تتباين المكانة التي يحظى بها مفهوم الثورة في الأديان السماوية التوحيدية الثلاثة (اليهودية والمسيحية والإسلام)، وذلك بحسب السياق الرئيسي، الذي يميز كل دين، فيحدد ملامحه وسماته وتوجهاته وأهدافه.
اليهودية
في اليهودية، إن السياق العام الذي يُفسر به التاريخ، هو الرغبة والسعي لتحقيق الجنة التي وُعد بها بنو إسرائيل في كتبهم المقدسة. فلما كان الدين اليهودي لا يقدم صورة متكاملة لما بعد الحياة الدنيوية، نلاحظ أن الوعد الذي لطالما قدمه "يهوه"، إله بني إسرائيل، لشعبه، هو أنهم سيحققون السيطرة على مساحات واسعة مباركة من الأرض، ويعيشون فيها في سلام وطمأنينة وهدوء، بعد أن ينتصروا على عدوهم، ويقضوا عليه ويستريحوا من شره المستطير.
وعلى هذا الأساس، نجد أن حركة التغيير في الفكر اليهودي، كانت دائماً تتم في سبيل الوصول لتلك الغاية. فمعاداة فرعون مصر والخروج على سلطته كان بهدف الرحيل المقدس لأرض الميعاد.
واستكمالاً لتلك الرؤية، كانت الحروب والثورات اليهودية ضد سكان فلسطين من الأموريين والفلسطينيين والكنعانيين والعمالقة، بهدف تحقيق دولتهم المستقلة. كما أنه، بحسب السياق نفسه، من السهل أن نستوعب أن جميع الانتفاضات المسلحة المتكررة التي قام بها اليهود على مدار تاريخهم الطويل ضد أعدائهم، سواء كان الأعداء من بابل أو أشور أو روما، هي مجموعة من الحلقات المتداخلة التي تهدف لاستعادة الدولة القومية المنشودة.
المسيحية
أما الفكر المسيحي، فقد مر بالكثير من التغيرات والتطورات بدايةً من القرن الأول الميلادي، ونهايةً بعصر الإصلاح الديني، مروراً بالعصور الوسطى وعصر النهضة.
وكان من الطبيعي أن يحدث اختلاف في وجهة النظر المتعلقة بتفسير التاريخ عموماً، وتفسير الحدث الثوري خصوصاً، على مدار تلك العصور. ولكن الملمح الرئيسي الذي ميز المسيحية، هو كونها نظرت للتاريخ البشري برمته على كونه نتيجة لخطيئة آدم الأولى. تلك الخطيئة التي أدت لإخراج آدم من الجنة، ونفيه إلى الأرض ليعيش هو وذريته ونسله من بعده في شقاء دائم حاملين على أكتافهم ثقل الجرم والذنب.
وبعكس اليهودية، كانت المسيحية ذات توجه أخروي واضح وصريح. فحرض الفكر المسيحي أتباعه على الزهد في الدنيا، والتوجه بكل حواسهم وأمانيهم إلى جنة السماء الطوباوية الخالدة.
لذا نجد أن النصوص المقدسة المسيحية لم تول اهتماماً يذكر لمسألة التشريعات والقوانين كما فعلت اليهودية من قبل. ولم تحدد لأتباعها نموذجاً دنيوياً للدولة أو المجتمع.
وقد أسهم ذلك في بُعد الفكر المسيحي التقليدي عن أي حراك ثوري عنيف، يهدف لهدم أو لإقامة كيان سياسي، والاتجاه بدلاً من ذلك للتبشير لمجد المسيح المنتظر في الحياة الأخروية.
ومن الممكن أن نعتبر كتابات كل من القديس أوغسطينوس وتوما الأكويني نماذج معبرة، تؤكد على بعد الاتجاه المسيحي التقليدي عن فكرة التغيير العنيف للواقع أو الثورة.
لكن تلك النظرة الكلاسيكية الرومانسية الحالمة، تبدلت تماماً إبان عصر الإصلاح الديني، الذي شهد ظهور عدد من الشخصيات المسيحية ذات المنهجية الراديكالية، مثل مارتن لوثر كينغ وكلفن وزفنجلي، الذين أعلنوا الثورة على الكاثوليكية والسلطات الكهنوتية، وخاضوا مع أتباعهم الكثير من المواجهات والمعارك ضد أعدائهم من أتباع المدرسة التقليدية، ما نتج عنه العديد من الثورات والانتفاضات التي تحولت لحروب طاحنة داخل القارة الأوروبية العجوز. واستمرت تلك الحروب عشرات الأعوام حتى توقفت بعد "صلح وستفاليا" عام 1648.
أما الإسلام
أما إذا انتقلنا إلى تناول مفهوم الثورة في الفكر الإسلامي، فسنجد تبايناً كبيراً وهائلاً عنه في النموذجين السابقين. فكان الإسلام، منذ بدايته، حريصاً على الاهتمام بالجانب المادي الدنيوي في حياة الإنسان، وبالجانب الروحي الأخروي.
فالإسلام كانت فيه من الشرائع والقوانين والأحكام والتنظيمات ما مكن المسلمين من إقامة دولة ونظام سياسي لهم على الأرض. وفي الوقت نفسه، اهتم بمصير الإنسان الأبدي، بعد الموت. فنجده يقدم صورة متكاملة للآخرة، بما فيها من حساب وثواب وعقاب، وما يترتب عليها من دخول للجنة أو النار.
الفكر الإسلامي إذن، كان ينظر إلى هدف التاريخ وغايته في شكل خطين متوازيين، يسيران في اتساق وانسجام وتكامل. فلا الجانب المادي يطغى على الروحي، فيصبح الإنسان حيواناً بلا إحساس أو ذوق، ولا البعد الروحي يسيطر على نظيره المادي فيهمل الإنسان شؤون الدنيا ويبتعد عنها ويجتنبها.
لذا كان من الطبيعي أن تستحوذ فكرة التغيير والثورة على مساحات واسعة في العقلية الجمعية الإسلامية، خصوصاً أن الإسلام في حد ذاته انتهج النهج الثوري الراديكالي العنيف أثناء فترة تأسيسه وصعوده المبكرة. وهناك الكثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ، التي أشارت بشكل واضح إلى مركزية مفهوم الإصلاح والتغيير والثورة.
ورغم كوننا لا نلاحظ استخدام مصطلح الثورة كثيراً في أدبيات الفكر الإسلامي، إلا أننا نجد أن مفهوم الثورة، تم التعبير عن محتواه وفحواه الحقيقيين بواسطة عدد من المصطلحات الأخرى مثل الفتنة، الوثوب، النهضة، الخروج.
وكانت فكرة الثورة والجدال حول حاكميتها وشرعيتها ومنهجيتها وعناصرها، موضوعاً رئيسياً ومحورياً في الأسس التي قامت عليها الفرق الإسلامية السياسية المختلفة، مثل أهل السنة والجماعة، والمرجئة والشيعة والخوارج.
أهل السنة والجماعة بشكل عام، وقفوا موقفاً معارضاً ضد مفهوم الثورة، واستدلوا على موقفهم هذا بعدد من الآيات والأحاديث التي تحذر من الخروج على سلطة ولي الأمر، وتجعل من الخروج عليه خروجاً على حكم الله نفسه.
ولكن من الملاحظ أن أهل السنة والجماعة، كانوا ينظرون دائماً إلى نتائج الثورة على كونها تجسيداً وتجلياً لإرادة الله عز وجل، وأنها أمر إلهي يجب قبوله ومسايرته، ونستطيع ان نجد في التاريخ الإسلامي الكثير من الأمثلة على تلك النقطة.
نجد مثلاً أن علماء أهل السنة الكبار اعترفوا بشرعية حكم عبد الملك بن مروان، رغم أنه خرج وثار على الخليفة الشرعي عبد الله بن الزبير، الذي يوجد إجماع حول أفضليته وشرعية حكمه.
كما نجد أن العقلية السنية، التي لطالما شرعنت حكم الأمويين، سرعان ما تغير ولاؤها إلى الجانب العباسي، بعد انتصاره وتأسيسه للدولة العباسية عام 132ه.
كما أن غالبية الفقهاء والشيوخ وعلماء الدين السنة المعاصرين للعصر المملوكي، الذي اتسم واتصف بكثرة الانقلابات والمؤامرات السياسية واغتيال السلاطين والأمراء، لم يجدوا أي مشكلة في تغيير ولائهم للسلطة الحاكمة، بتغير الشخصيات المتعاقبة على كرسي السلطنة والنفوذ.
كان التاريخ إذن حاكماً على الدين في اللاوعي الجمعي السني، فكان تحقق الفعل على أرض الواقع، يعني بالتبعية، أن الله تعالى أراده وخطط له وباركه.
أما المرجئة، فتركوا الحكم على المواقف السياسية – الدينية، وآثروا أن يرجئوا الحكم فيها لما بعد الحياة الدنيوية ليفصل الله عز وجل فيها.
أما إذا انتقلنا إلى ثاني أكبر مذهب في التاريخ الإسلامي، فسنجد أن الشيعة اختلف موقفهم من الثورة باختلاف فرقهم. فالشيعة الزيدية اعتقدوا بضرورة الخروج والثورة على الحاكم الظالم، ويشهد على ذلك قول الإمام زيد بن علي "فليس الإمام منا من أرخى عليه ستره، بل من شهر سيفه".
المراجع لتاريخ الثورات الشيعية على مدار التاريخ الإسلامي، الممتد لأكثر من 15 قرن، سيجد أن الغالبية من الثورات الشيعية، تحقق بتدبير وتخطيط وقيادة من أئمة المذهب الشيعي الزيدي دون غيرهم من بقية الفرق الشيعية.
أما الشيعة الإمامية عموماً، سواء كانوا اثني عشرية أو إسماعيلية، فاعتبروا أن الثورة لا يمكن إباحتها بغير شروط وقيود محددة. وكان رأي "إمام العصر وصاحب الزمان" الذي ينتظره الشيعة، هو أهم تلك الشروط وأعظمها.
لذلك نجد أن الإمامية اعتقدوا بمشروعية التغيير العنيف والثورة في أزمنة علي بن أبي طالب وابنه الحسين. بينما اعتقدوا بالعكس، زمن الحسن، وفي أزمنة بقية الأئمة الاثني عشر. فالباعث على التحرك الثوري في الفكر الشيعي الإمامي، كان مصدره إلهياً غيبياً، يتخذ من الإمام وسيلة ومعبر لإيصال أوامره وقراراته، ومعنى ذلك أن العوامل المادية لم تكن لها أي دور، على المستوى الرسمي الشرعي، في القيام بالتغيير العنيف أو الثورة.
أما الخوارج فكان خطهم السياسي الواضح الذي اتخذوه منذ بداية تأسيس مذهبهم، يتفق مع الفكر الثوري الراديكالي العنيف. فاعتقدت جميع الفرق والجماعات والطوائف المنبثقة عن الفكر الخارجي، بضرورة الخروج على الحاكم الظالم وحتمية الاحتكام لشرع الله وأوامره ونواهيه.
وقد شغلت فكرة التغيير والثورة حيزاً مهماً في كتابات المفكرين المسلمين على مدار التاريخ الإسلامي الطويل، ومن أهم من تناولوا تلك الفكرة في مؤلفاتهم الماوردي، ابن الأزرق، الطرطوشي، ابن خلدون.
أهم المراجع: القرآن الكريم، الكتاب المقدس، ذرية إبراهيم لروبن فايرستون، أبحاث في الفكر اليهودي لحسين ظاظا، مدينة الله للقديس أوغسطين، من لا يحضره الفقيه لابن بابويه القمي، والحرية والطوفان لحاكم المطيري.