يهدف هذا الموضوع إلى التعريف بفعل القراءة في جانبه الإمكاني كناتج لفعل أو كسلوك ممكن الحدوث بإزاء نص معين وبعبارة أخرى فهو يهدف للتعريف بالجانب الإجرائي للقراءة ، ولعل غايتي من طرح هكذا موضوع تتضح في إبراز إمكان ( النقد للجميع ) مع إدراكي لمحورية القدرات الذهنية ودورها في استيعاب المنجز النقدي وإمكان الانتفاع خصوصاً ما لو تعلق الأمر بالقراءة التي نمارسها جميعاً .
أي أننا هنا سنتواصل جميعاً في التعرف على طبيعة ومراحل القراءة الاختصاصية ، وكيف يمكن نجوزها ، عسى أن ينتفع بذلك من له القدرة والموهبة في تحقيق القراءة التخصصية كقراءة يمكن القول عنها أنها نقدية أو قريبة من القراءة النقدية على أقل احتمال يحقق جانباً مرضياً لما سنستتبعه من جهد .
إنها دورة ـ لو جاز لنا التعبير ـ للقراءة التخصصية ، وربما يعارضني الكثير من ذوي الاختصاص في النقد لدواعٍ أعرفها جيداً ، ولكن مالضير من التجربة ، خصوصاً وأنا أحتمل حدوث المنفعة وبدرجة تفوق المتوقع .
أنا هنا أقوم بدور وعليكم أنتم أعزائي الدور الآخر ، دور المتابعة ، والمداخلة ، وما إلى ذلك من دور المتلقي ، آملاً أن تنال الفكرة اهتمامكم ، ولن أغفل الخروج قدر الإمكان من اللغة النقدية الصعبة والمعقدة والجنوح نحو أسلوب تعليمي مبسط ، وسأبدأ هنا في حلقتنا الأولى بالحديث عن القراءة عموماً وخصوصية اللغة .
حين نتحدث عن القراءة فنحن لا نعني بها بكل تأكيد ذلك الفعل الميكانيكي المستلزم لتتبع الحروف والكلمات وتحقيق النطق بها أو بروز جانبها التصوري داخل الذهن فحسب ، إنها ليست عملية آلية بلهاء ، إذ كل من له القدرة على القراءة البسيطة قادر على تحقيق القراءة بهذا المستوى دون الحاجة حتى لأن يفهم معاني ما يقرأ ، كما أنها ليست قراءة الشرح والتعليق ، أي القراءة التي تهدف لتفسير الكلمة بكلمة مرادفة وما إلى ذلك من فعاليات التفسير والشرح .
إن القراءة التي نعنيها هي المعايشة للنص ومداخلته بكل معنى المداخلة ، معيشة النص كتجربة شخصية ، وأقرب مثال يمكن أن نستند عليه في توضيح تلك المعايشة هو أننا حين نقرأ رواية أو نصاً شعرياً أو أي نص أدبي لا نخرج من تلك القراءة كما كنا سابقاً قبل قراءتنا له ، بمعنى أنه أثر في نفوسنا بشكل عميق جداً ، وهذا التأثير هو ناتج للمعايشة التي عنيناها ، ولولا المعايشة للنص لما أثر كل هذا التأثير فينا ، ولما كانت القراءة معايشة للنص فإنها لا بد أن تتوسل طرق تحقق المعايشة ، إذ لا يكفي التأثر الانطباعي البسيط في تحقق معايشتنا للنص ، فما هي العوامل التي تؤثر في تحقق تلك القراءة التي وصفناها بوصفنا السابق ؟
إن أول ما يمكن ملاحظته بهذا الصدد هو لغة النص ، فلكل لغة خصوصياتها وطرقها المتفردة في إنتاج الدلالة ، وحتماً أن اللغة العربية من بين تلك اللغات لها طابعها المميز لها والمتفرد في كثير من جوانبها عن اللغات الأخرى ، والمهم بيانه هنا هو أن طرق إنجاز الدلالة في اللغة الأنكليزية مثلاً تختلف عنها في العربية فلكل لغة أساليبها ، كما أن لكل لغة ثقافتها التي انطلقت منها ، وبيئتها الخاصة لا أقل من الأثر الجغرافي للبيئة فجملة عربية كـــ ( أثلجتَ صدري ) لن تقابلها في الفرنسية أو الإنكليزية دلالياً إلا ( أسخنت صدري ) ، وهكذا يمكنك أن تعلم كيف يمكن أن تكون آية قرآنية كــقوله تعالى (( إن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ...... )) صعبة الفهم جداً على الناطق باللغة التركية مثلاً ، أو يمكنك تصور صعوبة إيجاد الدلالة من مثل شعبي حتى داخل مستوى منطوقية اللغة الواحدة فما يفهمه العراقي لا يفهمه المصري مثلا وهكذا ، مضافاً للجانب التداولي وعلاقته بإنتاج الدلالة وسأستعير مثالاً من رسالتي ، فما تعنيه جملة ( الله كريم ) باللهجة العراقية مغاير بل هو معاكس لما تعنيه هذه الجملة في لهجات عربية أخرى ، ففي العراقية تحمل دلالة المماطلة والتسويف وعدم رغبة المخاطِب إنجاز الأمر ، وهي دلالة معاكسة للدلالة الأصلية التي احتفظت بها لهجات عربية أخرى ، ولك أن تتصور كيف ستكون الدلالة معاكسة تماماً لما أراد الكاتب لو كانت هذه الجملة واقعة في رواية لكاتب عراقي والقارئ جزائري مثلاً ، وكذلك فإن اسم العلم ( فاطمة ) كان يعني في الجزائر أيام الاحتلال الفرنسي دلالة ( خادمة ) بسبب من أن هذا الاسم وهو إسم يتبرك به أهل الجزائر ويسمون به بناتهم بكثرة كان شائعاً جداً والسيدات الفرنسيات استخدمن بعض البنات الجزائريات للخدمة في بيوتهن ولما كان الاسم شائعاً بين الخادمات إستبدل دلالياً ليعني ( خادمة ) ولكن بمجرد زوال الاحتلال الفرنسي وبعد سنوات قليلة عاد الاسم ( فاطمة ) لدلالته الأصلية ، ويمكن تصور ما ستكون عليه الدلالة لو أن قارئاً عربياً يقرأ رواية لكاتب جزائري يذكر هذا الاسم في تلك الحقبة .
عموماً للغة خصوصيات تتجاوز كثيراً ما أوضحته ولكني لم أرد الإثقال عليكم أحبتي .. ومن الضروري هنا إدراك تلك الخصوصية ، ولعل من يسأل هنا : وما علاقتي أنا باللغات الأخرى ما دمت أقرأ نصاً عربياً ؟ والجواب يتمثل في ضرورة استيعاب هذه الخصوصية وأنت تقرأ رواية مترجمة للغتك إذ الرواية الانكليزية التي ترجمت للعربية تبقى فيها آثار الثقافة الأخرى بقدر ما تذهب الكثير من جوانب الإغناء الدلالي ، بمعنى أنه لا بد أن تدرك عزيزي القارئ وأنت تقرأ رواية مترجمة بأن هذه الرواية فقدت الكثير من الجوانب الدلالية بفعل الترجمة كما أن هناك الكثير من آثار الثقافة والبيئة المنتجة لا زالت تستوطن صفحاتها .
هذه هي الحلقة الأولى من حلقات مشروعنا القرائي ، راجياً أن ينال إعجابكم .. كل الود
الحلقة الثانية اضغط هنا
الحلقة الثالثة اضغط هنا
الحلقة الرابعة اضغط هنا
الحلقة الخامسة اضغط هنا
الحلقة السادسة اضغط هنا
الحلقة السابعة اضغط هنا
الحلقة الثامنة اضغط هنا