بعد الانتصار العظيم في عين جالوت، لم تنته مهمة الملك المظفر قطز بعد.. ما زال هناك تتار في بلاد الشام..ما زال هناك تتار في دمشق وحمص وحلب وغيرها من المدن الشامية.. وما زال هناك تتار في العراق وتركيا وفارس وغيرها.
ومع كثرة الشهداء وكثرة الجراح والآلام.. ومع الإرهاق الشديد الذي يعاني منه الجيش المناضل البطل.. الذي عبر صحراء سيناء بكاملها في شهر يوليو، والذي حارب في غزة، ثم اجتاز فلسطين كلها من جنوبها إلى شمالها حتى وصل إلى عكا، والذي عاد بعد ذلك إلى عين جالوت، والذي خاض المعركة الهائلة مع أقوى جيوش الأرض.
مع كل هذه المعاناة فإن الخطوة التالية مباشرة لقطز بعد انتصار عين جالوت المجيد أن يتجه إلى دمشق في الشمال! فليس في حياة قطز راحة.
دمشق أولى محطات التحرير:
ودمشق هي أولى المحطات الإسلامية التي تقع تحت سيطرة التتار، وهي تقع على مسافة مائة وخمسين كيلومترًا تقريبًا من عين جالوت إلى الشمال الشرقي منها.
لا بُدَّ من تطهير هذه المدينة الإسلامية العظيمة من دنس التتار.. ولا بُدَّ من استغلال فرصة الانكسار الرهيب في جيش التتار فتُحرر دمشق وغيرها قبل أن تأتي إمدادات التتار من فارس أو من أوربا أو من الصين.
وقطز القائد المحنك أراد أن يهيّئ الفرصة العظمى لجيشه في الانتصار على قوات التتار في دمشق، وهو يعلم أن جيش التتار قد قتل بكامله في عين جالوت، ولم ينقل أحد منهم الخبر إلى دمشق، فأراد هو أن ينقل خبر النصر العظيم إليهم، فيرفع بذلك من معنويات المسلمين، ويضع من معنويات الحامية التترية في دمشق؛ فيسهل عليه بذلك فتح تلك المدينة العظيمة.
وبالفعل أرسل رسالة عظيمة تحمل بشريات النصر المجيد.. وكان مما جاء في هذه الرسالة:
«أما النصر الذي شهد الضرب بصحته، والطعن بنصيحته، فهو أن التتر خذلهم الله تعالى (ولاحظ أنه ينسب النصر إلى الله)، استطالوا على الأيام، وخاضوا بلاد الشام، واستنجدوا بقبائلهم على الإسلام»[1].
وهذه عساكر الإسلام مستوطنة في مواطنها، ما تزلزل لمؤمن قدم إلا وقدم إيمانه راسخة، ولا ثبتت لأحد حجة إلا وكانت الجمعة ناسخة، ولا عقدت برجمة ناقوس إلا وحلها الأذان، ولا نطق كتاب إلا وأخرسه القرآن.
ولم تزل أخبار المسلمين تنتقل إلى الكفار، وأخبار الكفار تنتقل إلى المسلمين، إلى أن خلط الصباح فضته بذهب الأصيل، وصار اليوم كأمس ونُسخت آية الليل بسورة الشمس.
إلى أن تراءت العين بالعين، واضطرمت نار الحرب بين الفريقين، فلم تر إلا ضربًا يجعل البرق نضوًا، ويترك في بطن كل من المشركين شلوًا، وقتل من المشركين كل جبار عنيد، ذلك بما قدمت أيديهم {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ}[فصلت: 46].
فرحة النصر:
وصل الكتاب يحمل البشارة إلى أهل دمشق، وفي الغالب وصل الكتاب في يوم 27 أو 28 من رمضان، واستقبل المسلمون الخبر بفرح لا يوصف؛ فقد يئس الكثير من إمكانية هزيمة التتار، فلما سمعوا بأخبار الانتصار المبهر ارتفعت هممهم إلى السماء، ورأوا عمالقة التتار أقزامًا، وقام الشعب في دمشق بثورة عارمة على جيش المغول، وأمسكوا بجنود التتار وفتكوا بهم، فما استطاعوا من قيام، وما كانوا منتصرين[2].
لقد سقطت هيبة التتار، وتنفس المسلمون الصعداء بعد قهر وبطش استمر أكثر من ستة شهور.
انتهى المسلمون من أمر الحامية التترية بسرعة، فمنهم من قتل ومنهم من أسر، ومنهم من فرّ، واتجه المسلمون بعد ذلك للانتقام من النصارى الذين تطاولوا جدًّا على أهل الإسلام في أثناء سيطرة التتار على دمشق، وقد ذكرنا طرفًا من أعمال النصارى في دمشق قبل ذلك.. وتجاوز بعض المسلمين الأمر إلى حرق الديار والكنائس، وإلى قتل البعض منهم، وكاد الأمر يخرج عن السيطرة، ونشط بعض الغوغائيين، وقرروا -أيضًا- الفتك باليهود الذين يعيشون في دمشق، لولا أن قام العلماء ينصحون بعدم الظلم؛ لأن اليهود لم يشتركوا مع النصارى في إيذاء المسلمين أيام حكم التتار، وتكهرب الجو في دمشق، وكادت الفتنة تعم في البلاد[3].. وامتزجت في نفوس الناس مشاعر السرور والزهو بمشاعر الانتقام والتشفي.. وتأزّم الموقف جدًّا.
وبينما هم كذلك -في اليوم الثلاثين من رمضان سنة 658 هجرية- وصل البطل العظيم الملك المظفر قطز إلى دمشق.. بعد خمسة أيام من يوم عين جالوت.
واستقبله الناس استقبال الفاتحين، وعُلقت الزينات في الشوارع، وخرج الرجال والنساء والأطفال يستقبلون البطل المظفر.
تلك هي الفرحة الحقيقية.
{قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}[يونس: 58].
فرحة النصر لدين الله، والرفعة للإسلام والعزّة للمسلمين.
لا تقارن هذه الفرحة بفرحة الطعام والشراب والمال والجاه والسلطان.
دخول قطز.. العيد الحقيقي:
دخل الجيش المملوكي المسلم دمشق.. واستتب الأمن الحقيقي بسرعة عجيبة.. لم يحدث شيء مما يقع عند دخول المستعمرين البلاد فتعم الفوضى، ويُترك الحبل على الغارب، وتنتهك الحرمات أمام أعينهم وتنتهب المحلات والديار وهم يشاهدون.
لم يحدث كل هذا.. إنما استقر الوضع بسرعة، بل أمن النصارى واليهود على أرواحهم وأموالهم، وقام قطز بعزل ابن الزكي قاضي دمشق الذي عينه التتار، وكان مواليًا لهم، وعيّن مكانه نجم الدين أبا بكر بن صدر الدين بن سني الدولة، وبدأ يفصل في القضايا، ويحكم في المخالفات التي تمت بين المسلمين والنصارى.. حتى لا يُظلم نصراني في بلاد المسلمين.. هذا مع كل ما فعله النصارى بالمسلمين أثناء احتلال التتار للمدينة.
وفي اليوم التالي لدخول قطز إلى دمشق كان عيد الفطر.
وهو أعظم عيد مرّ على المسلمين منذ أربعين سنة، لم يكن عيدًا للفطر فقط، بل كان -أيضًا- عيدًا للنصر والتمكين.
{وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[التوبة: 40].
تحرير حمص وحلب:
ولم يضيع قطز وقتًا بل أرسل مقدمة جيشه بقيادة ركن الدين بيبرس تتبع الفارين من التتار، وتُطهّرت المدن الشامية الأخرى من الحاميات التترية، فوصلت القوات الإسلامية إلى حمص، واقتحمت على التتار معسكراتهم ففروا مذعورين، وأطلق المسلمون الأسرى المسلمين الذين كانوا في قبضة التتار، وانطلقوا خلف الحاميات التترية الهاربة، فقتلوا أكثرهم، وأسروا الباقين، ولم يفلت منهم إلا الشريد[4].
وهكذا حررت حمص بسرعة، واتجهت القوات الإسلامية إلى حلب، ففر منها التتار كالفئران المذعورة، وانطلقوا يجرون أذيال خيبتهم، وسبحان مغيّر الأحوال.
ما بين طرفة عين وانتباهتها يغيّر الله من حالٍ إلى حال!
توحيد مصر والشام من جديد:
في غضون بضعة أسابيع طَهّر المسلمون بلاد الشام بكاملها، وعادت من جديد أرض الشام إلى ملك الإسلام والمسلمين.. نسأل الله لها ولسائر بلاد المسلمين دوام التحرر والعزة.
وأعلن قطز توحيد مصر والشام من جديد في دولة واحدة تحت زعامته، بعد عشر سنوات من الفرقة، وذلك منذ وفاة الملك الصالح نجم الدين أيوب في سنة 648 هجرية.. وخُطب لقطز على المنابر في كل المدن المصرية والفلسطينية والشامية، حتى خطب له في أعالى بلاد الشام والمدن حول نهر الفرات.
وعاش المسلمون أيامًا من أسعد أيامهم.
وبدأ قطز يوزع الولايات الإسلامية على الأمراء المسلمين، وكان من حكمته أنه أرجع بعضًا من الأمراء الأيوبيين إلى مناصبهم؛ وذلك ليضمن عدم حدوث الفتنة في بلاد الشام، لأنه لا شك أن هؤلاء لهم أتباع من المسلمين، ولم يخش قطز من خيانتهم، وخاصة بعد أن تبين لهم أنه لا طاقة لهم بقطز وبجنوده الأبرار.
أعطى قطز إمارة حمص للأشرف الأيوبي - الذى كان مواليًا للتتار - بعد أن أظهر ندمه وتوبته، وأرسل إلى قطز قبل عين جالوت مع صارم الدين أيبك أنه سوف ينهزم عمدًا بين يدى قطز، والله أعلم لو كان النصرُ حليف التتار ماذا كان فاعلاً، فهذا بينه وبين الله عز وجل، ولكن المهم الآن أنه اعترف بخطئه السابق الجسيم من موالاته للتتار، وقبل حكم حمص تحت رعاية قطز.
وأعطى قطز إمارة حلب إلى علاء الدين بن بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل الذى مات منذ شهور قليلة، وأعطى إمارة حماة إلى صاحبها الأسبق الأمير المنصور، والذى كان يقاتل معه في القوات الإسلامية المشتركة في عين جالوت، وعين لأمير جمال الدين آقوش الشمسي على الساحل الفلسطينى وغزة، أما دمشق فقد عين عليها الأمير علم الدين سنجر الحلبى[5].
وهكذا استقرت الأوضاع تمامًا في بلاد الشام وفلسطين، وقويت شوكة الإسلام، واختفي كلُ تهديد يمسّ أمن المسلمين ورعاياهم من النصارى واليهود.
العودة إلى القاهرة:
وفي اليوم السادس والعشرين من شهر شوال سنة 658 هجرية بعد شهر كامل من يوم عين جالوت بدأ السلطان قطز رحلة عودته إلى عاصمته القاهرة.. فكثير من الأوضاع السياسية هناك يحتاج إلى استقرار، وكثير من الأمور تحتاج إلى إدارة.. وقد أصبحت دولة قطز تصل من الفرات إلى حدود ليبيا، ولا بُدَّ من إعادة تنسيق كثيرٍ من الأوراق.. ولا ننسى أن قطز لم يتول الحكم حتى ذلك اليوم إلا منذ أحد عشر شهرًا فقط، فقد تولى الحكم في الرابع والعشرين من ذي القعدة سنة 657 هجرية، وما زالت تنتظره الآلاف من الأعمال.
هكذا تم النصر المبين على التتار، واستيقظ المسلمون من الكابوس المزعج الذى آلمهم في كل السنوات الماضية.
[1] القلقشندي: صبح الأعشى 7/260، 262.
[2] أحمد مختار العبادي: قيام دولة المماليك الأولى 1/169، 170.
[3] قاسم عبده قاسم: السلطان المظفر قطز ص137، 138.
[4] أحمد مختار العبادي: قيام دولة المماليك الأولى 1/169، 170.
[5] قاسم عبده قاسم: السلطان المظفر قطز ص139، 140.
د. راغب السرجاني