عشيقة شهيد. قصة قصيرة.

...ثار بركان الدم في عروقي وتحسست سخونته في وجهي , وتقاطعت الافكار متسارعة في ذهني وقتما استدرت صوب شارعنا الطويل ..تساءلتْ مع نفسي ..من هو ؟ نسوة ..اطفال ..رجال يندفعون بتزاحم نحو بيت طارق , العائلة المهجرة قسرأ التي حلت في شارعنا قبل تسعة اشهر .سيارة حوضية استقلها شباب ببزاتهم العسكرية المرقطة وقفت عند الباب واخرى ترجل منها رجل يعتمر عمامة سوداء وملابس عسكرية مع جنود انزلوا تابوتآ ملفوفآ براية بلادي العزيزةوسط صراخ وعويل النسوة بينما راح ازيز الرصاص من الشاشة ( )يتعالى مضيفآرهبة للموقف .
تحلق رجال قريتنا حول النعش يتنافسون بالقاء الأهازيج الشعبية وهمت اقدامهم تضرب الارض فيتاطير الغبار الى عنان السماء وانبرى مدير الناحية بكلمات وسط التجمع .قفز في ذهني من هو الشهيد!؟..ليس في عائلتهم جندي سوى ذلك الشاب الذي انضم مع زملائه المتطوعين في صفوف الحشد تلبية لنداء المرجعية واَ صيب حينها بساقه واعتاد بعدها ان يتوسدجدار بيتهم ورجله الملفوفة بشاش ابيض تعانق الارض وهو منهمك بقراءة الصحف وتصفح الهاتف النقال .
استدركتَ ذلك بأني لم اعد اره منذ شهر أو اكثر ..أو احد اقاربهم ...انتابتني قشعريرة حزن وتكورت في عيني دمعة ..كيف لا وقد فقدنا شابآ ولابطال بالذهب لا يعوضون.
تغلبت على لواعج الحزن حين استحضرت " الشهداء احياء عند ربهم يرزقون" وعندما ينادي الوطن يهب له الشاب منتحنينا: انتشلني من الغرق في بحر افكاري الذي تلاطمت امواجه صوت يناديني باسمي "نجلاء".
التفتً ...أنه شهاب ابن الحاج احمد ببدله عسكرية يعلون التراب ويعتصر الألم ...ماذا يريد شهاب ..انه لم يحادثني مٌذ كنا.اطفالا نمرح ببراءة في ازقة المحلة .بادرني بعبارة البقاء في حياتك.
دارت بي الدنيا بحركة لولبية وكدتٌ اسقط مغشية علي فأخي (سجاد) تطوع معهم.ردفته بسؤال :بمن ؟ أيكون اخي سجاد؟
ليس أخوك انه طارق ابن ام طارق ..استشهد بعبوة ناسفة .
نزلت كلماته كدلو ماء ساخن دلق على رأسي ..قبرتٌ شهكة كادت تنفجر وتظاهرتٌ بالتماسك رغم تدفق الدم في عروق وجهي .تنهدتٌ متمتمة :ليرحمه الله .انا لله وانا اليه راجعون.
وسألت شهابا: مابال عيونك حيرى؟
_ لقد ترك لكِ هذه الوصية.
_ لي..؟ وماذا يعنيني ؟ وماعلاقتي بالامر ؟ ارتعدت قليلا ةاستجوبته بأنفعال ةاستغراب: وصية لي ؟
دفع لي بدفتر ازرق عليه رسومات وازاهير واردف قائلا:
_ قبل ذهابه للدورية انزوى وقال ان شعورآ غريبآ سرى بداخله بأنه لن يعود سالما..استأسدتٌ عبثا لاستلاب تلك الوساوس من رأسه لكنه قاطعني على عجالة بات هذا الدفتر أمانه ووصية اسلمها لكِ ..وعانقت نظراته الافق واسمعني بصوت متهدج :ان كتبَ لي البقاء سأبوح لها مابداخله والا فقلمي سينوب عني.
ذهلت لما سرى في مسمعي ولم أعي غرابة المفاجأة .فتنكرت لكل شيء وقلت:
_ لايمكنني ان اتقبل الدفتر ثم لا استطيع المكوث معك كثيرا فأنا فتاة وأنتَ تعرف ان ألسِنَة الناس سياط.
تركته ولكنه لحقني قائلا: سأرميه ارضا وليقتل طارق مرة أخرى.
ذبحتني كلماته الأخيرة وبلا شعور تلقفت الدفتر واخفيته تحت العباءة بسرعة وهمس شهاب :أقسم لكِ ان الامر سيكون سرآ بيننا فهذه وصيته الثانية ولن اكلمك ثانية.
دخلتُ بيتنا فوجدته خاليا ..ايقنت ان الجميع هبوا لبيت ام طارق ..ولجتً غرفتي وغلقت الباب ..ادرت المفتاح في القفل مرتين ..تفجرت صرختي واطلقت لدموعي العنان.لم اعد اتمالك خطواتي . اصبحت الصور امامي ضبابية.وشرعت اتصفح الدفتر.
خط جميل وتخطيطات لوجوه نسائيةجميلة متشابهة الملامح ..عبارات وابيات من شعر الغزل وحكم لمشاهير العالم زينت بزخرفة انيقة .على صفحة رسم باعلاها وجهات لشاب وفتاة تموضعا في وسط فقلب انحدرت تحت كلمة"اللقاء" وبذيلها حرفي t,n بالانجليزية.
استوقفتني صفحة معنونة " كلمات الى نجلاء".
" اياكِ يانجلاء ..ياذات العيون النجلاء ..اياكِ انادي ..اليكِ اهدي اجمل الكلمات ..يامَن أسرت خيالي..يامَن اعاد لي وجهها وميض الحياة حين تخيلت ان ساقي ستشُل وابقى صريع العوق ..كنتٌ اودان اقف لكِ لاحييكِ كلما تعودين من المدرسة..أشبهك بالبدر في ليلة صافية ولكن هذه الكلمات تجوفت من كثرة تواردها..ليتني أسمعكِ احلى كلمات المعاجم واجمل القصائد لشعراء الحب العذري...
وفي صفحة تالية رسم عشُ جثم عليه..بلبل وحبيبته يتناجيان واختط تحتهما كلمة "عُشي" وانسابت تحتها تلك الكلمات:
" في مدينتي عندما اكتمل بناء بيتنا قالت لي أمي هذه الغرفة لك ولزوجتك لــتبنيان فيهاعشكما الصغير ..لم تكن في بالي اية فتاة ..ومرت الايام ..دخلت مفخخات العدو المدينة واقتادت قطعانهم الشباب ..أبطحوهم ارضا وأمطروهم وابلا من الرصاص وسالت دمائهم على اسفلت الشارع . هرعت العوائل مذعورة نحوالبساتين ملاذ آمن ..قًصفت المدينة بالمداقع .انهارت منارة الجامع وفجروا ضريح أحد الصالحين الذي كانت تؤمه كل الطوائف في مختلف المناسبات .انهارَ بيتنا بقذيفة هوجاء وتحطم عشي امام مرأى عيني ..وأغتصبت المدينة ..وتلاشت معها احلامي ..واصبحت اغنية حزينة على لسان امي.
وعندما جُرحت كانت امي تطيب خاطري بكلماتها "سأبيع ذهبي الذي ادخرته واعُيد بناء البيت عندما تعود ..كانت العودة في نواظرنا صعبة , ولكنها ليست مستحيلة ..واشرقت عليه شمسك وامتلات اصراراً على العودة ..فهل تقبليني زوجا ادور بكِ بشوارع مدينتي وبساتينها ..لم أكلمك لكني كنتً اخاطبكِ كلما لمحتكِ عيناي ..كان صوت يدوي هديره في صدري احبكِ .. احبكِ.. فهل كنتِ تسمعين .
اطبقت الدفتر ودون ان اعي لطمت على وجهي .. اندفعت للنافذةوشيعته بنظراتي مع مَن شيعوه من المسجد ..تأوهت لاحلامه ..واعتصرتُ حسرة لغيابه .
وبالأمس غمرتني الفرحة وأنا اشاهد التلفاز يزف فيه قائد ميداني بشرى تحرير المدينة من مِن براثن الاقزام الذباحين ..ذرفت دموع الفرح وجاشت في صدري عبرة مابرحت ان تتجسم الى دمعة لعدم حضوره اللحظة التي كان يتمنى.
هاهي عائلته تشد الرحال للعودة, ويقينا سيشيد البيتمن جديد وتتدلى صورة طارق في عِشه الجميل ..ويبقى حيا في ذاكرتي ..واستعيد صورته التي كنت اختلسها بطرف العين , كلما نوديعلى أخي الصغير "طارق"ويبقى دفتر طارق احلى وسام اعتز به طوال حياتي .
انتهت
منقول