رأها في بلد اوربي. جاءت مع عائلتها وتركت في مدينتها حبيباً . لم يحصل منها على غير الشكوى . قالت انها وحيدة ، وحيدة على نحو بدأت تفقد فيها صوابها . اشارت الى ان شعورها بالوحدة يتمم شعورها بالغربة ، الغربة في المكان ، وفي اللغة التي لا تستطيع ان تجيدها بسبب صعوبتها ، وفي العلاقات الانسانية ، فالناس في المدينة التي تعيش فيها متحفظون ، صحيح انهم مهذبون وغير عدائيين الا انهم لا يبالون .
لم تعد تخطر في ذهنها اي فكرة ايجابية . لم تعد تمتلك غير ذاكرتها ، فكأنها بلا مستقبل ، بل بلا حاضر ، لأنها لا تشعر انها تعيش الحياة بل تعيش كابوسا ثقيلا .
انها لم تعد تشعر بأنها انسانة بل هي شيء منغلق لا تعلم منه شيئا ، حتى ماضيها ، وهو الذي عاشته ، أو تعتقد انها عاشته ، نظرا لانها تشتاق اليه ، وتعرف في داخلها انه الجزء الذي تعرفه، يبدو الان غائما ، شبحيا ، فكأنها بدأت تفقد حتى ماضيها .
تعب ، تعب ، تعب : هكذا راحت تردد .
وبالفعل بدت لي انها تعاني من ارق شديد نظرا لهالتين سوداوتين تحيط بعينيها .
لقد احتاجت ان تكلمني عن نفسها كمدخل لكي تسألني : وماذا تفعل انت؟ هل تعاني من الغربة؟ هل تحب الحياة؟ هل تستحق الحياة ان تعاش في الوحدة والالم والغربة؟
لا احب ان اكون ناصح. لا امتلك من التجربة ما يجعلني كذلك . والحقيقة أن ما تعانيه هذه الاخت اعانيه في الحقيقة ، الا انني اقاوم ، اقاوم بالتعليم ، والانتباه الى معالم ومناظر اجتماعية وجغرافية غريبة على ثقافتي الا انها تبدو مثيرة ، تستدعيني الى ان اتأملها واعرفها. تأتيني لحظات صعبة اشعر فيها انني مقتلع . بلا جذور ، حزين ، بلا امل ، بلا مستقبل. ولاني اعتدت ان اقاوم, انظر واشعر ان لي امتداد هنا .. كلما امر بصعوبة في التكيف ، كلما تملؤني مرارة الحياة، اتذكر والدي الذي وصل الى عمر الشيخوخة وظل يمارس الاستماع الى الموسيقى ويقرأ ويواصل تعليمه الروحي. اتخيله الان وانا اعرض عليه قضية ان يكون للمرء جذرا . سيضحك ويقول لي ان بعض الناس يعيشون بروعة وهم بلا جذور ، ومع ذلك اذا كان عليك ان تشعر ان لك جذرا فعليك ان تعرف ان تصنعه انت ، فالجذر ليس معطى بالمجان، انه ليس مجرد فكرة جميلة ، بل هو عمل وكفاح وصبر وتعليم ، انه تدريب على ان يكون المرء حرا ومستقلا.
ربما انا صغير على مثل هذه الافكار الخاصة بالارادة . لكني اعلم علم اليقين حتى وانا في حالة مزرية من الشعور بالوحدة واللاجدوى أن لا يوجد مخرج آخر في الحقيقة ، لا يوجد غير ان نواصل تعليمنا الاساسي والروحي . ان نصنع الانسان الذي في داخلنا، بالرغم من الالم والغربة .هذا ما اخبرت به صديقتي تلك وانا اهم بركوب القطار لكي ارجع الى المدينة التي اعيش فيها في غربتي .... .