عندما تكون الرصاصة هي الوسيلة الوحيدة للحوار وحسم الخلاف الفكري تكون داعش قد غرست راياتها السوداء في عيوننا وجلجلت منتصرة. الرصاصة لم تنطلق من مسدس أرعن وحسب، بل من عقل أعوج هو نتاج مناخ مُعبأ بصدأ التطرف، ظل يشحن في حملة المسدسات ونتاج التربيات الداعشية حقداً وكراهية ضد كل من يختلفون معه، كما يكتب خالد الحروب في مقاله التالي.
عندما تفيض كراهيات الشحن الداعشي في مجتمعاتنا العربية عن قدرة الأفراد المشحونين على التحمل فإنها تتحول إلى عنف ورصاص. عفن الداعشية (ومقصود بها هنا السنية والشيعية سواء بسواء) هو الذي يسيطر على عقول حملة المسدسات الباحثين عن عقول عزلاء يستعرضون بطولة تافهة تجاهها.
الإصبع الداعشي الجبان، الذي اغتال ناهض حتر وهو ذاته الذي أطلق الرصاص على شكري بلعيد ومحمد براهمي في تونس ومئات غيرهم، ليس سوى نهاية حلقات التجييش الداعشي ضد المختلف فكرياً وسياسياً.
يبدأ التجييش على مقاعد المدرسة ومن خلال مناهج التربية والتعليم التي تزرع في عقول الصغار "معالم في طريق" تقسيم البشر إلى مسلمين وكفار، معنا وضدنا. من هناك تبدأ المسيرة الداعشية "المظفرة" ومن ينكر هذا عليه أن يعود ليتأمل تلك المناهج التي تمهد الأرض للدعشنة المسلحة اللاحقة.
يتفاقم التجييش مع التربية الدينية والأسلمة الهائجة التي تجتاح مجتمعاتنا عبر جحافل الدعاة النصيين والسلفيين المهجوسين بتنصيب أنفسهم قضاة على ضمائر الناس وأفكارهم ومعتقداتهم، وتصنيفهم مسلمين أم كفار أم فساق. بل إن بعضهم امتد علمه الوفير لتصنيف إيمان الكائنات الأخرى وقد شاهدت مؤخراً فتوى تلفزيونية تتناول "سلوك" احد أنواع الأسماك وتستنتج ان تلك السمكة المعنية فاسقة هي ونوعها بأكمله. لم يُتحفنا الشيخ المُفتي فيما إن كان علينا جلد السمكة قبل صيدها واكلها، وهل أصلا يجوز أكل السمك الفاسق؟
عفن الداعشية
تلتقط كثير من الجوامع والمنابر مع الأسف راية التجييش وتتفجر حناجر خطباء كثر بالدعاء على الكفرة والمجرمين من نصارى ويهود وشيوعيين وعلمانيين وقوميين ورافضيين وكل من هب ودب ممن لا يرضى عنهم الخطيب المُقدام. في كل جمعة وكل أسبوع يستمع ملايين المسلمين لخطباء غالبيتهم الكاسحة تتسم بجهل فائق في التعامل مع مجتمعات حديثة ومتعددة فكريا وسلوكيا ومذهبيا. يستل الخطيب صفحات من كتب صفراء كان يكررها خطباء عصور الانحطاط ويرشقها في وجوه مسلمي القرن الواحد والعشرين، فيخرجون مشطورين بين الذهول والصمت وعدم التعليق على ما سمعوه. بيد ان شريحة عريضة تتلقى ما تسمع على انه عين الحق، وهي ذات الشريحة التي ظلت مأسورة بما تلقته على مقاعد الدرس، وما صارت تسمعه وتتأكد منه على قنوات الدعشنة التلفزيونية التي تملأ الأثير.
ما ينافس بشاعة الفعلة الجبانة بإغتيال ناهض حتر تسويغها قولا وزعماً بأنه تعدى على الدين والمقدسات وتصرفاته ومقولاته جلبت عليه هذا المصير. بل ثمة تعليقات طويلة وكثيرة على الخبر ومنشورة على المواقع الالكترونية، بما يستدعي دراسة أكاديمية متكاملة، تبرر فعلة القتل وتجد المسوغات للقاتل. هذا بالضبط هو ما اسميه "الداعشية الكامنة" وهي التي تجذرت في مجتمعاتنا خلال نصف قرن على الأقل من عصر الأسلمة والتدين السمج والمتطرف الذي عصف بنا وشوه كل ما هو جميل فينا. الذين يزعمون بأن حتر تسبب في رد الفعل الداعشي يفوتهم جذر المسألة كلها ولا يلتفتون إليه، وهو أن محاسبة حتر او عدم محاسبته هي مسؤولية الدولة والقضاء وليست متروكة لكل متوتر هنا، أو داعشي هناك يزعم بأن الحمية عن الدين تدفعه لقتل وذبح من شاء.
لماذا لا تتحرك هذه الحمية للدفاع عن صورة الدين الإسلامي التي تشوهت في العالم بأسره وصارت مرتبطة بالدم والقتل والسحل وقطع الرؤوس؟ لماذا لا يثور أولئك المتحمسين "لثقافة ودين الشعب الأردني والذود عنه" للدفاع عن صورة الأردن التي شوهتها الثقافات الداعشية، وحولت الأردن المدني الواعد إلى بلد لم يعد يحتمل وجود صوت مخالف في.
لا ضرورة هنا للقول في ما إن كان المرء يختلف مع ناهض حتر فكرياً وسياسياً ومواقفياً، فهذا لا وقت له والأمر تجاوز ذلك بكثير. ما يجب أن يُقال ويستفز الفعل الجماعي طولا وعرضا هو أن الداعشية الكامنة فينا، وفي تربيتنا، وفي مدارسنا، وفي إعلامنا، وفي نمط تديننا، وفي جوامعنا، وفي وسط كثير من سياسينا، هي العدو الأكبر والأكثر إلحاحاً لنا جمعياً.
الأصول التفكيرية والتكفيرية للعقلية الداعشية
القضاء على هذه الداعشية وأنقاض أجيالنا ومجتمعاتنا منها هي المسألة الأولى على أجندتنا. البحث عن المسوغات والتخفيف من هول الواقع لا يعني سوى إمداد هذه الداعشية بالمزيد من الأكسجين لإعمال المزيد من القتل والإبادة والتدمير في روحنا الجماعية، فكراً وسلوكاً ... وأجسادا
قبل عدة أيام تابعت تعليقات داعشية "فيسبوكية" طويلة على مقطعين تلفزيونيين، الأول لمغنية عربية والثاني لحلقة ذكر صوفية. التعليقات الهجومية والتفسيقية والتكفيرية في الحالتين تقشعر لها الأرواح والأبدان. اللعنات والكراهيات والتهديدات ضد المغنية وضد حلقة الذكر الصوفي تقول شيئاً واحداً هو ان المعلقين "المجاهدين" لا ينقصهم إلا السلاح وإمكانية الوصول إلى "الهدف" لقتله والقضاء عليه. الفرق بين الداعشية الكامنة والداعشية المتوحشة المسلحة هو توفر السلاح في يد الثانية.
الداعشيتنان الإثنتان تعتاشان على نفس الأصول التفكيرية والتكفيرية وتنهلان من نفس المستنقع الآسن. على مجتمعاتنا وكتلها الصامتة العريضة أن تسأل دوما ودائما وكل يوم: كم مغنية أو مغن تزنر بحزام ناسف وفجر نفسه في مدنيين آمنين؟ وكم جماعة صوفية في طول وعرض العالم الإسلامي قتلت مئات وألوف من المسلمين عبر حلقات الذكر التي تقوم بها؟ وأين هي كل جماعات الدعشنة والقاعدة وسواها من قتال إسرائيل بعد كل هذا التبجح المقيت بالجهاد والسلاح، ومعظم من أراقت دماءهم مسلمين في مسلمين؟