التاريخ من طبيعته أن يصعد بأمة إلى أعلى الدرجات ثم يهوي بها إلى أسفل سافلين.. {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}[آل عمران: 140]، صعد التتار ثم هبطوا، وهبط المسلمون ثم صعدوا، وسيكون بعد الصعود هبوط، وسيكون بعد الهبوط صعود... وهكذا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

وإنما نعرض التاريخ لا لمشاهدة الصعود والهبوط فقط.. ولكن لدراسة الأسباب التي أدّت إلى رفعة قوم وإلى ذلّة آخرين.. والتاريخ يتكرر بصورة عجيبة.. ومن قرأ التاريخ أضاف إلى خبراته خبرات السنين، وخبرات الأمم، وخبرات الزمان والمكان.

معادلة النصر والهزيمة:
وهناك سؤالان قد يخطران على بال المحلل للأحداث، والمتدبر في مجريات الأمور.

- السؤال الأول هو: كيف سُلّط جيش التتار الفاسد المفسد على أمة الإسلام فترة من الزمان (أربعين سنة تقريبًا) وهي خير منه مهما خالفت المنهج، ومهما قصّرت في واجباتها؟!

- السؤال الثاني هو: جيش التتار الذي انتصر على المسلمين في كل المواقع السابقة هو نفس جيش التتار الذي هُزم في عين جالوت.. لماذا انتصر في السابق؟ وما الذي حدث حتى يهلك الجيش بكامله بهذه الصورة العجيبة؟!

والإجابة على السؤالين نجدها في جزء من خطاب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه الصحابي العظيم الملهم، وكان قد أرسل خطابًا إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه الذي كان يقود الجيوش الإسلامية المتجهة لحرب الفرس في موقعة القادسية.

يقول الصحابي الحكيم عمر رضي الله عنه يخاطب سعدًا رضي الله عنه:
«فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو، وأقوى المكيدة في الحرب، وآمرك ومن معك أن تكون أشد احتراسًا من المعاصي منكم من عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم، وإنما يُنصر المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوَّة، لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عدتنا كعدتهم، فإن استوينا في المعصية، كان لهم الفضل علينا في القوَّة، وإلا نُنصرْ عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا.. فاعلموا أن عليكم في سيركم حفظة من الله، يعلمون ما تفعلون، فاستحيوا منهم، ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله، ولا تقولوا إن عدّونا شر منا، فلن يُسلَّط علينا، فرب قوم سُلِّط عليهم مَن هو شر منهم، كما سُلّط على بني إسرائيل لما عملوا بمساخط الله كفارُ المجوس، فجاسوا خلال الديار، وكان وعدًا مفعولاً..» [1].

هذا جزء من رسالة الفاروق عمر رضي الله عنه، والتي تُعد من أنفس ما قال، ومن أعظم الرسائل على وجه الأرض.. والرسالة طويلة.. ودراستها في غاية الأهمية لبناء الأمة.

في هذا الجزء الذي ذكرناه يتضح لنا أن الله عز وجل أحيانًا يسلط الكفار والمفسدين على المسلمين إذا عمل المسلمون بمعاصي الله، فإذا التزم المسلمون بتقوى الله عز وجل وساروا على منهج ربهم ومنهج رسوله صلى الله عليه وسلم انتصروا على الجيوش التي طالما انتصرت عليهم.

هذا وحده إذن هو التفسير الشرعي للانتصار والهزيمة في الإسلام.. ينتصر المسلمون بارتباطهم بربهم، ويُهزمون ببُعدهم عن الشرع.. والله عز وجل لا يظلم الناس شيئًا، ولكن الناس أنفسهم يظلمون.

[1] شمس الدين الغرناطي: دائع السلك في طبائع الملك 2/62.

د. راغب السرجاني