: (من استطاع أن يقي وجهه من النار ولو بشق من تمرة فليفعل ومن لم يجد فبكلمة طيبة).
وفي الرواية الثالثة قال صلى الله عليه وسلم: (فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا واتقوه حق تقاته)، وجاءت استثارة الدوافع الإنسانية في الدعوة للتكافل في المجتمع الإسلامي والبذل للمحتاجين، ولا يستهان بالقليل فإنه كثير عند الله، ومن لم يجد فلا أقل من أن يواسي إخوانه في المجتمع الإسلامي بالدعاء والكلمة الطيبة، فالكلمة الطيبة صدقة كما في هذا القول الذي جاء في الرواية الأولى والثانية، بينما في الرواية الثالثة جاءت الدعوة صريحة إلى التحاب في ذات الله تعالى والوفاء بالعهود، قال صلى الله عليه وسلم: (تحابوا بروح الله بينكم إن الله يغضب أن ينكث عهده)، ومثل ذلك جاء في الرواية الأولى: (إن تقوى الله تبيض الوجه وترضي الرب وترفع الدرجة)، وهنا استثار الرسول صلى الله عليه وسلم الدوافع الإيمانية والإنسانية لبناء الرأي العام الإسلامي المتألف والمتعاون على أساس سليم.
- الإحاطة بالظرف الاتصالي وتوجيه الرأي العام للمواجهة الفكرية والمفاصلة على أساس العقيدة:
فقد جاء في الرواية الأولى قوله صلى الله عليه وسلم: (فأحسنوا كما أحسن الله إليكم، وعادوا أعداءه، وجاهدوا في الله حق جهاده، هو اجتباكم وسماكم المسلمين ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة)، وهنا يوجه الرسول صلى الله عليه وسلم الرأي العام الإسلامي بالمكاشفة بالحقائق كاملة، فقيام الدولة الإسلامية في المدينة يعني المواجهة لكل نظم الكفر الفاسدة، والرأي العام الإسلامي الذي يؤسسه الاتصال الفعال على أساس من المصارحة بالحقائق تأتي مواقفه ثابتة، ويكون تأييده لقيادته قويا وثقته بها متينة، قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 62]، وقال تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173].
والحقيقة هي التي تبقى في النهاية وتحدث آثاراً إيجابية على عكس التضليل والخداع الذي لا بد أن ينكشف ويحدث آثاراً عكسية، أما الحقيقة فهي ذات وجه صريح وثابت لا يتغير وإن اختلفت الأساليب التي يلجأ لها باختلاف ظروف الاتصال.
- مراعاة أحوال المخاطبين:
يؤكد ذلك أسلوب الدعوة إلى التعاون بعد التأكيد على قضايا الإخلاص لله تعالى وتقواه في السر والعلانية، وقد جاء هذا الأسلوب في صياغة بارعة تربط التآلف والتكافل الاجتماعي بالإيمان بالله الواحد الأحد والإيمان باليوم الآخر والجزاء والحساب في الدار الآخرة.
وهذا الخطاب لا شك أنه مبني على معرفة تامة بأحوال جماعة المسلمين في مجتمع المدينة الجديدة، وما فيه من المهاجرين الذين يحتاجون إلى المواساة بالمال ولو بالقليل، فإن لم تكن هناك مساعدة مادية فلا أقل من الكلمة الطيبة التي تثمر المحبة والألفة، وتبرز هذه الدلالة أيضا في التذكر بنعم الله تعالى على عباده المؤمنين وفي مقدمتها نعمة الإيلام.
وقد ظهر ذلك واضحاً في مقاطع من الرواية الأولى للخطبة وفي الرواية الثانية، وخص في الرواية الثالثة بنعمة القرآن الكريم، ثم طلب منهم أن يحسنوا كما أحسن الله إليهم، ولهذا الأسلوب أهمية في شحذ الهمم للتمسك بالحق والثبات عليه؛ لأن قوة هذا الاتصال وفاعليته في الإقناع تكمن في الحق الذي يحويه المضمون الاتصالي.
- اختلاف أنماط الاستشهاد باختلاف الإطار المرجعي للجمهور المتلقي:
إذا قورنت مصادر الاستشهاد وأنماطه في هذه الخطبة وخطبة الصفا نجد أن مصادر الاستشهاد في هذه الخطبة تختلف/ فبينما كانت الاستشهادات في خطبة الصفا تقوم على شواهد الواقع والعقل والمنطق، فإن الشواهد في هذه الخطبة تقوم على أساس نصوص الوحي؛ حيث كان الرسول صلى الله عليه وسلم يستشهد بالآيات كما في رواية الخطبة الأولى؛ وذلك لأن الخطاب الإعلامي كان موجهاً لجماعة المسلمين الذين يؤمنون بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم وبما أنزل عليه من القرآن، فكان الخطاب في كلتا الخطبتين يوجه للجمهور المستهدف من خلال المسلمات الأساسية له المرتبطة بقيمه وإطاره العام.
- العوامل المؤثرة في الرأي العام الإسلامي:
لقد تعددت نظريات بناء الرأي العام تبعا للنظم الفلسفية الإعلامية المختلفة، فمن نظرية تقول بالعامل الواحد، وأخرى تقول بالعوامل المتعددة، وثالثة تقول بأثر البيئة والمحيط.
والرسول صلى الله عليه وسلم في هذه يبني الرأي العام الإسلامي على أسس في مقدمتها الإيمان بالله الواحد الأحد، والإخلاص له في السر والعلانية؛ لأن الإيمان أس الحرية الحقة، التي تحقق للإنسان كينونته الحقة، التي أكرمه الله بها، وتخرجه من قيد الشيطان إلى قيد الرحمن، وتجعل قلب الإنسان معلقاً بالله، والحرية حرية القلب والعبودية عبودية القلب.
وهذه الحرية الحقة هي التي كونت الإيرادات الإيمانية، التي حملت الإسلام للناس في كل مكان. هذا بالإضافة إلى القرآن الكريم الذي شكل عقلية الأمة الإسلامية وصاغها صياغة فريدة، تجعل الإنسان المؤمن يرى بنور الله، فلا تتعدد مواقفه في قضية واحدة ولا تضطرب، وتكون أقرب إلى الحق، وقد ظهر ذلك واضحاً في مواقف الصحابة والسلف رضوان الله عليهم أجمعين عندما التزموا هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الاتصال، وأحسنوا التعامل مع الناس عندما كانت لهم غايات سامية، وأهداف محددة.
ويظهر في الخطبة أن الرسول صلى الله عليه وسلم حدد غايات الأمة الإسلامية وأهدافها بوضوح: ففي الرواية الأولى لهذه الخطبة قال صلى الله عليه وسلم: (ومن يصلح الذي بينه وبين الله من أمر السر والعلانية لا ينوي بذلك إلا وجه الله تعالى يكن له ذخراً في عاجل أمره وذخراً فيما بعد الموت)، وهذا ما جعل مواقف جماعة المسلمين تتصف بالاتساق، كيف لا، وعقيدتها واحدة، وأهدافها واحدة، وغاياتها واحدة، وقيمها السائدة مشتركة، وأفكارها متجانسة؛ وما ذلك إلا لأنه تم بناء المسلمين على أسس سليمة وغايات وأهداف واضحة ومحددة.
- الإقناع بالأفكار:
تميز الطرح الإعلامي في هذه الخطبة بالانطلاق من مبدأ الإقناع بالأفكار وليس التحكم في الفكر، إما عن طريق الإثارة والتهييج، كما في المدرسة الإعلامية الشيوعية الاشتراكية؛ حيث إن محور الاتصال عندهم هو الإثارة والتهيج.
أو عن طريق التحكم في الفكر عن طريق الإرهاب الفكري، الذي يهدف فيه رجل الإعلام إلى إلزام الجمهور المتلقي بالتسليم لقضاياه وأهدافه بالحجة، ويظهر في هذا المدرسة الإعلامية الغربية عن طريق التحكم المنظم في المعلومات.
ولذا تعمل وسائل الإعلام الغربية عمل سحرة فرعون، الذين سحروا أعين الناس واسترهبوهم، قال الله تعالى: {فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 116].
والذي يؤكد هذه الدلالة في روايات الخطبة:
أ- الاستعانة بمنطق الأخوة كما جاء في رواية الخطبة الأولى: (هو اجتباكم وسماكم المسلمين).
ب- أسلوب الاستعانة بضرب الأمثال لتقريب المعاني وتجسيدها في أشكال محسوسة، لينتقل بالإنسان من الإلف بالفكرة إلى الاقتناع بها، وذلك واضح في المثل الذي ساقه الرسول صلى الله عليه وسلم لبيان أهمية الإنفاق في سبيل الله تعالى، فالادخار الحقيقي هو ما يدخره الإنسان لآخرته كما جاء في الرواية الثانية لهذه الخطبة.
جـ - مخاطبة عقل الإنسان والثقة بمقدرته في حمل مسؤولية الاتصال والوفاء بواجب البلاغ المبين وهذه المخاطبة بينة في روايات الخطبة الثلاث، والحقيقة أن بحوث الاتصال تؤكد أهمية مخاطبة عقل الإنسان في إطار السياق الذي يتم فيه الاتصال.
على اعتبار أن الجمهور المتلقي عنصر رئيسي وفعال في عملية الاتصال؛ لأن الرسائل التي يستقبلها ليست سوى خبرات محملة بالمعلومات تصب في الصورة العقلية وتؤثر فيها، فإذا لم يفهم الإنسان ويدرك بعقله تلك الرسائل فإنه لا يحدث التغيير المقصود في الصورة الذهنية، وأما إذا لاحظ العقل الرسالة وبلغته واستوعبها، فإنه يحدث التغيير ويتراوح بين إضافة معلومات جديدة تعزز الصورة الذهنية ومعلومة جديدة تحدث مراجعات فيها أو تغيرها، وبقدر ما تكون المعلومات حقيقية وصادقة بقدر ما يكون التغير إلى الأفضل.
- مخاطبة الجمهور والمتلقي بلغة مفهومة واضحة الدلالة قوية الحجة:
فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يخاطب جماعة المسلمين بلغتهم، فالمضمون الاتصالي لا يخرج عن خبرات ومعارف جماعة المسلمين الأولى في المدينة المنورة يوم هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إليها، ولا تخفى أهمية العناية باللغة والإطار الدلالي؛ لأن التشويش الدلالي يعد عائقاً من معوقات الاتصال.
وهذا النوع من التشويش يحدث نتيجة عدم فهم المتلقي للرسالة حتى ولو نقلت بدقة فائقة. والمتتبع لروايات الخطبة الثلاث يجد سهولة اللغة ووضوح دلالتها، وما ذلك إلا لتيسير التفاهم والتواصل والقرب النفسي بين جماعة المسلمين؛ لتحقيق الإقناع بمضامين خطبة الرسول صلى الله عليه وسلم في أول جمعة صلوها في المدينة المنورة.
- من دلالات هذه الخطبة استخدام أسلوب التكرار:
للحث على بعض المضامين في خطبة الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي مقدمتها الحث على الإخلاص ومراقبة الله تعالى والتقوى، وقد كررت في روايات الخطبة جميعها، وقد أثبتت دراسات الاتصال ودراسات علم النفس الحديثة أهمية التكرار في إقناع الناس بالآراء والأفكار المختلفة، كما أن تكرار الحقائق والمعلومات يعمل على تثبيتها في العقول، وقد جاء هذا الأسلوب في القرآن لتحقيق الإقناع العقلي بغاياته الكبرى وفي مقدمتها عقيدة التوحيد، التي يتحدد على أساسها مصير الإنسان في الدنيا والآخرة.
وهكذا جاءت أول خطبة جمعة خطبها الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة بهذا الأسلوب الذي استقاه الرسول صلى الله عليه وسلم من القرآن الكريم الذي احتفى به احتفاء عظيماً؛ لما له من الأثر النفسي في المتلقي، فهو لا يقنع بالمعاني فقط، بل يثبتها ويقررها، حتى تصبح عقيدة راسخة.
وعلى كل حال فإن هذه الخطبة بما اشتملت عليه من دلالات باهرة في الاتصال والإقناع تعد نموذجاً للاتصال الإسلامي الفعال في حياة جماعة المسلمين، تميزت بسداد المنهج، القائم على هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ووضوح الهدف الاتصالي، وغزارة العلم والحكمة، وفاعلية الأساليب الإقناعية المرتبطة بالظروف البيئية المتغيرة.
الخلاصة:
لقد تتميز لإعلام الإسلامي الحقيقي بشموليته لكل جوانب حياة المسلم الدينية والدنيوية، وتلك الشمولية نابعة من شمولية الإسلام.
فللإعلام الإسلامي حسن مداخله إلى النفوس البشرية بأساليبه المتعددة المتنوعة، المشوقة الجذابة، المقنعة المؤثرة، المتصفة بصفة المعاصرة والصلاحية لكل زمان ومكان، بل إنها أحد خصائصه التي لم يرق ولن يرق إليها أي إعلام معاصر، ومن هذه الأساليب التي ذكرها عبد الله الوشلي في كتابه (الإعلام الإسلامي في مواجهة الإعلام المعاصر):
- البيان المعجز: لقد جاء القرآن الكريم كتاباً عربياً مبيناً يتحدث إلى الناس بلغة العرب، ولكنه جاء بأسلوب معجز تحدى به المعاندين والمتكبرين أن يأتوا بما يماثله في نصاعة التعبير وقوة البيان ولا يزال هذا التحدي المعجز قائماً حتى اليوم، وسيبقى قائماً إلى يوم يبعثون.
- التنوع في الأداء القرآني: فالقرآن في حقيقته تركيب عجيب في بناء آياته وفي الموضوعات والقضايا التي يتناولها من خلال وعظه وتعليمه ومحاوراته التي يرد بها على المعترضين أو يعقب بها مؤيداً أو مندداً أو مبشراً أو منذراً، وفي وسع القارئ أن يستعين بالدراسات الكثيرة التي تناولت ظاهرة الإعجاز القرآني من هذه الناحية.
- الواقعية في الحوار: والمقصود بالواقعية هو أن وحي السماء قد علمنا مواجهة الأحداث والوقائع حين حدوثها، ذلك أن الفكرة النابعة من المواجهة تتصف بالحرارة والحيوية وتتميز بقدرة فائقة على التأثير في النفوس.
ومما يلفت النظر أن الأفكار والموضوعات التي تبقى في حيز النظريات غير قابلة للتطبيق أو التي لا تتهيأ لها الظروف الملائمة لتطبيقها تفقد تأثيرها في النفوس وتتحول إلى جملة من الأفكار المترفة التي لا تصلح إلا لتقضية السهرات في الليل أو لملء أوقات المترفين من المثقفين، وهذا هو السر في أن القرآن الكريم نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوقات مختلقة، وبتعبير آخر كانت السور أو الآيات تنزل استجابة لحادث معين أو جواباً عن سؤال معين أو شرحاً لموقف من المواقف، ومن هنا يتبين أن استباق الأمور والقفز من فوق الأحداث لا يتفقان مع منهج المعاصرة في المحاورة والإعلام والمناقشة التي جاء بها القرآن الكريم، وهذا هو الذي يفسر سقوط الأفكار والفلسفات والدعوات الأرضية التي لا تتصل بالحقائق والوقائع المعاشة عند الناس في كل عصر.
- التزام الصدق: هذه الصفة بالغة الأهمية في الإعلام الناجح وفي الدعوة إلى الله فإن تحرى الحقائق والوقائع والالتزام بروايتها، كما وقعت هي الضمانة الأساسية للفوز بثقة الناس الذين هم غرض المادة الإعلامية أو هدف الدعوة إلى الله، وليس أدل على أهمية الصدق وتحري الحقيقة في الإعلام من تاريخ الوقائع الإسلامية نفسها، لقد أثبتت مجريات التاريخ الإسلامي أن الأكاذيب والأساطير التي وجهت بها الدعوة الإسلامية قد سقطت كلها أمام الاستقامة والطهارة في مناقب أصحاب الدعوة إلى الله.
- المواجهة الصريحة وتسمية الأشياء بأسمائها: فكل تسمية تتم على حساب العقيدة والشريعة في سبيل الحصول على مكاسب وقتية هي في الحقيقة جناية على العقيدة والشريعة في وقت معاً، ولنا فيما ذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من المواقف ما يؤكد هذا الرأي، ولاسيما يوم أن رفض التسوية التي عرضت عليه من قبل قريش بواسطة عمه أبي طالب فقال قولته الخالدة: (والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته أو أهلك دونه).
- فعالية السلوك: لوحظ أن القرآن الكريم قد ركز تركيزاً شديداً على الجانب الخلقي عند الرسول صلى الله عليه وسلم، واعتبر أن نجاح الدعوة إلى الله موصول في جانب كبير من سلوكه عليه الصلاة والسلام، فقد ورد فيه قوله عز وجل: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159]، ويقول في مكان آخر: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، وفي مكان ثالث يصف القرآن أخلاق عباد الرحمن فيقول عز من قائل: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً} [الفرقان:63، 64] إلى آخر سورة الفرقان. لكن روح الإسلام عند عباد الرحمن ليست روح الاستسلام؛ فقد ورد في مكان آخر قوله عز وجل: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29].
- الاهتمام بكل صغيرة وكبيرة حتى لا تترك أي ثغرة في بناء الدعوة إلى الله: إن كل من يتلو القرآن الكريم يتبين له أن الحوار يتناول كل الأحداث والمواقف وكل الناس من كل الطبقات والفئات ابتداء من المشرك الكبير حتى المؤمن الفقير، وابتداء من الوفود الكبيرة التي تحاور وتناقش ومن كبير الخزرج عبد الله بن أبي الذي كان على رأس المنافقين حتى المستضعفين الذين بقوا على كفرهم أو نفاقهم متابعة لكبرائهم، والقرآن لا يتردد في أي أسلوب من أساليب البيان، ولا يستحي أن يضرب أي مثل من الأمثلة في سبيل خدمة الدعوة إلى الله.
- الأخذ بأسلوب الاستيعاب الإعلامي: والمقصود بالاستيعاب هنا هو أن القرآن الكريم قد أخذ بطريقتين أساسيتين في الأداء لما لهما من أثر بالغ في تحقيق هذا الاستيعاب:
الأولى: طريقة التنويع في التعبير، بحيث يتم التناغم بين المبنى والمعنى، فإذا كان المعنى شديداً قاسياً كان المبنى شديداً قاسياً أيضاً، والعكس بالعكس.
الثانية: طريقة التكرار في الأداء، والمقصود بالتكرار هو القيام بعملية الإيحاء المستمر، وهي العملية التي يتكرر بها المعنى نفسه بعبارات مختلفة تجنباً للإملال وقصداً إلى تعميق التوعية بالمعنى المقصود منه.
- تناول الحقائق العلمية المسلمة: وبتعبير آخر تقديمها بالطريقة التي تتفق مع الفطرة، لاسيما وأن القرآن ليس كتاباً علمياً بالمعنى الذي نعرفه اليوم، لكنه لم يورد من الحقائق العلمية إلا ما هو مسلم به، وفي الحدود التي يستوعبها عقل الإنسان في كل عصر من العصور.
- الدعوة إلى اعتماد أفضل أساليب القول والأداء في ممارسة الإعلام ودعوة الآخرين: والتي تتمثل في الآتي:-
(أ) القول الحسن: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} [البقرة:83].
(ب) اللين في القول والخطاب: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طـه:44]، {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].
(ج) البصيرة في الأداء والتوصيل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108].
(د) الحكمة في العرض، واختيار الموعظة الحسنة في الموضوع، والجدال الشريف العفيف المتمثل بغاية الوصف بالحسن: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125].
(هـ) اللفتة المثيرة للانتباه: لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يفعلها من ذلك ما ورد في حجة الوداع حين خطب الناس فقال: (أي يوم هذا؟ أي بلد هذا؟ أي شهر هذا؟)، والناس لا يردون عليه إلا بقولهم: الله ورسوله أعلم. ثم يقول بعد ذلك: (إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذه في شهركم هذا...).
تلك إشارات ولفتات لأهم أساليب الإعلام الإسلامي، كما دل عليها القرآن وبينتها السنة النبوية، وهي أساليب يلزم الإعلامي الإسلامي بالعمل بها وتحويلها إلى واقع يتعايش معه الناس من خلال التلقي والأخذ، وهي بحق تحقق أرقى وأفضل ما وصل إليه الإعلام المعاصر الذي فقد الانضباط بالمحتوى والالتزام بالأخلاق وتحرر من قيود الفضائل والآداب، فما أحوج المسلمين اليوم وبخاصة رجال الإعلام منهم أن يفهموا دينهم ويتعرفوا على تعاليم ربهم حتى يقدروا على إبلاغ رسالة الله في الأرض ودعوة الله إلى البشر والله الهادي إلى سواء السبيل.