لقد بات معروفاً ما تنتجه مؤسسات الثقافة المزدوجة أو الثقافة التي يمكن تشخيص إصابتها بالحول الرؤيوي ، ذلك أن هذه المؤسسات التي تنتشر كالوباء وتمثل المشهد العربي عبر الآلة الإعلامية العاجزة حتى عن تقديم صورة واضحة للإنسان العربي تتكفل بمهمة المقاربة أمام الغرب كعامل يناط به التعريف بالهوية العربية تأسيساً لممارسة الخطاب العربي بعد إنهاء مرحلة تأسيسه هو ذاته ..
ومع هذا العجز البائن لتلك المؤسسات التي احتكرت حقوق تمثيل الكائن العربي بكل ما تختزنه تلك المفردة ( الكائن ) من معاني الكينونة والماهوية ، لم تزل تمعن تلك المؤسسات بأدواتها في دور عرّاب العرب وصفحتهم على مشهد التداول اليومي بكل مفردات مزاولة الحضارة والتعامل والتبادل الثقافي .. العرّاب الذي ما زال يقصّ البزة كما يرى ويصف لنا التسريحة الملائمة ويصبغ لنا وجهنا ويزيننا أمام الحضور لحضور الحفلة العالمية ، يباشر مهمته مقصياً كل ما لا يتناسب مع بطولته في تزوير الحقائق والتلاعب بالتاريخ والتأريخ ، وتبقى مهام ذلك العراب مقدسة لأنها تهدف لإخراجنا مبتسمين فرحين في صورة لهوية تدعى المهزلة .
أما آن أن تنتهي مهزلة تدعى الثقافة الواحدة ؟ أما آن لقنوات طويل العمر أن تخرس ؟ تلك القنوات التي تمارس عهرها السنوي بكل بجاحة حتى إذا ما أطل الشهر الفضيل أعلنت أنها تستضيف الشيخ والداعية فلان بن فلان المهزلة ليباشر وعظه لجموع المؤمنين على قناة الأغاني والرقص الشرقي ،وما تلك إلا صورة من صور الازدواجية التي ابتليت بها ثقافة الحول متداخلة الرؤية ، ولو تتبعنا باقي أصناف التداخل لما خرجنا بأقل من فضيحة هم يعرفون حجمها ويعون مدى تجذرها .
كنت ولا زلت حتى اليوم أتابع الفنان عادل إمام في مسلسلته فرقة ناجي عطا الله ، واليوم تحديداً فوجئت بمشهد يحاور فيه عادل إمام شخصية ( ستوري ) ليقول له : إن ما حدث في عيد الأضحى كان إهانة لكل العرب ، في إشارة واضحة لإعدام الطاغية صدام في صبيحة عيد الأضحى ، وحقاً أقول أنني لم أستوعب كيف يكون توقيت إعدام الطاغية إهانة لكل العرب ؟!!! لم أستوعب دواعي قول عادل إمام .. ورغم محاولتي لفهم تلك الدواعي لم يسعفني الحيز المعادل الذي وضعت فيه نفسي على فهمه ، وكان على هذا الفنان وهو يطل من نافذة مؤسسة إعلامية تمثل واجهة من واجهات المؤسسة الثقافية المعاقة فكرياً وغير المستوعبة لأزمة التعايش وحقيقة فهم الذات قبل فهم الآخر ـ ذلك أن الشعب العراقي جزء من الذات العربية ـ كان يجب عليه أن يفهمنا ، وقبل أن يحاول إفهامنا كان لزاماً عليه أن يكلف نفسه ويبحث في حجم معاناة الشعب العراقي الشعب العربي الذي داسته جزمة السلطة الدكتاتورية ، وإذا كان في إعدام الطاغية صبيحة عيد الأضحى إهانة للعرب ألم يكن ثمة خدش لحق بكرامة العرب حين كان صدام يغرس أنيابه وأنياب جلاوزته في عرض العراقيات ، هل علم عادل إمام بأن أيام عيدي الفطر والأضحى كانت مواعيد احتفالات ضباط الأمن الصدامي على أجساد الطاهرات من بنات العراق ؟ هل علم كم اغتصب من النساء في صباحات العيد أيام حكم البعث ؟ أم هل كلف نفسه ليبحث في المواعيد المفضلة للإعدامات أيام القائد الضرورة وفارس العرب ؟ يا سيدي الفنان الذي نقدره كانت تهاني العيد التي يتزلف بها المنافقون لطاغيتهم مسبوقة بقائمة التضحية بأبناء العراق الذين ما كان لهم ذنب سوى أنهم اختلفوا بالرأي مع الحزب الأوحد واتهموا بالخيانة للعراق لأن الشعار قائم ( إذا قال صدام قال العراق ) .
وبعد ، فقد عرف عن عدل الله تعالى أن يجزي المرء بما كسبت يداه ، فكان أن لقي الطاغية حتفه في صبيحة الأضحى الذي طالما لطخ يديه بدماء الأبرياء فيه ، فإن كان ثمة إهانة للعرب كان يجب أن تكون في قتل الطاغية للعراقيين العرب عاماً بعد عام والعرب بحكوماتهم وسلاطينهم يصفقون له ويحيون بطولاته على أبناء شعبه ، أو تعلم سيدي العزيز كيف فرحت عوائل الضحايا .. النساء التي اعتدي على شرفهن .. الرجال الذين سحقت كرامتهم بعيد الأضحى ذاك .. كان أسعد عيد .. لأنه أعلن فيه عن القصاص الذي طااااااااال انتظاره ..