اتخذت المملكة العربية السعودية في مطلع هذا الشهر، قرارًا بالاعتماد على التقويم الميلادي بدلًا من التقويم الهجري، فيما يتعلق بالمعاملات وصرف الرواتب والبدلات للموظفين، ويأتي هذا تطبيقًا لقرار أصدره مجلس الوزراء السعودي بهذا الخصوص. ربما يكون أول ما يأتي لذهن البعض حين يسمع الخبر للوهلة الأولى، هو تخلي المملكة عن مظهر أساسي من مظاهر تمسكها بهويتها الإسلامية، وهي المظاهر التي حافظت عليها منذ نشأتها، وأن هذا قد ينذر بتخلي المملكة عن بعض تقاليدها العريقة، في الحفاظ على تلك المظاهر. لكن الأمر لا يتعلق بذلك في الواقع، بقدر ما يتعلق بخطة التقشف الاقتصادية التي بدأت المملكة في انتهاجها بالفترة الأخيرة.
ما العلاقة بين التقويم الميلادي والتقشف؟
يخبرنا المحللون الاقتصاديون، أن الاعتماد على التقويم الميلادي، سينال بكل تأكيد من رواتب السعوديين، بعد أن يطبق النظام، ويحصل كل موظف في المملكة على رواتبه في الـ25 من كل شهر ميلادي، بدلًا من النظام السابق القاضي بحصوله على راتبه كل خمسة وعشرين يومًا من الشهر الهجري.
بحسب الإحصاءات والأرقام، فإن صرف رواتب موظفي الدولة وفقًا للتقويم الميلادي بدلًا من الهجري، سيوفر على الدولة مبلغًا قد يصل إلى أربعة مليارات من الدولارت، وذلك بسبب أن السنة الهجرية تزيد بحوالي 11 يومًا عن السنة الميلادية، ما يعني أن الموظفين في القطاع الحكومي، سيتقاضون نفس الرواتب، لكن تلك الرواتب ستكون محتسبة على عدد أيام عمل أكثر. وبتطبيق ذلك على نفقات الدولة من الرواتب، خلال العام المنصرم، والتي بلغت 128 مليار دولار، فإن نسبة التوفير ستبلغ ما قدره 3.1% من تلك النفقات.
ويناهز عدد السكان الذين يعملون في القطاع العام بالمملكة، ضعف عدد نظرائهم العاملين في القطاع الخاص، وقد اعتاد هؤلاء طيلة العقود الماضية، على أن من يعمل في القطاع العام يحظى بمزايا إضافية دائمًا، متمثلة في عدد ساعات عمل أقل وأجازات أطول.
وتشير أرقام المحللين والخبراء الاقتصاديين، إلى أن رواتب من يعملون في القطاع الحكومي تستولي على ما نسبته 50% من ميزانية الدولة، وتقدر البدلات التي يحصلون عليها بما يناهز 30% من دخل المواطنين العاملين في القطاع الحكومي.
وفي عام 2015، وصل إجمالي الرواتب في المملكة ما قيمته أكثر من 322 مليار ريال، وهو ما يعني الارتفاع عن قيمته في عام 2014 بنسبة قدرها 3%. علمًا بأن البدلات قد شكلت 25% من إجمالي تلك الرواتب، وفي نفس العام شكلت تلك الرواتب نسبة مرتفعة جدًا من إجمالي إيرادات الحكومة، بسبب تراجع أسعار النفط، وهو ما جعل نسبة الرواتب إلى الإيرادات الحكومية، تبلغ 52%، في حين كانت النسبة في عام 2014، 30% فقط.
وقد جاء هذا القرار بالاعتماد على التقويم الميلادي، ضمن سلسلة قرارات تقشفية أخرى، مرتبطة بالمزايا الوظيفية والمالية والعلاوات والمكافآت، وقد تضمنت تلك القرارات منع منح العلاوة السنوية المعتادة، للعام الهجري 1438، ومنع منح أية زيادة مالية عند تمديد العقود أو تجديدها أو استمرارها، أو حتى عند إعادة التعاقد، وتضمنت أيضًا تعديل وإلغاء المكافآت والبدلات والمزايا المالية، بالإضافة إلى تجميد وإيقاف التعاقد على أية وظائف أو بنود أو برامج شاغرة، في كل السلالم الوظيفية، حتى نهاية العام المالي، وإيقاف التعاقد مع غير السعوديين، أو تمديد عقودهم أو تجديدها، فيما يتعلق بما هو خارج عن النشاط الأساسي، حتى نهاية العام المالي الحالي أيضًا.
يأتي هذا كله بعد قرار العاهل السعودي، الملك سلمان بن عبد العزيز، الذي صدر الأسبوع الماضي، وقد قضى هذا القرار الملكي بتخفيض رواتب ومزايا الوزراء، بنسبة قدرها 20%، وأعضاء مجلس الشورى بنسبة قدرها 15%، وتخفيض مكافآت العاملين في القطاع الحكومي، والذين يبلغ عددهم مليونين و250 ألف موظف. بالإضافة إلى القرارات السابقة المتعلقة بتقليص نسبة الدعم لأسعار الكهرباء والبنزين، ويأتي هذا كله في إطار الخطة الاقتصادية للمملكة لتخفيض النفقات.
دوافع المملكة نحو التقشف
دفع تراجع أسعار النفط منذ منتصف عام 2014، المملكة العربية السعودية، إلى سلسلة من الإجراءات، للحد من تأثير ذلك على حالتها المالية، وقد أعلنت المملكة في أبريل (نيسان) 2016 المنصرم، خطة اقتصادية أطلق عليها بعض المحللين لقب الخطة الاقتصادية الطموحة، للحد من تلك الأخطار، وأعطتها اسم »رؤية السعودية 2030«، وتهدف تلك الخطة بالأساس إلى تنويع مصادر الدخل، في ظل هذا التراجع النفطي.
وفي الواقع، تواجه السعودية تحديات كبيرة للغاية، بسبب اعتماد ميزانيتها لعقود على عائدات النفط بشكل رئيسي، وقد سجل هبوط أسعار النفط منذ منتصف 2015، نسبة بلغت حوالي 70%، وقد أعلنت المملكة عن موازنتها لعام 2016، وقد بلغت نسبة العجز بها 326.2 مليار ريال، وهو ما يعادل 87 مليار دولار، وقد يرتفع العجز، بحسب التوقعات، إلى 400 مليار ريال في نهاية العام الحالي.
وتهدف الخطة فيما تهدف إليه، إلى تعزيز دور القطاع الخاص وزيادة حجمه، وعلى الجانب الآخر خفض تكلفة رواتب القطاع العام إلى 40% من موزانة المملكة، بحلول عام 2020، بدلًا من النسبة الحالية التي تصل إلى 45%.
فوائد أخرى تنتظرها المملكة من التقويم الميلادي
يرى بعض المحللين الاقتصاديين، أن أثر اعتماد التقويم الميلادي، لن يتعلق فقط بالرواتب، وإنما سيحقق فائدة أكبر متعلقة بالانفتاح على أنظمة الاقتصاد والعمل في بقية أنحاء العالم، وهو ما يجعل من التقويم الميلادي محققًا لفوائد كبيرة على المدى البعيد.
ويرى هؤلاء المحللون، أن اختلاف التواريخ في التعاملات، أثناء الاتصال والتعامل مع الاقتصادات الخارجية، كان يسبب دائمًا الكثير من الإرباك والخلط، وأنه يسبب العرقلة فيما يتعلق ببعض الإصلاحات، وأن اعتماد التقويم الميلادي سينهي تلك الازدواجية، وسيسهل خطط المملكة نحو الانفتاح الاقتصادي على العالم.
www.al-mawqif.com