لمتنا يوم بعد يوم تصبح احلى
لمتنا يوم بعد يوم تصبح احلى
الحلقة الرابعة
حسناً كنا قد انتهينا من سياق النص الواحد وبهذا ختمنا حديثنا عن مفهوم السياق ، والآن نتناول ماذا يقول النص ؟ وكيف ؟ ثم نتبع حديثنا هذا بالحديث عن ( الفراغات النصية ) .
إن النص الأدبي خلافاً لغيره من النصوص لا يقدم استفهاماته وأجوبته بشكل جاهز كمعرفة أو فرضية لا تحتمل أوجهاً أخرى ، بل إنه ليقدم على طرح جملة من الاستفهامات حتى في غير أسلوب الاستفهام المعهود لغوياً عبر أدوات الاستفهام وأساليبه ، إنه ـ النص ـ يزعزع ثقة القارئ بمسبقاته التي يعتد بها ويقدم على مداخلة القارئ ومحاورته من خلال فعل القراءة ، وبهذا يمكننا القول بأن القارئ شريك النص في ما يطرحه عبر فعالية القراءة التي تستبطن في أبسط مستوياتها حواراً وجدلاً واسعين حيزهما القراءة نفسها ، وبعبارة بسيطة فإن النص يقدم آراءه أو وجهة نظره بشكل التفافي ، ويمكن القول بأنه يقدم استفهاماته وقد يتبنى أحياناً بعض الأجوبة إلا أنه وبشكل ذكي لا يشعر القارئ بسلطته في هذا الجانب ، بمعنى أنه يخاتل القارئ ليتمكن من فرض وجهة نظره عليه حتى يتبناها القارئ ، ألا تشعر أحياناً بمدٍّ عاطفي عارم قد يجعلك تبكي وتتعاطف مع الشخصية أو الحدث في النص ولكنك بمجرد أن تتجاوز تلك الحالة العاطفية وتركن للجانب العقلائي في تفكيرك حتى ترفض ـ منطقياً ـ ما فعلته الشخصية أو الحدث عموماً ، كما لو رفضت ما قام به البطل ولم توافق على مبرراته ، ولكنك في النهاية وبشكل عام تتعاطف مع البطل وتود لو كان بإمكانك مساعدته ، هذا ما يمكن أن نقدم مثالاً عليه من خلال شخصية ( مدام بوفاري ) في الرواية التي تحمل اسمها ، أو في مسلسل ( بنات العيله ) الذي يعرض حالياً على قناة mbc دراما من خلال شخصية ( هبة ) التي تعاني إهمال زوجها فتلجأ إلى علاقة مع جارها الرسام ، إذ يجد التعاطف مع هذه الشخصيتين طريقه إلى قلوب المتلقين ويسود التأثر العاطفي الوقت الذي تشغله عملية التلقي ، ولكن حين يضعف التأثير العاطفي بنهاية عملية التلقي نرفض المبررات التي قامت عليها تلك العلاقة .
عموماً وأياً كان ما يقدمه النص فإنه يحسن تقديمه وبشكل غير مباشر ، لأن من اشتراطات النص الأدبي الإبداعي أن لا يقدم شيئاً بشكل مجاني أو مباشر أو ساذج ، لأن الحبكة القصصية وسمة الشعرية تجعلان من النص الأدبي عموماً على جانب من التعقيد والغموض والالتواء على المباشرات السطحية ، وهنا تكمن نقطة جوهرية في الممارسة القرائية ، فما مادام النص لا يعتمد المباشرة والسطحية والبساطة لا يمكن إذا قراءته بمباشرة وسطحية وبساطة ، لأنه وببساطة سيكون خارج مديات القارئ تلك لأنه مكتوب بطريقة أخرى ، وبمعنى آخر فإن للنص نظام تشفيري خاص سماته هي ما أوضحناها من التعقيد وإذا كانت القراءة بسيطة وسطحية فلن تتمكن من فك شفرات النص ، ومثل تلك القراءة ستمر على سطح النص فحسب دون أن تمس البنية العميقة له ، تلك البنية التي سنتحدث عنها ربما في وقت متأخر من هذا المشروع ، وهكذا يبدو أننا كقراء مطالبون بفك شفرات النص والولوج لبنيته العميقة لذلك وصفنا القراءة في موضع سابق بأنها معايشة للنص .
ولكن كيف يقدم النص مادته ؟ وبعبارة أخرى .. كيف يقول النص ؟ والحق أن الإجابة عن هذا السؤال استغرق حياة نقاد بالكامل ولا زال موضع جدل ونقاش ، إذ ليس من البساطة الإلمام بهذه الكيفية ، ولكننا هنا يمكننا الإجابة على قدر هام من هذا السؤال عبر تحقيق تصور موصوف بصفة التنامي ، بمعنى أننا هنا سنضع تصوراً تستطيعون أن تجعلوه متنامياً في أذهانكم من خلال قدراتكم على التساؤل والإجابة وتطوير هذا التصور ، عموماً ، يمكننا القول بأن النص يعتمد على الأسلوب في ذلك وطرق تعاضد الأسلوب مخصوصة في الجانب التركيبي يطول شرحها وتبسيطها هنا ، وسأتخذ من بعض المفاهيم طريقاً لفهم ما نحن بصدده ، هل خطر في ذهنك عزيزي القارئ وأنت تقرأ القرآن الكريم مثلاً التساؤل ( لمَ قالت الآية القرآنية كذا ولم تقل كذا ؟ ) كما في التساؤل عن قوله تعالى (( مثله كمثل الذي استوقد ناراً ...... )) لتتساءل ( لم قال (( استوقد )) ولم يقل (( أوقد )) لتكتشف بعدها الغاية البلاغية لصيغة ( استفعل = استوقد ) هذا ما ندعوه نحن بـــ ( محور الاستبدال ) وهو من ( المحاور العمودية ) أي أن لكل لفظ يرد في النص بديلاً أو مرادف لغوي كما نعبر عنه ، فلماذا استخدم النص هذه المفردة ولم يستخدم الأخرى أو الأخرى ..... وهكذا حتى آخر مرادفة من المرادفات .. وهل أفلح النص في استخدامه أم لا ؟ وما هي الصلة التي تحققت بين جزء وآخر في النص من خلال هذا الاستخدام مما يقوي الروابط النصية ، ولو استخدم النص كلمة أخرى مرادفة هل كانت تلك العلاقة لتتحقق بين جزء وآخر ؟ أم لا ؟ .
إن هذه التساؤلات هي التي تعطينا تصوراً عن ( كيف يقول النص ؟ ) هكذا وبطرق وأدوات اخرى يتحرك النص في كيفية القول ، وبالإضافة لذلك فإن الجزء الإبداعي في موضوع الكتابة يكمن في الاختلاف لا المشاكلة ، بمعنى أنك حين تقرأ نصاً يشبه كثيراً النصوص الأخرى التي سبق وقرأتها فما هي القيمة ؟ أي أنك لا تحس بقيمته أو أنك لا يمكن أن تصفه بالإبداعية ، ذلك أن الإبداع يحتمل في أحد معانيه التجديد ، ويمكنك أن تصف ما قدمنا مثالاً بأنه جميل لكن لا يمكنك أن تصفه بأنه مبدع ، إن ما يميزنا نحن البشر عن غيرنا من بني جنسنا هو الاختلاف لا التشابه ، وكذلك النصوص الأدبية المميزة ، فإن ما يميزها هو اختلافها عن بقية النصوص لا تشابهها ، والاختلاف هنا يتحقق بمغايرة الأسلوب بل بشكل دقيق بكيفية القول ، وهو ما يجعلنا نصدم بقراءة نص ما ، وأستعير من الجرجاني مثالاً وهو قوله تعالى (( واشتعل الرأس شيباً )) فالجرجاني يرى بأن ما جعل هذا القول القرآني يصدم القارئ هي عدة عوامل منها التقديم والتأخير ، فلو قال ( واشتعل شيب الرأس ) لما أوقع في النفس ذلك الأثر الذي يوقعه القول القرآني ، هنا يكمن السر ، إنه في : كيف قال النص ، لا : ما قال النص ، مع أن المعنى موجود في كلا القولين ، حسناً لعلنا تمكنا من تحقيق تصور عن كيفية القول ، إن تلك الكيفية تتحكم فيها عوامل معقدة ومتداخلة تعتمد على كل ممكنات الإبداع ، وهو ما نعبر عنه ببساطة بأنه ( صادم ) ، هنا سنتوقف في ( كيف يقول النص ؟ ) تجنباً لحدوث الاختلاط والتشعب والتعقيد ، وهذا التصور الذي تحقق لديكم أحبتي سيفي بغرضنا هنا .
نأتي الآن لمفهوم ( الفراغات النصية ) وهو مفهوم له الكثير من الأسماء تبعاً لاختلاف الترجمة ، عموماً هذا الاختلاف ليس من شأننا ، وما يهمنا هنا هو بيان هذا المفهوم المأخوذ من ( نظرية التلقي ) ، إن النص يشتمل على نوعين من المناطق :
1 ـ المناطق التي قال النص فيها قولته ولم يدع مجالاً للقارئ كي يقوم بملئها ، مثل :( أكل الصبي ) هنا لا نجد مجالاً للقارئ في حدود قول النص ، إذ الجملة جملة إخبارية لا تحتمل جانباً غامضاً معيناً حتى يشرع القارئ في تأويله .
2 ـ المناطق التي صمت فيها النص ولم يقل قولته ، وترك للقارئ فيها مجالاً واسعاً كي يقوم بملئها ، مثل : ( في عينك الأخرى مسافة رجعةٍ أخرى ) ، إذ أن هذا القول الشعري يبدو غامضاً يحتاج لتأويل سيباشره القارئ خلال قراءته .
إن النوعين السابقين هما من يجعل من النص الأدبي نصاً ، فدون النوع الأول سيصير كل نص عبارة عن تهويمات لا يمكن الإقرار بمشروعية أدبيتها ، تصوروا معي نص شعري مثلاً كله منذ بدايته حتى نهايته على شاكلة النوع الثاني ، هنا لا يمكن للفعالية القرائية أو التأويلية أن تستند إلى منطقة قول نصي تعينها في تحديد أساسيات القصد النصي ، وعلى النوع الثاني ترتكز مهمة الشعرية في النص الأدبي ، فدون هذا النوع من المناطق لا يمكن للنص أن يكون أدبياً ، سيكون نصاً علمياً أو معرفياً لكنه لن يكون أدبياً أبداً ، ومع أنني أرى بأن مثالنا الأول عن النوع الأول قابل للتأويل وفيه مجال واسع لحركة القارئ عبر التساؤلات ( ماذا أكل ؟ كيف أكل ؟ بملعقة ؟ بشوكة ؟ بيديه ؟ على منضدة ؟ على الأرض ؟ ما هي نوع وشكل الأواني ؟ ما عمر الصبي ؟ ما لون بشرته ؟ ما هي مواصفاته الشكلية ؟ ........ ) وهي كما ترون أعزائي منطقة شاسعة للتحرك تمكن القارئ من دور فاعل ومهم ، إلا أنها مع ذلك تبقى مناطق صريحة لا يمكن تجاوز حقيقة ما أخبرت به جملتها الخبرية ( أكل الصبي ) في حين لا يمكن القطع بحقيقة ما أخبرت به جملة المثال الثاني ( في عينك الأخرى مسافة رجعةٍ أخرى ) فلا يمكن القول بشكل قاطع أن المعني من العين هي العين ولا من المسافة هي المسافة ولا من الرجعة هي الرجعة ، إذ تبقى الجملة رهن التأويل وفاعل التأويل هو القارئ ، هو أنت عزيزي لا غيرك .
ومما تقدم وجب عليك عزيزي القارئ وأنت تقرأ التعرف على نوعي المناطق التي تتواجد في النص ويشتمل عليها ، ودون تلك الدراية ستعامل جمل النص معاملة واحدة ، وستتخبط في تعيين الدلالة ومركز الجهد الدلالي ومناطق التخاطب والتواصل النصي بينك وبين النص ، ولا يفوتني هنا بيان أهمية النوعين ، إذ تتركز مهمة النوع الأول على إيجاد منطقة التواصل الأولية بينك وبين النص ، في حين تتركز مهمة النوع الثاني على استدامة بعث توترك أمام النص ، إنه التوتر الذي يجعلك يقظاً أمام تهديد لذاتك يتمثل في النص الذي يباشر مداهمتك ويختلط معك في تجربة معايشة بين الذات والآخر .. بينك وبين النص .
ملاحظة هامة /
في الحقيقة كانت لدي ملاحظة من نقطتين .. نسيت أولاهما وأنا أكتب ههههههه .. سآمل لو عادت لذاكرتي لأدونها لأنها ضرورية .. أما النقطة الثانية فهي : لابد أنك لاحظت عزيز القارئ أنني في كل ما تحدثت بته هنا كنت أقول ( قصد النص ) وما يوازيها في المعنى .. لأننا كقراء لا نعنى بقصد المؤلف إطلاقاً .. وأكررها لا يعنينا قصد المؤلف بأية حال من الأحوال ، لأننا لو عنينا بقصد المؤلف لكنا نبحث عن المعنى .. والبحث عن المعنى قتل للنص وإجهاض لإنتاج الدلالة ، إذ يبقى المعنى الذي قصده الكاتب واحد ، وبإصابته لن يبقى للنص أي داع من دواعي الاستمرار ، والأصح أننا نعنى بقصد النص لأنه متعدد ومتشعب وقابل لقراءة بعد أخرى ولقراءات مختلفة ومتعددة ، لأن قصد النص متعلق باللغة لا بكاتب النص .
أتمنى أن أكون وفيت بمادة هذه الحلقة على الوجه الأكمل الذي ابتغيته .. وسنتكلم في الحلقة المقبلة عن المنهج والنظرية ودورهما في ورشة القراءة . كل الود لكم
التعديل الأخير تم بواسطة شيفرة دافنشي ; 18/August/2012 الساعة 7:44 pm
رائع كما سبق ....متابعون بشغف
الأخت العزيزة ليديا .. بك حتماً وبوجودك البهي .. كل الود والتقدير
السيدة فيري .. شكراً للإطراء كما التقييم الثمين .. ممتن أيتها الحاتمية
مشكور استاذ عمار على جهودك المبذولة وعطائك الممنوح اسعدتنا بهذه الدورة المفيدة جزاك الله خير الجزاء
تحياتي وتقييمي
سيدي العزيز أستاذ مازن .. الشكر لك على تواصلك وتفاعلك .. كلي امتنان على كرم التقييم .. خالص الود لك
ساقنع نفسي اني حصل معنى قصدك قبل قصد نصك هههههههههههههه بالفعل كما ذكرت لك المتعة بورشتنا في تزايد بصحبتكم
نترقب المنهج والنظرية
ههههههههه .. شكراً لك ليديا .. ألف شكر .. سعيد لأنه يصل لكم بشكل أستطيع معه المواصلة .. ستزداد المتعة مع التطبيق .. وهو الجزء الثاني من المشروع .. لك خالص الود
شكرا اخ عمار للشرح الوافي والمفصل بالفعل استفدنا مما تكرمت به علينا من توضيح لالية القرائة النقدية والتعايش مع النص على اساس البيئة الدلالية والمعنوية الخاصة باللغة او اللهجة الام
دمت ودام عطاءك