تحرَّكت جموع الفلاحين الأوربيين بنشاط لتهرب من الواقع الأليم الذي تُعانيه، ولم تستطع أن تصبر حتى اكتمال تجهيز الجيوش النظامية، فقرَّرت أن تخرج بنفسها إلى بلاد المسلمين مغترَّة بأعدادها ومفتونة بحماسها، وإن كانوا جميعًا ممن لا يُحسنون القتال والحروب؛ بل لعلَّهم لم يحملوا سيفًا طيلة حياتهم.
تولَّى قيادة الجموع الهمجية والتر المفلس، وكان فارسًا شرسًا من بواسي Poissy، ولم يكن في هذه الحملة إلا ثمانية فرسان فقط[1]!
خرجت هذه الحملة من فرنسا واخترقت ألمانيا، وهي تجمع في طريقها الأنصار والمتحمِّسين، وإن كان يبدو عليهم بوضوحٍ عدم الخبرة وقلَّة التنظيم.
ثم عبرت هذه الجموع إلى الأراضي المجرية ثم البيزنطية، وفي هاتين المرحلتين الأخيرتين ظهرت بوضوح طبيعة هذه الحملات العدوانية؛ فقد نظرت هذه الجموع إلى أعدادها وقوَّتها، واسترجعت تاريخها في الحرمان والفاقة، فنسيت الهدف المعلن الذي خرجت من أجله، وهو نصرة المسيحيين الشرقيين؛ ومن ثَمَّ قرَّروا الهجوم على القرى والمدن الآمنة التي في الطريق، وكلها آهلة بالسكان النصارى، الذين من المفترض أنهم جاءوا لنصرتهم[2]!!
لقد كانت وصمة في تاريخ أوربا حيث بدأ السلب والنهب والاعتداء على الرجال والنساء وسرقة الأموال والديار!
دُهِش الإمبراطور البيزنطي من هذه الأعمال، التي ارتُكبت في دولته من هذه الجموع، التي لا تفقه شيئًا لا في الدين ولا في السياسة ولا في الحرب؛ فانعدام الدين عندهم واضح؛ لكونهم يقتلون إخوانهم النصارى دون أدنى مبرِّر، وانعدام السياسة واضح -أيضًا- لأنهم يفعلون ذلك في أراضي الدولة البيزنطية؛ غير مقدِّرين القوَّة العسكرية الضخمة لهذه الدولة العتيدة، كما أنهم لا يفقهون شيئًا في القتال والنزال، كما هو واضح من أشكالهم وتنظيمهم وطريقة حربهم؛ ومع ذلك فإن الإمبراطور البيزنطي ألكسيوس كومنين تذرَّع بالصبر، ولم يشأ أن يُهاجم هذه الجموع فيفنيها؛ لأنه كان يُريدها لحرب المسلمين؛ ومن ثَمَّ لم يتعرَّض لحملة والتر المفلس بسوء، وإن كان لم يأمنهم على القسطنطينية؛ فأنزلهم خارج أسوارها؛ لينتظروا بقية الحملات والجنود[3].
وفي هذه الأثناء كان بطرس الناسك قد جمع أعدادًا غفيرة من الفلاحين البؤساء رجالاً ونساءً وأطفالاً، وانضمَّ إليهم جمع كبير من الأفَّاقين والمجرمين وبنات الهوى[4]، وكان تجمُّعهم في حوض نهر الراين بألمانيا، ثم غادروا الأراضي الألمانية في (489هـ= 20 من أبريل 1096م)، ولم يكن في هذه الجموع إلا عدد قليل من الفرسان يتقدَّمهم بطرس الناسك على حماره الأعرج[5].
وكما كانت رحلة والتر المفلس إجرامية إرهابية، كانت -أيضًا- رحلة بطرس الناسك؛ إذ إنها بمجرد دخولها للأراضي المجرية حتى بدأت تفسد في الأرض، وبشكل أكبر وأوسع؛ لأن أعدادهم كانت أكبر، وطبيعتهم كانت أفسد، وظهرت بوضوح في هذه الرحلة النيَّات الخبيثة لبطرس الناسك؛ الذي لم يكن يتورَّع عن إزهاق الأرواح النصرانية وسلب الأموال والممتلكات، مع أنه كان يُطلق على جيشه جيش الرب!
وتفاقمت المأساة وبلغت ذروتها عند مدينة سملين Semlin المجرية؛ حيث هجم بطرس الناسك ومَنْ معه على المدينة النصرانية، فأحدثوا فيها مجزرة بشعة كان ضحيتها أربعة آلاف نصراني جملة واحدة[6]!!
وانتبه الملك المجري كولومان للمصيبة، ولم يكن يتوقَّعها من أناس يرفعون الصليب شعارًا لهم[7]، فجمع قوَّاته وهاجمهم، فتفرَّقُوا في الغابات المجرية، وقتل بعضهم، وفرَّ الباقون إلى الأراضي البيزنطية المجاورة؛ ليستكملوا مسيرة الإفساد في الأرض.
وفي الأراضي البيزنطية تجمَّعت قوَّتهم من جديد، ورصدتهم عيون المخابرات البيزنطية، وتركتهم عمدًا يتحرَّكون صوب القسطنطينية؛ وذلك للالتقاء مع جموع والتر المفلس. غير أن هذا الهدوء من الدولة البيزنطية أغرى الجموع المفسدة بمواصلة السلب والنهب، فتكرَّرت مأساة سملين في مدينة نيش البيزنطية، حيث قتل بطرس الناسك ومَنْ معه أعدادًا كبيرة من النصارى الأرثوذكس وأحرقوا الديار بأهلها، وهنا لم تصبر الجيوش البيزنطية، بل هجمت على جموع بطرس الناسك، وقتلت منهم عددًا كبيرًا، كما استولت على الأموال والتبرعات التي جمعها بطرس الناسك قبل ذلك من الغرب الأوربي، ومع ذلك فلم يشأ الجيش البيزنطي أن يُفني الجموع المفسدة؛ لأنه كان يُريد توجيهها إلى حرب المسلمين.
وعند مدينة صوفيا أرسل إليهم الإمبراطور البيزنطي وفدًا يُحَذِّرهم من عواقب هذه الهمجية، ويأمرهم بعدم البقاء في أي مدينة بيزنطية أكثر من ثلاثة أيام، ثم تولَّى فريق من البيزنطيين قيادة هذه الجموع إلى أسوار القسطنطينية لمقابلة فرقة والتر المفلس هناك[8].
إن الناظر إلى أحوال هذه الجموع المفسدة قد يتعجَّب؛ ولكن المحلِّل للتاريخ بدقة سيجد أن هذا أمرٌ طبيعيٌّ جدًّا، وكثير التكرار في كل مراحل التاريخ؛ إنها القوَّة التي نُزعت منها الرحمة والأخلاق والدين، وأيُّ قوَّة لم تُجَمَّل بهذه الآداب فإنها -لا شكَّ- ستكون طاغية مفسدة؛ لقد فعلت الجيوش الفارسية الشيء نفسه وهي في طريقها لحرب المسلمين في موقعة القادسية، حيث أغارت على عدَّة مدن وقرى فارسية في طريقها، وهذه المدن والقرى لا يقطن فيها إلا الفارسيون الذين تربطهم بهذا الجيش علاقات الدم والدين، ومع ذلك عاث الجنود الفارسيون في الأرض فسادًا، وذبحوا أهلها، ونهبوا أموالهم وديارهم، واعتدوا على نسائهم وأطفالهم!
والجيوش البيزنطية ذاتها التي تأمر الآن الجموع المفسدة بأن تملك أعصابها ولا تقتل إخوانها، هي ذاتها التي أذاقت أهل الشام النصارى العذاب ألوانًا، وفرضت عليهم الضرائب الباهظة، وحوَّلت كل المحاصيل والغلال إلى الدولة الرومانية، وفعلت ذلك وأكثر في مصر، مع أن الجميع في النهاية ينتمون إلى المذهب الأرثوذكسي!
ماذا فعلت الجيوش الألمانية عندما شعرت بقوتها؟!
إن كل الشعوب التي ذاقت ويلات الألمان كانت شعوبًا نصرانية مثل الألمان؛ بل إن الجيوش الإسلامية إن لم تكن إسلامية إلا بالاسم فقط، وفُرِّغَتْ من الخلق القويم والالتزام الشديد بقواعد الدين وأصوله؛ فإنها هي الأخرى جيوشٌ إرهابية يُعاني منها المسلمون قبل غير المسلمين، وهذا نُشاهده كثيرًا في الجيوش المسلمة التي تَتَّبِع مناهج علمانية بعيدة كل البعد عن الإسلام.
إن هذا الاستعراض لرحلة والتر المفلس أو بطرس الناسك يُوَضِّح لنا بجلاء طبيعة الحملات الصليبية، وأنها -وإن رفعت الصليب شعارًا- ما جاءت إلا للسلب والنهب والاستحواذ والتملُّك.
ولم تكن حملات والتر المفلس وبطرس الناسك هي الحملات الشعبية الوحيدة، بل خرجت حملات أخرى من غرب أوربا مثل: حملة فولكمار Volkmar، وحملة جوتشوك Gottschock، وحملة إميخ [Emich [9؛ وكان شعار كل هذه الحملات الإفساد في الأرض، وقد قامت حملة إميخ بقتل اثني عشر يهوديًّا في مدينة سبير Spier في وادي الراين، ثم أتبعوهم بقتل خمسمائة يهودي في مدينة وُرمز في وادي الراين، وذلك في 20 من مايو 1096م[10]، ثم زاد الأمر أكثر في مدينة مينز حيث قُتل ألف يهودي[11].
وقامت حملة فولكمار -أيضًا- بقتل عدد آخر من اليهود في مدينة براغ[12]، وكان من الواضح في هذه الحملات العنصرية الفجَّة؛ فهم في البلاد الكاثوليكية يقتلون اليهود، وفي البلاد الشرقية يقتلون الأرثوذكس، وسوف يسعون بعد ذلك إلى قتل المسلمين.
غير أن هذه الحملات الأخيرة، وخاصةً حملة إميخ وفولكمار، تعرَّضت لصدمة قاسية في الطريق؛ حيث ترصَّد لها ملك المجر كولومان، وخاف من تكرار مأساة والتر المفلس، وبطرس الناسك؛ ومن ثَمَّ حاصر هذه الحملات الأخيرة، وأبادها تمامًا، فلم يكن لها أي دور في المشاركة مع والتر وبطرس في هذه الحملة الصليبية.
لقد كانت نهاية تعيسة لجموع تعيسة هربت من حياة الضنك لتُقتل في غابات المجر، وتقتل معها أحلام العيش السعيد في بلاد الشرق المسلمة!
نعود إلى أسوار القسطنطينية حيث وصل إليها بطرس الناسك في أوائل أغسطس (488هـ= 1096م)، ليلتقي مع والتر المفلس وفرقته، ليُصبح التجمُّع الصليبي كبيرًا جدًّا؛ وتختلف الروايات في تقدير عدد هؤلاء الفلاحين والمغامرين؛ حيث تُقَدِّرهم بعض الروايات بخمسة وعشرين ألفًا، بينما تصل بهم بعض الروايات إلى مائة ألف صليبي، هذا بخلاف النساء والأطفال[13].
وعند قدوم بطرس الناسك استقبله الإمبراطور البيزنطي ألكسيوس كومنين استقبالاً حسنًا، وإن كان متعجِّبًا من هذه الجموع الهمجية التي أرسلتها أوربا لنجدته من المسلمين، غير أنه أدرك أن هذه الجموع ما هي إلا مقدِّمة للجيوش الصليبية المدرَّبة؛ ومن هنا نصح الإمبراطورُ بطرسَ الناسكَ ومَنْ معه بانتظار الجيوش النظامية، وعدم التهوُّر بمقابلة الجيوش السلجوقية المدرَّبة؛ غير أن الجموع النصرانية ما لبثت أن كرَّرت الفساد في القرى والضِّياع المحيطة بالقسطنطينية، وكادت السيطرة تفلت من أيدي الجيش البيزنطي؛ مما دفع الإمبراطور البيزنطي إلى سرعة نقل هذه الجموع المفسدة عبر مضيق البسفور إلى آسيا الصغرى حيث السلاجقة المسلمين؛ وذلك ليُؤَمِّن منطقة القسطنطينية وما حولها، ومع غضبه الشديد إزاء هذه الأعمال المتهورة فإنه أمدَّهم بالنصح والإرشاد، وساعدهم بالسفن البيزنطية، وأعطاهم بعض السلاح، وأرسل معهم بعض العيون والخبراء[14].
قلج أرسلان وإبادة الغوغاء:
دخلت الجموع الصليبية إلى آسيا الصغرى، ولم يطيقوا الصبر حتى تأتي جيوشهم المحترفة؛ فقاموا بالإغارة على بعض القرى المسلمة، وقتلوا وسلبوا ونهبوا، وزادهم هذا إغراءً فتمادوا في الغيِّ، وهم لا يُدركون أنهم أصبحوا على بُعد عدَّة كيلو مترات فقط من مدينة نيقية قاعدة السلطان قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش، سلطان السلاجقة في آسيا الصغرى آنذاك[15].
دبَّر السلطان قلج أرسلان مكيدة حربية، واستطاع الإيقاع بالجموع الساذجة في فخٍّ محكم، وحاصرت الجيوش السلجوقية جموع الصليبيين، ودارت معركة سريعة ظهر فيها الجهل الواضح لهذه الجموع الشعبية؛ لينطلق السلاجقة في قتل معظم هذه الجموع، حتى كادت تُباد عن آخرها، لولا أن الإمبراطور البيزنطي سمع بأنباء الكارثة، فأرسل سفنًا حربية وبعض الجنود البيزنطيين الذين استطاعوا إنقاذ ثلاثة آلاف صليبي فقط، بينما دُمِّر الباقي تمامًا في الكمين السلجوقي، وكان ممن قُتل في هذا الصدام والتر المفلس، بينما نجا بطرس الناسك الذي كان في مقابلة مع الإمبراطور البيزنطي وقت وقوع الجموع الصليبية في الكمين السلجوقي[16].
كانت صدمة قاسية جدًّا للإمبراطور البيزنطي، وبطبيعة الحال لبطرس الناسك، واحتفظ الإمبراطور بالبقية الباقية من هذه الجموع وقائدهم بطرس الناسك في مدينة القسطنطينية؛ ليكونوا في انتظار الجيوش الصليبية المحترفة.
وهكذا كانت النهاية المأساوية لكل الحملات الشعبية؛ سواء على يد ملك المجر كولومان أو على يد السلاجقة المسلمين؛ ليدفع فقراء أوربا وفلاحوها ثمن الغرور الذي ملأ رجال دينهم وأمراءهم وإقطاعييهم، وهكذا دومًا تدفع الشعوب المغلوبة على أمرها ثمن هوانها وذلتها!
وبينما كان الحال كذلك مع هذه الحملات الشعبية كان العمل يجري على قدم وساق في أوربا الغربية وخاصةً فرنسا؛ لتجميع الجيوش النظامية وبأعداد ضخمة لم تسبق في تاريخ أوربا، بل لعلَّها لم تسبق في تاريخ العالم أجمع!
[1] Albert D`Aix, in Peters (ed)., The First Crusades, pp. 95-96.
[2] Vasiliv: op. cit., vol.ll, p. 404.
[3] Chalandon: Permiere Croisade, p. 61-62; Cam. Med. Hist. vol. 5,p.p. 275-276.
[4] William of Tyre, p. 105; Hagenmeyer, "Chronolgie", p. 243.
[5] Setton: op. cit. 1, pp. 263-265.
[6] Albert d` Aix: Rec. Hist. cr) Hist. Occid., 1V ,p. 279.
[7] Ekkhrad D` Aura, in Petes (ed), pp. 100-101; Albert d` Aix, pp. 100; William of Tyre, p. 112; "Clermont to Constantinople", pp. 262-265.
[8] William of Tyre, p. 105; Hagenmeyer, "Chronolgie", p. 243.
[9] Setton: op.city. 1.pp.263-265.
[10] Cam. Med. Hist. vol5. p.277
[11] Albert d' Aix Iv, pp.292-293
[12] Runcumian: Op. City. 1.pp 134- 141
[13] Ostrogorsky: op. cit., p. 321.
[14] William of Tyre, 1, pp. 105-106; Anna Comnena, Alexiade, pp. 311; Duncalf, "Clermont to Constantinople:, p. 259-262; Hagenmeyer, "Chronolgie", pp. 245-246.
[15] Grousset: Hist. des Croisades, 1, p. 8.
[16] عن نهاية الحملة الشعبية انظر:
Albert D`Aix, in Peters (ed.),. 108-112; William of Tyre, 1, pp. 106-109; Anna Comnena, Alexiade, pp. 311-313; Gesta Francorum, pp. 2-4; Hagenmeyer, "Chronolgie", pp 245. 251-254; Runcumian, "Cinstaninople to Antioch", in setton, 1, pp. 281-284; Bradford, The Sword, pp. 38-39.
قاسم عبده قاسم: الخلفية الأيدلوجية ص165 وما بعدها، وجوزيف نسيم: العرب والروم واللاتين ص170-158، وزابوررف: الصليبيون في الشرق ص57-95.
د. راغب السرجاني