مكارم الأخلاق عمق رسالة الإسلام
العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله
أكَّد رسول الله محمّد(ص)، أنَّ مكارم الأخلاق تمثِّل عمق الإسلام في كلّ امتداداته، وقد جاء على لسانه(ص)، أنه بُعِثَ لإتمام هذه المكارم، بعد أن انطلقت الرسالات في حركة الرسل، لتقدِّم للعالم في كلِّ مرحلةٍ من المراحل، برنامجاً أخلاقيّاً. على أنّ حركة البرامج الأخلاقيّة تلك، لم تمثّل حالة انقطاعٍ بين الرسالات السابقة، بل كان كلّ برنامج يتكامل مع البرنامج الّذي سبقه، ويتطوّر بحسب حاجة مرحلته، حتى بلغ التّكامل والتطوّر ذروته في رسالة الإسلام الّتي جاء بها محمّد(ص)، والّتي أكدَّ فيها أنّه جاء مصدّقاً لما بين يديه، ومنفتحاً على الرسالات، ومعترفاً بكلّ الرسل، وجاء متمِّماً للمنهج الأخلاقي في مكارم الأخلاق، لأنَّ الإسلام هو دين الحياة، فلا دين بعده، ولا نبيَّ بعد النّبيّ(ص).
قي
مة الأخلاق
وينقل الإمام عليّ(ع) ـ كما جاء في كتاب (إحياء علوم الدّين) للغزالي ـ عن رسول الله(ص)، قصّةً حصلت له في حياته، حيث كان يؤكّد تقديره لمكارم الأخلاق، حتى لو صدرت عن كافر. يقول الإمام(ع) في افتتاح كلامه ـ حسب الرواية ـ: "عجباً لرجلٍ يجيئه أخوه المسلم في الحاجة، فلا يرى نفسه للخير أهلاً"، أي لا يستجيب لحاجة أخيه المسلم الّتي تمثِّل الخير في معناها، لأنَّ قضاء حاجة المسلم من قِبَل المؤمن، تمثِّل قاعدة الخير الإنساني، فعندما لا يستجيب المؤمن لما يطلبه منه أخوه المؤمن، فإنّه قد يرى نفسه أنّه ليس أهلاً للخير، لأنّه لو كان أهلاً للخير، لبادر إلى قضاء حاجة المؤمن، باعتبار أنها مظهر من مظاهر الخير.
"فلو كان لا يرجو ثواباً، ولا يخشى عقاباً، لكان ينبغي له أنْ يسارع إلى مكارم الأخلاق". ثمّة تأكيد هنا، أنَّ مكارم الأخلاق ممّا تُطلب لذاتها، أي حتى لو لم يحصل الإنسان من خلالها على مقابل ممّن يبذلها له. وقضاء حاجة المؤمن، يمثِّل مظهراً من مظاهر الالتزام بمكارم الأخلاق، "فإنها"، يعني مكارم الأخلاق، "تدلّ على سبيل النجاح"، وختم الإمام كلامه بهذا.
فقال له رجل: "أسمعته من رسول الله؟"، وكأنّه يسأل: هل هذا من عندك أو من عند رسول الله(ص)؟ فقال له الإمام(ع): "نعم، وما هو خير منه"، فقد سمعتُ منه هذا الخطّ الأخلاقيّ، وسمعت منه ما هو أكثر من ذلك، وهو ما يتمثّل في سلوك النبيّ(ص)، وفي تقديره للمبادرات الأخلاقيَّة، بقطع النّظر عمّا إذا كانت صادرةً عن مؤمن أو عن غير مؤمن. وكأنَّ رسول الله(ص) يريد أن يؤكِّد أنَّ مكارم الأخلاق هي من عمق الأصالة في إنسانيّته، وهي الّتي تهيئ له ذاته للأخذ بالإيمان وللانفتاح عليه.
"لما أُتي بسبايا طَيْء، وقفت جاريةـ وهي سفانة بنت حاتم الطّائي المعروف بالكرم ـ في السّبي، وقالت: يا محمَّد، إن رأيت أن تخلي عني، وما تشمت بي أحياء العرب، فإنّي ابنة سيّد قومي، وإن أبي كان يحمي الذّمار"، أي كان يحمي الجار والشّخص الّذي يستجير به، "ويفكّ العاني"، أي كان يفكّ رقبةً من كان بحاجة إلى المال، "ويشبع الجائع، ويكسو العاري، ويقري الضَّيف، ويطعم الطَّعام، ويفشي السَّلام، ولم يردّ طالب حاجة قطّ، أنا ابنة حاتم طيء"، وكأنها كانت تريد أن تستشفع بخصال أبيها الأخلاقيَّة، ليحرّرها رسول الله(ص) من السّبي، فقال(ص): "يا جارية، هذه صفة المؤمنين حقّاً"؛ هذه الصِّفات الَّتي جئت بها، هي ما أردت للمؤمنين أن يتَّصفوا بها، "لو كان أبوك مسلماً لترحَّمنا عليه، خلّوا عنها"، وأطلق سراحها كرامةً لهذه الأخلاق الّتي اتّصف بها أبوها، ولأنها في حديثها عن ذلك، كانت تؤمن بهذه الأخلاق، وكانت تعتبرها من الأخلاق الّتي يكبر فيها الإنسان الَّتي يتّصف بها، "فإنّ أباها كان يحبّ مكارم الأخلاق، والله تعالى يحبّ مكارم الأخلاق"، فهو كان يحبّ ما يحبّه الله، وإن كان لم يوفّق للإيمان بالله سبحانه وتعالى. فقام أبو بردة، وهو شخص كان في مجلس النّبيّ(ص) عندما تحدّث بهذا الحديث، فقال: "يا رسول الله: الله يحبّ مكارم الأخلاق؟"، فقال النّبيّ(ص): "والّذي نفسي بيده، لا يدخل الجنّة أحد إلا بحسن الخلق"[1]. وهذه كلمة خطيرة فيما يمثّله الالتزام الإيماني، إذ تعني أنَّ الجنّة لا يدخلها إلا الإنسان الَّذي يملك حُسن الأخلاق في منهجه السّلوكي. وتفسير ذلك، أنَّ الجنّة هي دار الخير كلّه، وموقع رضوان الله تعالى، والقرب إلى الله تعالى، فلا بدَّ من أن يكون ساكنوها، ممن يملكون إعطاء مجتمع الجنّة هذا النّوع من المنهج الأخلاقيّ.
وهذا ما نستفيده من القرآن الكريم، حيث يقول تعالى: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[2]، إذ نلاحظ أنّ الصّفات التفصيليّة الّتي أعطاها لأهل الجنّة، والّتي أراد من المؤمنين أن يُسارعوا من خلالها إليها، هي صفات أخلاقيّة. فالجنّة إنّما تكون للشَّخص الّذي لا يفجِّر غيظه عندما يغتاظ من أحد، والّذي يعفو عمّن أساء إليه، ويحسن إلى النّاس، ضمن البرنامج الّذي وضعه الإسلام لحركة الأخلاق في حياة الناس. ومن هنا، فإنَّ قوله(ص): "لا يدخل الجنّة أحد إلاّ بحسن الخلق"، مرتكز على ما ذكرناه، وأنّ الجنّة بطبيعتها تفترض حُسن خلق ساكنيها، لأنَّ سيئ الخلق إذا بقي في هذا الاتجاه أو في هذه السّلوكيّة، فإنه يخرِّب الجنّة، ويخلق المشاكل لسكّانها.
وعن النبيّ(ص): "إنَّ الله حفَّ الإسلام"، من جميع جوانبه، "بمكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال". وحسب الرواية، كان فيما يدعو به النبيّ(ص): "اللّهمّ حسِّن خَلقي"، يعني صفاته الجسديّة، في جمال الجسد، "وحسِّن خُلقي"، يعني حسِّن أخلاقي.
ونقرأ في الحديث أيضاً: "إنَّ الخلق الحسن يميث الخطيئة، كما تميث الشَّمس الجليد"[3]، يعني أنَّ الإنسان الّذي يملك الخلق الحسن، ينعكس هذا الخلق الحسن إيجابيّاً عليه، فيذيب الخطايا الّتي عاشها في حياته تماماً، ويزيلها تماماً، فكما تذيب الشَّمس الجليد بحرارتها، تؤدِّي حرارة الأخلاق النّتيجة نفسها بالنّسبة إلى الخطايا.
أفضل الخلق
وفي الحديث عن الإمام جعفر الصّادق(ع) قال: "الخلق منيحة يمنحها الله عزّ وجلّ خلقه"، فهي من المنح والهدايا والأمور الّتي يودعها الله في خلقه، ولكنَّ الخلق على قسمين: "فمنه سجيّة، ومنه نيّة"، أي: منه ما ينطلق بفعل عوامل الوراثة والفطرة، فيولد الإنسان وينشأ هادئ الطّبع، ومنفتحاً على الآخرين، وإنساناً مسالماً، لا يعنُف مع الآخرين، خلقه الرّفق. والقسم الآخر، ما يقوم به الإنسان من خلال دوافعه في ما يتعلَّمه، وفي ما يتربّى عليه، بحيث تنطلق الأخلاق منه من خلال هذه النيّة الطيّبة والدّافع الطيّب. "قلت ـ والكلام للرّاوي ـ: فأيّتهما أفضل؟!"، هل الخلق الذي هو سجيّة أفضل، أم الخلق الّذي هو نيّة؟ قال: "صاحب السجيّة، هو مجبولٌ لا يستطيع غيره"، فالشَّخص الّذي فُطِر على الأخلاق، انطلاقاً من وراثته ذلك في تكوينه، بفعل قانون الوراثة، أو من خلال ما أفاض به الله عليه، لا يستطيع تغيير ما هو عليه، "وصاحب النيّة يصبر على الطّاعة تصبّراً"، فهو الشّخص الذي ينطلق بطاعة الله سبحانه وتعالى، وبالخلق الحسن معه، فيبذل جهده في ذلك، ويتحمَّل الكثير من النتائج الصّعبة السّلبيّة، في سبيل أن يصبر على ممارسة الأخلاق، "فهو أفضلهما"[4].
من خلال ذلك، نستطيع أن نستنتج أنَّ الفضل، كلَّ الفضل، في أن يحاول الإنسان أن يربّي نفسه على الأخلاق الحسنة، بالتعلّم والتدرّب، وكلّ ما يؤكِّد احترامه للإنسان الآخر، ومحبّته لله سبحانه وتعالى، وهكذا تنطلق مسألة الخُلُق الحسن.
ذمّ الخلق السيّئ
أمّا الخُلُق السيّئ، فقد ورد عن الرَّسول(ص): "الخُلق السيِّئ يفسد العمل، كما يفسد الخلّ العسل"[5]؛ فلو كان عندك عسل من أفضل أنواع العسل، ومزجت به الخلّ، فإنّ العسل يفسد. وبالقوَّة نفسها، لو كنت تصوم وتصلّي وتحجّ، وتقوم بكلّ الطاعات، ولكنّ خُلُقك سيّئ، فإنَّ أهلك وأصحابك يشقون بأخلاقك، فالخلق السيّئ الّذي تتمتَّع به، يفسد كلّ ما قمت به من الطّاعة.
وقد ورد في الحديث عن الرسول(ص): "أبى الله لصاحب الخُلق السيّئ بالتوبة"، لأنّ الإنسان الّذي له خلق سيّئ، من الصّعب أن يتوب، "قيل: يا رسول الله، وكيف ذلك؟"، وهذا السّؤال ينطلق من استهجان هذا الأمر من قبل السَّائل، إذ ربما يلتفت صاحب الخلق السيِّئ إلى نفسه، ويحاسبها على خطاياها، فيعزم على التّوبة، فكيف يأبى الله له ذلك، وهو القائل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً}[6]؟ "قال: لأنّه إذا تاب من ذنب، وقع في أعظم من الذّنب الذي تاب منه"[7]، لأنّ الخلق السيّئ يدفع الإنسان إلى المعصية وإلى الخطيئة، في ما يقوم به من ممارسات ضدَّ الآخرين. وإذا كان الخلق السيّئ يمثّل لديه حالةً متجذّرةً في شخصيّته، فمن الطبيعيّ أنّه إذا تاب اليوم، فإنّه سيقع في ذنبٍ جديد بعد توبته تلك، وهكذا، حتى تكون حياته متنقّلةً من معصية إلى أخرى، وذلك يبعده عن التّوبة.
الأخلاق الرساليّة
من خلال ذلك، نستطيع أن نؤكِّد أنَّ على الإنسان أن يربّي نفسه على حسن الخلق مع كلّ الناس، من المسلمين وغير المسلمين، لأنَّ الخلق الحسن إذا كان جزءاً من شخصيَّة الإنسان، فإنّه ينطلق بشكلٍ عفويّ، من دون تفرقةٍ بين شخصٍ وآخر، وقد قيل في بعض الرّوايات عن السيّد المسيح(ع): "كن كالشّمس، تطلع على البرّ والفاجر"[8]. وبذلك، يساهم الخلق الحسن في تنمية ثقة الناس بالإسلام، ويكون داعيةً إلى الإسلام، لأنَّ الناس إذا رأوا المسلم كيف يتحرك بأخلاقيّته مع الناس ـ كما قال الإمام عليّ(ع) ـ: "بدنه منه في تعب، والنّاس منه في راحة"[9]، فإنّ ذلك يجعلهم يشاهدون في المسلم إسلاماً متجسِّداً. وهذا ما أشار إليه الإمام جعفر الصّادق(ع) في قوله: "كونوا دعاة للناس بغير ألسنتكم"، يعني إذا أردتم أن تدعوا النّاس إلى الإسلام وإلى الإيمان، فلا تقتصروا على الدّعوة إلى الإسلام بالأحاديث الّتي تتحدَّثون بها إليهم، "ليروا منكم الورع والاجتهاد والصلاة والخير، فإنّ ذلك داعية"[10]، فإذا رآكم الناس وأنتم صادقون معهم في الكلمة، وفي المعاملة، وفي الموقف، وأنّكم تفعلون الخير في كلّ حياتكم الاجتماعيّة، وإذا رأوا منكم الورع عن معاصي الله، بحيث تلتزمون الطّاعة، وتبتعدون عن المعصية، فإنهم يرون فيكم تجسيداً للإسلام، وصورةً مشرقةً له، ما قد يدعوهم إلى الدّخول في الإسلام.
إنَّ الكثيرين منا، من الّذين هاجروا إلى بلدان العالم، يتحركون انطلاقاً ممّا ورثوه من أخلاق سيّئة في مجتمعاتهم، فنراهم يسيئون إلى النّاس الذين يعيشون معهم في مغترباتهم؛ يسيئون إليهم بالابتعاد عن الصّدق، والابتعاد عن الأمانة، وما إلى ذلك، فيعطونهم بذلك صورةً سيّئةً عن الإسلام، ما يجعل النّاس يبتعدون عن الإسلام عندما يرون كيف يمارس المسلمون أوضاعهم مع بعضهم البعض؛ كيف يتعامل الرّجل مع المرأة، وكيف يتعامل القويّ مع الضّعيف، وكيف يتصرّف الناس في معاملاتهم الماليّة وغير الماليّة، على أساس الغشّ والخداع وما إلى ذلك، فعندما يرى الناس الآخرون ذلك، فسوف يحملون صورة سيّئة عن الإسلام، وهذا ما سمعناه عن كثير من الأوضاع، بينما لو كان المسلمون يلتزمون الخطّ الإسلاميّ الأخلاقيّ في تعاملهم مع بعضهم البعض، ومع الآخرين، فإنَّ ذلك سوف يعطي صورةً حسنةً عن الإسلام، وسوف يؤدِّي إلى أن ننشئ مجتمعاً مسلماً يحترم فيه النّاس بعضهم بعضاً، ويثقون ببعضهم البعض.
إنَّ مشكلتنا في العالم الإسلاميّ، أنه عالم لا يتربّى فيه الإنسان على الصِّدق، وعلى الأمانة، وعلى المحبّة، وعلى احترام الآخر والاعتراف به. ولذلك، رأينا كيف أنّنا نتحرّك بفعل العصبيّة السّوداء الّتي تؤدّي إلى مزيدٍ من التّقاتل والتّنازع والتّحاقد، وإسقاط المجتمع كلّه في كثير من القضايا العامّة والخاصّة، حتى إنّنا نلاحظ أنَّ أغلب البيوت والعوائل تعيش الشَّقاء، من خلال تعامل الآباء مع الأولاد، والأولاد مع الآباء والأمَّهات، وتعامل الأزواج مع الزّوجات، وتعامل الزوجات مع الأزواج، ولذلك، فإنَّ بيوتنا تصنع جيلاً يعيش الكثير من العقد النفسيّة التي يمتصّها من خلال ما يرثه من عقد الآباء والأمّهات والأزواج والزوجات.
إنَّ أمامنا تحدّيات كبيرة في موقعنا كمسلمين في العالم، وعلينا أن نتعلّم كيف نثبت أمامها، وكيف نواجهها، وهذا ما أراده الله تعالى لنا، عندما حدَّد لنا الإنسان الرابح في الدّنيا والآخرة، في قوله سبحانه: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}، وماذا بعد؟ {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ}، بأن يوصي بعضهم بعضاً بالحقّ؛ بالحقّ العقيديّ، والحقّ الشّرعيّ، والحقّ الأخلاقيّ والاجتماعيّ، {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}[11]، أي أن يصبروا على خطّ الالتزام في ذلك كلّه.