لا شكَّ أن حادث مقتل مودود كان من اللحظات الفارقة؛ التي أدَّت إلى كثير من التغييرات على الساحة السياسية والعسكرية، كما أدَّى إلى تغيير في أيديولوجيات كثير من القادة والدول، وهكذا دومًا يكون موت الشخصيات المؤثِّرة، خاصةً إن كانت هذه الشخصية في عظمة وقيمة مودود، ويالَحسرة الأجيال التي لا تُعاصر شخصية من هذا الطراز، فإنه يمرُّ عليها سنوات وسنوات دون أن تشعر بقيمة الزمن، ولعلَّنَا في هذه الوقفة نتحدَّث عن خمس أو ست سنوات كاملة، بينما كنا أيام مودود نتحدَّث عن الشهور وليس السنوات لأهمية الأحداث التي نراها في زمان المجاهدين، وسيأتي علينا زمانٌ نتحدَّث فيه عن الأيام والساعات عندما نتكلَّم عن نور الدين محمود أو صلاح الدين الأيوبي، وهكذا تُؤَثِّر الشخصيات القوية على كل مجريات الأمور في زمانها.

وهذه بعض النقاط والوقفات التي تهمنا في السنوات التي تلت مقتل مودود:

الوقفة الأولى: مع حركة الجهاد في العالم الإسلامي بصفة عامة.
للأسف الشديد فإن الأُمَّة في هذه المرحلة لم تبلغ درجة من النضج تسمح باستمرار الجهاد بالدرجة نفسها عند غياب الشخصية القائدة المجاهدة، والأصل أن الأُمَّة الناضجة لا تعتمد على شخص أو شخصين، ولكن تكون الطاقات البديلة فيها متوافرة؛ ومن ثَمَّ فهي تسير قدمًا دومًا على الرغم من العقبات والأزمات؛ ولهذا فإن مقتل مودود عطَّل حركة الجهاد الحقيقية ست سنوات كاملة، بل لعلَّه أكثر من ذلك، وليس معنى هذا أنه لم تحدث حروب في هذه الفترة بين المسلمين والصليبيين، ولكنها لم تكن حروبًا كحروب مودود، إنما كانت نوعًا من أداء الواجب دون روح، أو نوعًا من طاعة الأوامر العليا بالجهاد، أو نوعًا من ذَرِّ الرماد في العيون، أو حتى نوعًا من العادة التي تحتِّم أن يقاوم الشعبُ المنكوب عدوَّه الذي احتلَّ بلاده، وأحيانًا كانت بروح جهادية، ولكنها تفتقر إلى الكفاءة التي تُنجحها؛ لهذا فإننا سنرى بعض الحملات في هذه السنوات الست، وإلى سنة (513هـ= 1119م)، ولكنها -للأسف- ستكون حملات بلا رُوح حقيقية، ولعلَّ أفضل توصيف لها أنها كانت مجرَّد زوابع في فنجان!

الوقفة الثانية: مع إمارة الموصل.
كان شعب الموصل -كما ذكرنا- محبًّا للجهاد مقدِّرًا للعلم والعلماء؛ ولذلك كان من الطبيعي أن يُوَلَّى أمره رجلٌ من أهل الصلاح، حتى يكون هناك نوع من التناسق والتناغم بين الحاكم والمحكوم، وقد وَلِي على الموصل بعد مقتل مودود أحد الأتراك الأخيار وهو آق سنقر البُرْسُقي[1]، وكان هذا الرجل كما يصفه ابن الأثير: «كان خيِّرًا يحبُّ أهل العلم والصالحين، ويرى العدل ويفعله، وكان من خير الولاة، يحافظ على الصلوات في أوقاتها، ويُصلِّي من الليل متهجِّدًا»[2].

ومع القوَّة الإيمانية والأخلاقية العالية لآق سنقر البُرْسُقي؛ فإن كفاءته السياسية والعسكرية لم يكونا على نفس القدر والمستوى؛ فضعف كفاءته السياسية أدخله في حروب جانبية مع الإمارات الإسلامية المجاورة، وخاصةً إمارة مَارِدِين؛ مما أدخله في صراع ليس له معنى في هذا التوقيت مع إيلغازي بن أُرْتُق حاكم الإمارة، وبذلك خسر آق سنقر البُرْسُقي الأراتقة جميعًا، وهم منتشرون في شمال العراق وديار بكر[3]، وهذا -لا شكَّ- أضعف موقفه، وشتَّت جهده.

كما أن ضعفه العسكري أدَّى إلى فشله في تحقيق نصر يُذكر على الصليبيين؛ الذين واجههم في إمارة الرها في الحملة التي خرج على رأسها في (ذي الحجة 508هـ= مايو 1115م)، إضافةً إلى أنه بعد فشل حملته مع الصليبيين، وفي أثناء عودته دخل في صدام مع الأراتقة بسبب عدم تعاونهم معه في الحملة، وتعرَّض في هذا الصدام لهزيمة كبيرة تَفَتَّتَ فيها جيشه الكبير المكوَّن من خمسة عشر ألف فارس، وهذا دفع السلطان محمد إلى عزله عن الموصل في سنة (509هـ= 1115م)، وإعطاء الولاية لجيوش بك[4].

وفي السنة نفسها التي عُزل فيها آق سنقر البُرْسُقي أَوْكَلَ السلطان محمد السلجوقي لبُرْسُق بن بُرْسُق أمير همذان قيادة جيش كبير يهدف إلى حرب الصليبيين، إضافةً إلى إخضاع الإمارات الإسلامية المنشقَّة عن السلطان محمد، وكذلك الإمارات الشامية التي أصبحت تُدار بأفراد خارج الدولة السلجوقية؛ مثل: دمشق التي تدار بطُغْتِكِين، وحلب التي تدار ببدر الدين لؤلؤ؛ وفي هذه الحملة خرج أمير الموصل الجديد جيوش بك تحت زعامة الأمير العام للحملة بُرْسُق بن بُرْسُق[5].

ودون الدخول في تفصيلات كثيرة مؤلمة فإنَّ هذه الحملة انتهت بمواجهة سافرة عجيبة بين الجيش السلجوقي من ناحية، وبين جيوش الصليبيين المتحدة مع جيوش الإمارات الإسلامية في ديار بكر، وأيضًا حلب ودمشق من ناحية أخرى!

لقد رأى هؤلاء الأمراء أن خطر السلاجقة عليهم أكبر من خطر الصليبيين، فعرضوا التحالف مع روجر الأنطاكي والصليبيين ضد الجيش السلجوقي المسلم! وهكذا وقف المسلمون وفوق رءوسهم الصُّلبان، يُقاتلون مع أعدائهم تحت راية واحدة!

إنه ضعف الرؤية، أو قُلِ انعدامها! فليس هناك من مبرر -مهما كانت الظروف- لنرى مثل هذا المفارقات التي يستعجب منها كل السامعين، سواء كانوا من المسلمين أو غير المسلمين!

وللأسف الشديد انتهت الموقعة -التي عرفت في التاريخ باسم موقعة دانيث، وهو المكان الذي وقعت فيه- بهزيمة بُرْسُق بن بُرْسُق وجيشه المسلم السلجوقي، وغنم المعسكر الصليبي المسلم ما لا يُقَدَّر من الغنائم والسلاح. ومن الجدير بالذكر أن روجر الأنطاكي استأثر بالغنائم لنفسه وجيشه، ولقد كانت المفاجأة لأهل أنطاكية أكثر من سارَّة، حيث عاد روجر بثروات طائلة، كما عاد بأخبار تفكُّك الصفِّ الإسلامي وتشتُّته[6].

واستمرَّ جيوش بك في حكم الموصل، ولم تكن له محاولات تُذكر لإعادة الكَرَّة ضدَّ الصليبيين.

وهكذا أُحْبِط أهل الموصل نتيجة وجود هذه الأمراض القاتلة التي دعت الأُمَّة في وقت من الأوقات أن تقاتل أخاها، وتُصافح ألدَّ أعدائها!

كان هذا هو حال الموصل بعد مقتل مودود.

الوقفة الثالثة: مع عماد الدين زنكي.
بَهَر هذا الفتى القدير الأنظار في المعارك التي اشترك فيها، وأدرك الجميع قدراته العسكرية الفذَّة، كما أدركوا -أيضًا- عمق ولائه للسلاطين السلاجقة، وعدم تردُّده في سماع الأوامر وتنفيذها، فأُوكلت إليه في الحروب المهامُّ الجسام، وعلى الرغم من عدم تحقُّق النصر في المواقع الحربية في تلك الفترة، فإنَّ الجميع كان منشغلاً بذكر هذا القادم الجديد: عماد الدين زنكي.

الوقفة الرابعة: مع طُغْتِكِين أمير دمشق.
بعد مقتل مودود روَّج رضوان -كما ذكرنا- لإشاعة أن طُغْتِكِين هو الذي قتله؛ وذلك ليدفع التهمة عن نفسه أولاً، وليتخلَّص من طُغْتِكِين ثانيًا؛ ولقد أحدثت كلمته أثرًا في كثيرٍ من الناس، بل تأثَّر بذلك السلطان محمد الذي حمَّل طُغْتِكِين مسئولية مقتل مودود، وخاصةً أن مسئولية الحماية الأمنية لمودود داخل دمشق تقع على عاتق أمير البلد طُغْتِكِين؛ ومن ثَمَّ شعر طُغْتِكِين أن الأرض تناقصت من حوله، وأن الأنصار له يقلُّون؛ ومن ثَمَّ ارتكب ذنبًا قبيحًا غير مقبول، وهو التحالف مع الصليبيين لكي يأمن شرَّ الجميع[7]!

لقد كان مفهومًا أن يعقد مع الصليبيين هدنة ليتجاوز فترة ضعفه، لكن أن يتحالف معهم، ويقف معهم في خندق واحد ضدَّ إخوانه المسلمين من السلاجقة، فهذا ما لا يُقبل لا شرعًا ولا عقلاً.

لكن من ناحية أخرى فإن هذا يُثبت أن طُغْتِكِين لم يكن مدبِّرًا لحادث مقتل مودود؛ لأنه قرَّر بعده مباشرة أن يتحالف مع الصليبيين ليحموه بعد فَقْد حماية مودود؛ فهذا يُؤَكِّد أنه ما كان ليُقدم على قَتْل حمايته بنفسه؛ خاصةً أنه استفزَّ الصليبيين قبل قدوم مودود، وذلك بالهجوم على بعض المناطق التي يحكمونها، وبنصرة مدينة صور ضدهم.

وهكذا فبموقف طُغْتِكِين الخاطئ خرجت مدينة دمشق العظيمة من معادلة الصراع، وحُيِّد جانبها إلى حدٍّ كبير؛ خاصةً أن أمورها الداخلية لم تكن مستقرَّة قط؛ وذلك لسيطرة الشيعة الباطنية الإسماعيلية على كثير من الأمور فيها.

الوقفة الخامسة: مع إمارة حلب.
مات رضوان الخبيث في سنة (507هـ= 1113م)، وتولَّى من بعده ابنه الشاب ألب أرسلان -المسمَّى على اسم جَدِّه العظيم ألب أرسلان- لكنه لم يكن يُشبِه جَدَّه لا من قريب ولا من بعيد، بل كان متهوِّرًا كأبيه، قليل العقل والدين، فبدأ حكمه بقتل أخويه ملكشاه ومباركشاه؛ لكي يستقرَّ له الأمر[8]! ثم إنه كان ضعيفًا جبانًا؛ فبدأ عهده بالتأكيد على دفع الجزية لروجر الأنطاكي ليضمن حمايته، ويأمن شرَّه[9].

لكن حدث في بداية عهده أمرٌ يُثبت أن الخير ما زال موجودًا في أهل حلب؛ حيث قام الحلبيون بثورة على الباطنيَّة الذين كانوا قد بلغوا شأنًا عظيمًا في عهد رضوان، فقتل الشعبُ قائدَ الباطنية أبا طاهر الصائغ، ثم انطلقوا على عموم الباطنية بالقتل والحبس؛ ومن ثَمَّ أسرع بقية الباطنية بالفرار من حلب[10]، وعلى الرغم من تمرُّسهم على الجريمة فإنهم خشوا من هذا الشعب العجيب الذي لم تمُتْ فيه النخوة، ولم يهجر السُّنَّة، حتى بعد حكمه عشرين سنة حكمًا يغلب عليه تمامًا التوجُّه الشيعي الإسماعيلي، ولعلَّ هذا الحدث كان من الأمور التي مهَّدت إلى تحسين طبيعة الشعب في حلب في السنوات القادمة؛ مما سيكون له أثر كبير في حركة الجهاد.

ولكن من الجدير بالذكر -أيضًا- أن ألب أرسلان هذا لم يستمتع كثيرًا بحكمه؛ فقد قتله أتابكه بدر الدين لؤلؤ، ووضع على كرسيِّ الحكم أخاه الصغير سلطان شاه، وكان يبلغ من العمر ست سنوات فقط؛ ومن ثَمَّ أصبح بدر الدين لؤلؤ الحاكم الفعليَّ لإمارة حلب[11]، وهذا -لا شكَّ- أضعف موقفها أكثر وأكثر، وكلُّ هذا سيكون له أثرٌ في الأحداث القادمة.

وفي المقال القادم نستكم بإذن الله الوقفات المتبقية.

[1] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 9/153.
[2] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 9/236.
[3] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 9/153، 154.
[4] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 9/161.
[5] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 9/158.
[6] انظر: ابن الأثير: الكامل في التاريخ 9/159، وأسامة بن منقذ: الاعتبار ص20، Guillaumde de Tyr, p. 489.
[7] Grousset: Hist. des Croisades 1, pp. 276-277.
[8] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 9/151، وابن العديم: زبدة الحلب 2/167.
[9] ابن العديم: زبدة الحلب 2/169.
[10] ابن العديم: زبدة الحلب 2/168، 169.
[11] ابن العديم: زبدة الحلب 2/172، 173، وابن القلانسي: ذيل تاريخ دمشق ص190.



د. راغب السرجاني