بينما ينظر إلى مدينة بونديشيري في الهند على نطاق واسع على أنها بمثابة قطعة من فرنسا، لا تزال مدينة ترانكبار صاحبة التراث الدنماركي الغني بعيدة عن الأضواء.
على حافة خليج البنغال جنوبي الهند، تقع مدينة اسمها باللغة المحلية "ثرانغامبادي" وهو الاسم الذي يبدو لفظه موسيقيا كما معناه، وهو "أرض الأمواج التي تشدو".
لكن في أوائل القرن السابع عشر، تبين أن هذا الاسم صعب النطق للغاية بالنسبة للدنماركيين الجدد الذين غيروه إلى "ترانكبار"، ولا تزال المدينة معروفة به حتى يومنا هذا.
ورغم أن معظم الناس قد سمعوا بالمستعمرة الفرنسية بونديشيري في الهند، إلا أن قليلا منهم عرف أن الدنمارك قد استعمرت جزءا من الهند أيضا، وخاصة في زاوية بعيدة عن المدن التجارية الكبرى في تشيناي، وكولكاتا، ومومباي.
وكانت شركة شرق الهند الدنماركية، التي أنشئت في عام 1616 في عهد الملك الدنماركي كريستيان الرابع، قد وضعت عينها على ساحل كورومانديل في الجنوب الشرقي من الهند حيث يوجد الفلفل والهيل.
وكانت السفن الدنماركية قد وصلت إلى ثرانغامبادي في عام 1620. وكان راغوناثا ناياك، حاكم مملكة ثانجافور المحيطة بها، قد دخل طوعا في اتفاقية تجارية مع الدنماركيين، ومنحهم بموجبها حيازة البلدة بإيجار سنوي قيمته 3,111 روبية، وسمح لهم بتصدير الفلفل إلى الدنمارك.
ورغم أن المنطقة كان قد حكمها سابقا تشولا وبانديا وهما من السلالات التاميلية صاحبة النفوذ، وفي وقت لاحق حكمها البريطانيون - الذين باع الدنماركيون ترانكبار إليهم في عام 1845 مقابل 1.25 مليون روبية (حوالي 14,400 جنيه استرليني اليوم) – إلا أن البلدة الساحلية أصبحت مستقلة تحت الحكم الدنماركي.
وقال تقرير نشره المركز الثقافي الدانماركي الهندي لترانكبار إن "فترة الحكم الدانماركي الطويلة حولت ثرامغنبادي من قرية هندية إلى بلدة دنماركية مهجنة محاطة بجدار، وتربطها شبكة من الشوارع المتعامدة، وبها قلعة قوية على الساحل".
Image copyrightHEMIS ALAMY STOCK PHOTO
في الواقع، كان من أول الأشياء التي فعلها الدنماركيون لدى وصولهم هو بناء حصن دانسبورغ كمركز تجاري لهم. وكان هذا الحصن في ذروة أيامه ثاني أكبر قلعة دنماركية في العالم بعد كرونبورغ (المعروفة أيضا باسم إلسينور)، الذي كان موقعا لعرض مسرحية هاملت لشكسبير.
كما أحضروا معهم الديانة البروتستانتية، وتبع ذلك إنشاء أول مطبعة في الهند لطباعة الكتاب المقدس باللغة التاميلية.
ورغم أن هذه المدينة التي يقطنها 24,000 نسمة من عرق التاميل، إلا أن بقايا ماضيها الدنماركي لا تزال واضحة في كل مكان.
والمدخل الرئيسي للمدينة يكون من خلال بوابة لاندبورتن (بوابة المدينة)، وهو جزء من جدار التحصين حول ترانكبار الدنماركية مطلي باللون الأبيض، ويحمل الخاتم الملكي الدنماركي.
ولا تزال علامات الطرق في تلك الأيام التي حملت أسماء - مثل شارع الملك (ترجمه البريطانيون من كونجنسغيد)، موجودة في الهند المعاصرة، حيث تتجلى المباني الاستعمارية الشاهقة أمام المنازل الهندية الصغيرة.
كما أن نظام التعليم في ترانكبار يعد إرثا كاملا من الدنماركيين، فمعظم المدارس يديرها كل من الدير الكاثوليكي سانت تريزا، والكنيسة الإنجيلية اللوثرية التاميلية.
في مارس /آذار عام 2016، ضم متحف الحصن بالمدينة وثائق مثيرة للاهتمام لذروة الحكم الدانماركي، بما في ذلك نسخة محافظ عليها بعناية من عقد البيع بين الدنماركيين والبريطانيين، وخرائط قديمة للمدينة ومجموعة من السفن الدنماركية المصغرة التي رست للمرة الأولى في ترانكبار.
لكن بعض المناطق الرئيسية للقلعة طوقت لأعمال الترميم. وبعكس العديد من المدن الاستعمارية، حيث تركت مخلفات الماضي لتتلاشى، فإن ارتباط الدنمارك القوي بالمركز التجاري الأول لا يزال مرئيا.
وهناك جمعية ترانكبار الدنماركية ، التي تنفذ أعمال التجديدات للحصن، وهي وكالة تطوعية شكلها أربعة أصدقاء في عام 2002. وقد أصبح لديها الآن أكثر من 200 عضو.
ويقول بول بيترسن، نائب رئيس الجمعية وأحد الأعضاء المؤسسين، إنه كان مفتونا بترانكبار منذ أن درس عنها في مدرسته في الدنمارك.
Image copyrightHEMIS ALAMY STOCK PHOTO
ويزور بيترسن، وهو مدير مدرسة متقاعد حاليا، تلك المدينة مرتين سنويا، وقد جلب تلاميذه من مدرسته لضمان بقاء قصة هذا التاريخ الدنماركي الهندي المشترك خالدة.
ويضيف: "بعد الجولة الأولى من ترميم حصن دانسبورغ، رفعنا العلم الهندي والعلم الدنماركي على القمة. وهذا فخر يتسامى إلى القمة".
ويقول إس بي برابهاكار، وهو نائب القنصل الفخري للدنمارك في تشيناي، إن الحكومة الدنماركية تتشرف بأن يكون لها هذا التاريخ المشترك.
ويضيف: "تعتقد الحكومة الدنماركية أن تاريخ الدنماركيين لا يكتمل دون الإشارة إلى هذه الفترة المهمة، لذا فقد حافظوا على هذه السجلات التاريخية بعناية في متاحف ومحفوظات كوبنهاغن. ولا يزال الدنماركيون يرغبون في زيارة ترانكبار للتعرف على قبور أجدادهم في المقبرة المحلية".
وقد رممت جمعية ترانكبار الدنماركية باحة الكنيسة الدنماركية، وهي واحدة من أقدم المقابر في المدينة حيث دفن العديد من الدنماركيين، كما رممت مؤخرا منزل أحد حكام الدنمارك.
أما مشروعهم الحالي فهو ترميم منزل القائد الدنماركي الذي يعود للقرن الثامن عشر، والذي سيضم في نهاية المطاف متحفا ومكتبة ومركزا ثقافيا دنماركيا هنديا.
وكانت الجمعية قد حازت في البداية على ثقة السكان المحليين عن طريق تقديم المساعدة بعد إعصار تسونامي المريع عام 2004، وتوفير القوارب الجديدة للصيادين، وكذلك بناء جدار حماية من الجرانيت على طول الساحل.
وتقول معلمة المدرسة إس مارينا: "سكان ثرانغمبادي يرحبون بالشعب الدنماركي لأننا لا يمكن أن ننسى مساعدتهم بعد التسونامي. حتى قبل أن تتدخل الحكومة المحلية، كانوا قد ساعدونا على إصلاح بيوتنا وشراء قوارب جديدة ".
Image copyrightHORNBIL IMAGES ALAMY STOCK PHOTO
وبالنسبة للسكان المحليين، فإن تجديد ذلك الإرث الدنماركي يعني المزيد من الزوار، وهذا بدوره يعني المزيد من الفرص الاقتصادية.
وقد نظم آ ر سنكار، زوج مارينا، إحدى الغرف في منزله، ويخطط لإضافة اثنتين أخريين على الشرفة المفتوحة في القمة، كخيار لإقامة السياح.
وأوضح سنكار: "العديد من الأجانب يأتون إلى ثرانغمبادي الآن، ولكن لا توجد فنادق رخيصة هنا".
ورغم الاهتمام السياحي، فإن ترانكبار، بتراثها الأوروبي الغني، لا تزال بعيدة عن الأضواء. ولا تزال ترانكبار حتى يومنا هذا تحافظ على علاقة ودية متبادلة ومستمرة مع الدنمارك.
وكما قال بيترسن: "شعب ترانكبار ينظر إلى الحقبة الدنماركية على أنها كانت وقتا جيدا، ويعتبروننا أصدقاء"