الحلقة التاسعة
هنا نشرع في الجانب التطبيقي لمشروعنا ، وسنكشف عملياً كيف نقرأ منذ البداية ، منذ بداية اصطدامنا بالنص ، إن حدود هذا الجانب ـ التطبيق ـ مفتوحة ورحبة ، كما أنها تشتمل على مستويات وأشكال متعددة ، وسأحاول حسب ما في ذهني من خارطة مسيرنا في هذا الجانب توريطكم ـ بل توريطنا معاً ـ في ممارسة قرائية تطبيقية أعدكم أنها ستكون ممتعة جداً مضافاً لما تكتنزه من جوانب هامة في الفعل القرائي .
سبق وأقررنا أن القراءة رؤية متكاملة تتكون خلال فعل القراءة لا سابقة عليه ، ولعلكم تتذكرون مقولة (( النص يقترح قراءته )) و (( النقد تلفيق منظم )) ، كل هذا يقودنا لفهم استراتيجية القراءة ، وبعبارة أخرى ( كيف نقرأ عملياً ) ولعلنا بتتبع نماذج معينة وقراءتها هنا نحقق الهدف في وقوفكم على كيفية القراءة وتمكنكم من الفعل القرائي أخيراً ، وسأعمد إلى ما يمكن أن نطلق عليه ( مقطع قرائي ) وكأننا في علم الأحياء ، نأخذ مقطعاً عرضياً أو طولياً مثلاً ، إذن سنأخذ مقطعاً من قراءة كاملة لنصٍ أدبي الآن ، وقد يمثل هذا المقطع مستوى أو مرحلة أو جانباً من القراءة بوصفها المتكامل كمنجزٍ قام به قارئ بإزاء نصٍ أدبي ما ، ومن خلال هذا المقطع سنكون على موعد مع :
ــ التعرف الدقيق والمعمق على ما يحدث داخل القراءة وفي أخص خصوصياتها .
ــ مرحلة أو مستوى أو جانب ، واحد من القراءة ، وهو ما يحقق لنا الفهم الصحيح ويجنبنا الاشتباه والخلط .
ــ التمهيد للتعرف التطبيقي على حدوث ونجوز القراءة بوصفها التكاملي .
ــ فهم بعض أهم مفردات الفعل القرائي وجوانب وأجزاء النص المهمة ، كل ذلك الفهم يحدث عملياً كما لو تحدثنا عن ( عناصر الإجبار الركني ) أو ( قاعدة البياضات النصية ) وما إلى ذلك .. وستدركون حينها طبيعة وفاعلية ما نتحدث عنه بشكل عملي تطبيقي .
إذن فلنبدأ نماذجنا بــ ( مقطع قرائي ) لقصيدة ( رمل الأذىhttp://www.dorar-aliraq.net/threads/9869-%D8%B1%D9%85%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B0%D9%89 ) للشاعر المبدع ( سراج محمد ) :
وكقارئ أجد أن جملة ( أصبحت أثبتني به وأفند ) عنصر إجبار ركني ، ولديها القدرة على تحريك الفعل الشعري واستقطاب دلالات أخرى ، إذ إن من سمات الشعرية هو الخروج عن معيار المعقولية ونقض العلاقات المنطقية ، إنها جملة شعرية صادمة .. إذ كيف يمكن أن تكون قيمة ماهوية ما مثبتة نافية لقيمة مختصة تعرّف بــ ( الذات ) ، هنا تبرز الفاعلية بصورة لا يمكن تجاوزها ، ولكن السؤال الميكانيكي هنا ، من المسؤول عن تحديد هذه الجملة وإبرازها كعنصر إجبار ركني ؟ إنه القارئ والنص معاً ، فأنا كقارئ وجدت فيها عنصر إجبار ركني ، وقد تم ذلك من خلال خارطة النص ، أي من خلال عرض النص لقيمه الدلالية ، فلو اختلف تركيب النص مثلاً لاختلف معه كشفي ولكنت أمام جملة أو كلمة أخرى في النص أرى فيها محوراً للنص وعامل استقطاب دلالي ، حسناً فهمنا أنني كقارئ اخترت تلك الجملة على وفق ما قدمنا مما أسميناه بــ خارطة النص ، ولكن الحديث عن كون هذه الجملة وفاعليتها في النفي والإثبات لقيمة ماهوية كالذات من هو المسؤول عن صدوره وتقرير أهميته في قراءة النص ؟ إنها الرؤية ، الرؤية التي يختص بها القارئ ويمتلكها ويجابه بها أجزاء النص وكليته بعد إتمام القراءة الأولى للنص ، إذ تبدأ تلك الرؤية بالتشكل شيئاً فشيئاً خلال تعاقب مراحل القراءة مع كل جزء من أجزاء النص ، وإذا كانت الكتابة يمكن التعبير عنها بأنها رؤية فإن القراءة هي رؤية مجابهة ومتداخلة مع تلك الرؤية ، إذن لا قيمة للكشف القرائي الذي نباشره دون وجود رؤية قادرة على تحقيق وجود دلالة شاملة عن النص المقروء ، بل إنها ـ الرؤية ـ متداخلة مع ذلك الكشف .
وتبرز الدلالات التي تعضد رؤيتنا في محورية جملة ( أصبحت أثبتني به وأفند ) في عدة مواضع من النص وسننتقي منها هنا :
1 ـ عنونة النص ( رمل الأذى ) إذ نجد مفردة ( رمل ) حاضرة بقوة وفاعلية عالية .
2 ـ عتبة النص وفيها نقرأ : ( عمقاً على رمل الأذى أتمدد ) ، فمفردة ( رمل ) تحضر أيضاً .
3 ـ تبدأ أولى المفارقات النصية والعلاقة الضدية بين علاقات النص وعلاقات المنطق بعد العنونة والعتبة في : ( ورؤاي تقتلني وضدي أشهد ) ، وتسجيل أولى نقاط الافتراق والتعارض بين النص والعلاقة المنطقية مباشرة بعد العنونة والعتبة مجسدة فيهما مفردة ( الرمل ) وفاعليتها له من الدلالة ما سنكشف عنه لاحقاً .
4 ـ برزت مفردة ( مبهم ) و جملة ( أسميته عمري ) في الشطر اللاحق لشطر التعارض النصي / المنطقي ، وإنه لباعث على الاستفهام أيضاً أن يكون مفهوماً ما معدوماً بــ ( مبهم ) ، إذ تبرز دلالة الانعدام الوجودي اللحظي أو الآني بــ ( مبهم ) ثم تبرز دلالة الوجود بعده مباشرة بــ ( أسميته عمري ) ولعله يجسد قلقاً ذاتياً من الانعدام الكلي فيشرع لتشكلٍ ما على المستوى البسيط من حقيقة وتمثل هذا التشكل .
كل تلك الدلالات سبقت جملة ( أصبحت أثبتني به وأفند ) ، ثم تعقب هذه الجملة : ( كمهددٍ بالإنقضاء ألوذ بي ) ، كجملة أخرى معارضة للمنطق كما هو الحال في سابقتها ( ورؤاي تقتلني وضدي أشهد ) ...
وهنا آن لنا أن نتساءل .. أي معطيات النص له قابلية معارضة ذاته ؟ أن يكون ذاته وآخره المعارض له منطقياً بكل هذه الفداحة التي صرّح بها النص ؟ ومن له القدرة على أن يكون أقرب للعدم اللحظي أو الآني ـ أي في اللحظة هذه ـ لكنه يلوذ بنفسه .. بتسميته ، لينتشل نفسه من هذه اللحظة التي تحمل عدميته وتهدده بالانقضاء ، وله قابلية التشكل المتنوع ؟ ذلك أن علاقة الضدية للذات تحمل في توترها المتعاظم إمكانية كل التشكلات والتكونات ما دون ذلك التعارض الصارخ ، أليس الرمل هو ما نبحث عنه فعلاً ؟ ألا نرى تلك العدمية في جانب القيمة في إرثنا الثقافي ؟ ألا يكفي أن نستشهد بقوله تعالى (( ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً )) في مستوى الدلالة الظاهرية لنتيقن مما نشير إليه ؟ إنه الرمل مع كل ما يحمله من قدرة التشكل بكل ما يكتنزه بين العدم اللحظي الآني وبين تشكل آخر ، وتظهر محورية الرمل من خلال ما قدمناه من تموضعاته الصريحة في النص في العنونة والعتبة وتمظهراته الخفية على طول النص ، وفي علاقات النفي والإثبات في جملة ( أصبحت أثبتني به وأفند ) وكل ما كشفنا عنه من جمل المعارضة بين النصي والمنطقي .. بين نفي الذات وإثباتها .
ـــــ توقف .. ماذا حدث حتى الآن ؟
سنتوقف الآن لنرى ماذا أحدثنا في قراءتنا المقطعية لنتعلم :
1 ـ صدمتُ كقارئ بجملة ( أصبحت أثبتني به وأفند ) وتوقفتُ عند المفارقة المنطقية مستفهماً .
2 ـ حفزتْ هذه الصدمة تشكّل رؤية أولية قادت للكشوفات اللاحقة .
3 ـ بحثتُ عن دلالات تعضد رؤيتي فاكتشفت عدة دلالات .
4 ـ قادت تلك الدلالات للكشف عن محورية الرمل ، وهنا حدثت نقلة في الكشف الدلالي إذ برز الرمل كمحور دلالي .
5 ـ إن كل الدلالات والكشوفات نمّتْ وأنضجتْ الرؤية لتكون رؤية متكاملة متجهة للشمول .
وعليه فقد تواشجت عناصر ومراحل القراءة التي عرضنا لتشكل الرؤية وتشكلها الرؤية قبلاً بمعنى التأثر والتأثير داخل وأثناء فعل القراءة ، كما نلاحظ بخصوص الرؤية التي تبنيناها أنها استندت إلى علاقة النفي والإثبات ، كما لابد من الإشارة إلى ملاحظة هامة جداً وهي ، أننا لم نستنفد كل إجراءاتنا القرائية في هذا الجزء من القراءة والذي أسميناه بــ ( المقطع القرائي ) بل اقتصرنا على بعض تلك الإجراءات وهناك الكثير الكثير مما يمكن تحقيقه دلالياً لو استعنا بالمزيد من تلك الإجراءات .
هنا نتوقف عند هذه النقطة من حلقتنا هذه مؤكدين على ما أشرنا إليه في البداية من أن ما قدمناه في هذه الحلقة من قراءة لقصيدة ( رمل الأذى ) إنما يمثل جزء من قراءة كلية للنص وجانباً من جوانبها .. إلى موعد آخر أستودعكم الله .. والشكر لكم على حسن الإصغاء .
إشارة هامة /
أرجو من كل واحد منكم أعزائي أن يثبت لي هنا أسماء ( 5 ) من الأعمال الأدبية المشهورة التي قرأها بالكامل .. سواء أكانت روايات أم نصوص شعرية . كما أرجو منكم أن تراجعوا ما أسلفنا في حلقاتنا الماضية لأني سأختار لكم بعض النماذج لتباشروا جهدكم القرائي بإزائها وكما تعلمنا من الحلقات الماضية .. كل الود
التعديل الأخير تم بواسطة شيفرة دافنشي ; 7/October/2012 الساعة 11:43 pm
طرح راقي ...لكن لون النص بالحلقة يعمي العيون
جهد متميز وقيم لن استطع قراءة الحلقات جميعا قراة الحلقة الاولى ولي عودة ان شاء الله اخي العزيز
وجد فيها مايسهل فهمة ويمكن قارءه من الاستعانه به لفهم مايقرا لك مني كل الود والتقدير لما بذله شخصكم الكريم
لنشر العلم والمعلومة للجميع بوركت اخي وعسى ان لايكون الدرس الاخير فنحن نطمع بدروس اخرى نروي بها ظمأ
نفوسنا الى العلم دمت بخير
السلام عليكم حقيقة استاذ اردت ان اتحرر من اشاراتك لذا ذهبت الى ( رمل الاذى ) فقط بما املكه من معلومات بنيتها من الدروس التسعة الماضية لكن صدقا اعترف بخطئي لاني فقط ضيعت وقتي وتهت بين المفردات قبل المعاني ... لذا وجدتها بداية صعبة ربما لكن صدقا اكتشفت عمق آداء الاستاذ محمد سراج وسررت جدا لانك اجبرتنا ( اجبرتنا ... أجبرتنا هههههههههه) على ان نقرأ له ....فقط لو تفضلت وشرحت لي معنى ( حزني اردد ) ومن هنا سيكون لسان العرب رفيق باذن الله + ترقب مني استاذ رسالة خاصة بخصوص الورشة هههههههه مازلت ارغب بازعاجك لاستفادة اكبر لنا وللزوار نعود لما طلبت اممممممممم لا اذكر لمن اقرا لكني قرات قليلا للطاهر وطار و طبعا عبد الرحمن منيف وفي الشعر الياذة الجزائر لمفدي زكرياء امممم ان تذكرت ايضا ساعود لأسجله ... وأعتذر منك على التاخير في الرد وصدقني لم يكن اهمالا فمرة النت ومرة (سألف قلبك في دمي واسافر)
مشكور استاذ عمار على هذا الجهد المعطاء نحن ان شاء الله متفاعلين معك ونطمح منك المزيد
تحياتي وتقييمي