يطرح الكاتب "جان دوست" في روايته "نواقيس روما" قضية التسامح بين الأديان، وقبول الاختلاف ونبذ التطرف الديني، من خلال حكاية تعود بنا إلى القرن الثامن عشر، لنعيش في أجواء ذلك الزمن الذي برعت الرواية في تصوير تفاصيله.
يراوح السرد في الرواية بين زمنين، الأول تجري أحداثه بعد عودة المترجم "عشيق" ابن التاجر رشدي الشركسي الأنطاكي من رحلته الطويلة التي استغرقت جلّ حياته إلى مسقط رأسه "أنطاكية"، وأما الزمن الثاني فهو الماضي الذي يروي فيه عن تلك السنوات الست والخمسين التي قضاها في روما، وما يربط بين الزمنين هو قراره الذي اتخذه في كتابة سيرة حياته، فبحث عن مدون شاب ليمليها عليه لأن يديه تعبتا لكثرة ما عمل في ترجمة الكتب. هكذا يعثر على "يونس بن إيبش" القادم من بغداد، فيدونان معاً على مدى أربع عشرة ليلة تلك السيرة الغنية بالأحداث، "كان المترجم الشيخ عشيق، العائد من روما، يعاني آلاماً في أصابع يديه بعد خمس سنوات قضاها يترجم الكتب من اللاتينية والإيطالية إلى العربية قبل أن يغادر روما. وحين عزم على تدوين سيرة حياته التي أمضاها في بلاد الطليان لم يستطع فاضطر إلى البحث عمّن يقوم بتدوين ما يمليه من سيرته الطويلة تلك. (...) وحين سمع عصر تلك الجمعة من ذلك الفتى الغريب الحزين أنه خطاط وأنه يجيد نسخ الكتب، ورأى بعض خطوطه البديعة، فرح كثيراً وعرض عليه أن يعود معه إلى قريته ليخدمه ويساعده في تدوين ما يريد مقابل أجر مجزٍ لم يستطع الفتى مقاومة إغرائه".
أقوال جاهزة:
كان نداء خفي من أعماق النفس يدعوني لأصبح خروفاً من خراف الكنيسة، لكن نداء آخر كان يدعوني إلى الصمود والبقاء على ديني
عن الهوية الحقيقية للإنسان، لا تلك التي نرثها أو نتبناها، بل تلك التي تتشكل من تلاقح ما نرثه مع ما نكتسبه حين نقبل الآخر المختلف
يتابع "دوست" في هذه الرواية ما بدأه في روايته السابقة "عشيق المترجم" التي صدرت عام 2014، فبعد أن سرد في الجزء الأول طفولة وشباب بطله، وحكاية حبه لليهودية "إستر"، ثم سفره إلى روما لتعلّم اللغتين الإيطالية واللاتينية، حسب مشيئة والده، وما جرى معه ومع رفاقه في تلك الرحلة المحفوفة بالأخطار على متن السفينة التي أبحرت بهم، يتابع في هذا الجزء سرد أيامه التي قضاها هناك، طوال ستة وخمسين عاماً، قبل عودته من جديد، ليبحث عن حب حياته "إستر".
ما يحسب للرواية الجديدة أنه يمكن قراءتها دون الاضطرار للعودة إلى سابقتها، فنغدو وكأننا أمام نص مستقل في اكتمال عناصره، فقد عرف الكاتب كيف يسدّ فجوات السرد كي لا يضيّع متعة القراءة على من لم يقرأ الجزء الأول، لكن ما سيشعر به من يقرأ الجزءين هو أن اللجوء إلى خيار تقسيم الرواية، وتوزيع الحكاية على روايتين بهذه الطريقة أفقد الحبكة ألقها وكثافتها، وأوقعها في فخ التطويل والتكرار.
تناقش الرواية في هذا الجزء موضوع الانتماء وموضوع الأديان واختلافها، وموضوع الهوية بمختلف معانيها، فالمترجم "عشيق" الذي غادر وطنه إلى مكان لا يعرف لغته ولا عاداته ولا طقوسه ولا ديانته، سيشعر بالغربة والحنين إلى بلاده بكل ما فيها، خاصةً أن جميع من معه ينتمون إلى دين مختلف، وهذا ما يعرّضه لبعض المواقف المتطرفة التي تثير في رأسه الكثير من الأسئلة المتعلقة بالهوية الدينية، إلى أن يقرر أخيراً تغيير دينه كي يصبح منسجماً مع المحيط الذي وُجد فيه، "عصر ذلك اليوم أيقنت أنني لن أقدر على العيش في روما، ما لم أصبح مسيحياً مثل قاطنيها وزائريها. كان نداء خفي من أعماق النفس يدعوني لأصبح خروفاً من خرفان الكنسية، لكن نداء آخر كان يدعوني إلى الصمود والبقاء على ديني وألا أصبح شاة قاصية تفترسني الذئاب. كنت الشجرة اليتيمة على رأس التلة أصدّ بأغصاني كل تلك الرياح العاتية. ولكن أنى لشجرة فُصلت عن غابتها وتُركت وحدها تصارع العواصف أن تصمد؟".
الفكرة الأساسية التي تطرحها الرواية والتي لا تتبلور إلا في الفصول الأخيرة من الرواية، وتحديداً بعد لقاء "عشيق" براهبة من جنوا وسماعه حكايتها، هي فكرة الهوية الحقيقية للإنسان، وهي ليست تلك التي نرثها، ولا تلك التي نتبناها انسجاماً مع ظرف ما، بل الهوية الحقيقية لأي إنسان هي تلك التي تتشكّل خلال حياته من تلاقح ما ورثه مع ما يكتسبه حين يقبل الآخر المختلف، ويزيل من قلبه الكراهية تجاهه، عندئذ فقط يجد هويته الخاصة التي لا تشبه سواها، والتي من صفاتها التسامح وقبول الآخر.
"قضيت عمري أمشي على دروب الحيرة، قضيته في التيه، قضيته في الانتظار المرّ للحقيقة المستحيلة. وفي ذلك التيه صار قلبي يتسع للهلال والصليب معاً، لم يعد قلبي يعرف الكراهية. تلك كانت غنيمتي الكبرى، ولقد دفعت عمري ثمناً لذلك".
جان دوست كاتب وروائي سوري من مواليد كوباني 1966. يقيم حالياً في ألمانيا. حاز عدداً من الجوائز من بينه: جائزة القصة القصيرة في سورية عام 1993، وجائزة الشعر الكردي في ألمانيا 2012، وجائزة دمشق للفكر والإبداع 2013.
له سبع روايات، كتب بعضها بالكردية وبعضها الآخر بالعربية، ومنها: "مهاباد وطن من ضباب"، "متاهة الجن"، "مارتين السعيد"، "ميرنامة"، "دم على المئذنة"، "عشيق المترجم"، و"نواقيس روما".