الرابع من شهر شعبان..ذكری ميلاد ابي الفضل العباس (عليه السلام)
الملخص
... نشأ ابي الفضل العباس (ع) في دار الإمام علي (ع) في حجر أمّه المؤمنة الوفيّة، والى جانب الإمامين الحسن والحسين (ع)، وتعلّم من آل رسول الله (ص)، من ابناء هذه الاسرة الطيّبة، دروساً عظيمة في الانسانية والاخلاص وسمو الاخلاق. وقد كان لتربية الامام علي (ع) من غير شك، تأثير بارز في صياغة الشخصية الفكرية والنفسية لهذا الفتى. وجاء ادراكه العالي انطلاقاً من هذه التربية النبيلة...
مرّت سنوات على وفاة بضعة الرسول، السيدة الزهراء (عليهاالسلام). وكان علي (عليه السلام) قد تزوج بعد فاطمة بامامة بنت رسول الله (صلي الله عليه واله وسلم) وبعد مرور ما يربو على عشر سنوات على تلك الحادثة المؤلمة، لم يزل حزن فراق الزهراء يغمر قلب علي (عليه السلام).
وقد كُتب لآل الرسول مصير يدعو الى الدهشة؛ فقد كان بنو هاشم يعيشون مظلومين وهم في ذروة المجد والعظمة. وعندما عزم على علي (ع) الزواج من امرأة اخرى، كانت قضية عاشوراء ماثلة أمام ناظريه. فاستدعى أخاه عقيل، الذي كان عارفاً بأنساب العرب وقبائلهم وأرهاطهم وصفاتهم. وخصالهم، وقال له: انظر لي امرأة قد ولدتها الفحولة من العرب لإتزوّجها فتلد لي غلاماً فارساً.
بعد مدة ذكر له عقيل امرأة من بني كلاب تتوفر فيها هذه الصفات، اسمها فاطمة بنت حزام بن خالد. وكان كل آبائها فرسان. وأما من جهة امها فكانت من عائلة معروفة بالشرف والشجاعة. كان اسمها فاطمة الكلابية، ثم اشتهرت لاحقاً باسم أم البنين. حيث انجبت اربعة بنين احدهم ابي الفضل العباس (عليه السلام).
ذهب عقيل ليخطبها من ابيها، فرحب الأب بهذه الخطوبة واستجاب لها بفخر واعتزاز. فتزوج امير المؤمنين (عليه السلام) بهذه المرأة الشريفة.
"وبلغ من عظمتها ومعرفتها وتبصرها بمقام أهل البيت (عليهم السلام) انها لما أدخلت على أمير المؤمنين (ع) وكان الحسنان مريضين أخذت تلاطف القول معهما وتلقي اليهما من طيب الكلام ما يأخذ بمجامع القلوب وما برحت على ذلك تحسن السيرة معهما وتخضع لهما كالأم الحنون".
يُقال انهم عندما كانوا ينادونها فاطمة، قالت لهم: "لا تدعوني فاطمة فيتجدد في قلبكم حزن امكم فاطمة، وانما اعتبروني خادمة لكم".
وكانت ثمرة هذا الزواج اربعة بنين هم العباس، وعبد الله، وجعفر، وعثمان. وقد قتلوا كلهم بعد سنوات، في واقعة كربلاء. وكان الابن البكر لهذا الزواج هو العباس (ع).
"كانت فاطمة الكلابية (ام البنين) من النساء الفاضلات العارفات بحق اهل البيت (ع)، مخلصة في ولائهم، ممحضة في مودتهم، امتثالاً لأمر القرآن الكريم الذي جعل اجر الرسالة مودتهم. وكان لها عندهم الجاه الوجيه والمحل الرفيع. وعاشت بعد الامام علي (ع) مدة طويلة (اكثر من عشرين سنة) ولم تتزوج من غيره، حفظاً لحرمته.
كانت ام البنين على درجة عالية من الايمان، وكانت تحب أبناء رسول الله (صلي الله عليه واله وسلم) أكثر من حبها لأولادها. وعندما وقعت حادثة كربلاء، كانت تترقب الاخبار التي تصل من الكوفة. وكل من كان يخبرها بوفاة ابنائها كانت تسأله ابتداءً عن خبر الحسين (ع)، اذ كانت اخبار الحسين (ع) أهم عندها من اخبار ابنائها. كان العباس (ع) إبناً لمثل هذه المرأة الفاضلة العارفة بحق أهل البيت (ع)، وأبوه هو علي بن ابي طالب (عليهما السلام).
ولد أول مولود لأُم البنين في الرابع من شعبان سنة 26 من الهجرة، وقتل مع اخيه الحسين (عليهما السلام) في أول سنة 61 من الهجرة وعمره اربع وثلاثون سنة...
ملأت ولادة العباس بيت علي (عليه السلام) وقلبه نوراً وأملاً؛ لأن امير المؤمنين (ع) كان يرى ان ابنه هذا سيكون حامل لواء ابنه ذاك، والمضحّي بنفسه دونه في كربلاء التي كانت في انتظارهم. وسيبذل العباس بن علي (ع) نفسه دون الحسين بن فاطمة (ع).
وعندما ولد العباس، اخذه علي (عليه السلام) وأذّن وأقام في أُذنيه. وقرأ اسم الله ورسوله فيهما، فعقده مع الدين والتوحيد والرسالة، وسمّاه العباس (ع).
وفي اليوم السابع من ولادة أبي الفضل (عليه السلام)، قام الاِمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بحلق شعره، والتصدّق بزنته ذهباً أو فضّة على المساكين وعقّ عنه بكبش، كما فعل ذلك مع الحسن والحسين (عليهما السلام) عملاً بالسنّة الاسلامية.
"ذكر صاحب كتاب (قمر بني هاشم) ان ام البنين رأت أمير الؤمنين (ع) في بعض الايام اجلس أبا الفضل (عليه السلام) على فخذه وشمر عن ساعديه وقبلهما وبكى فأدهشها الحال لأنها لم تكن تعهد صبياً بتلك الشمائل العلوية ينظر إليه أبوه ويبكي من دون سبب ظاهر ولما اوقفها أمير المؤمنين (ع) على غامض القضاء وما يجري على يديه من القطع في نصرة الحسين (ع) بكت وأعولت...".
وعند مولد العباس (ع) امتلأت دار علي (ع) فرحاً وحزناًً؛ الفرح كان لمجيء هذا المولود الجديد، والحزن والدموع لما سيلقاه مُستَقبلاً في كربلاء من قطع يديه وقتله.
نشأ العباس في دار علي (ع) في حجر أمّه المؤمنة الوفيّة، والى جانب الإمامين الحسن والحسين (ع)، وتعلّم من آل رسول الله (ص)، من ابناء هذه الاسرة الطيّبة، دروساً عظيمة في الانسانية والاخلاص وسمو الاخلاق.
وقد كان لتربية الامام علي (ع) من غير شك، تأثير بارز في صياغة الشخصية الفكرية والنفسية لهذا الفتى. وجاء ادراكه العالي انطلاقاً من هذه التربية النبيلة.
"قيل لما كان العباس (ع) وزينب (ع) ولدي علي صغيرين، قال علي (ع) للعباس (ع) قل: واحد. فقال: واحد. فقال له: قل اثنان، قال: استحي ان اقول باللسان الذي قلت واحداً قول اثنان. فقبّل علي (ع) بين عينيه".
كان نبوغه الذاتي وتربيته العائلية سبباً لتكامله اخلاقياً وروحياً، ونمت تلك الجوانب من شخصيّته الى جانب نمو قواه الجسمية والعضلية حتى غدا شاباً كاملاً وممتازاً وصالحاً. لم ينحصر تفوقه في طوله الفارع فحسب، وانّما كان بارعاً في عقله وفي معالمه الانسانية أيضاً. كان يعلم لأي يوم عظيم قَد ادُّخِر، حتى يبذل نفسه في نصرة حجة الله. فهو قد وُلِد من اجل يوم عاشوراء.
كانت هذه الحقيقة نصب عيني علي (ع) حينما أراد الزواج بأُم البنين. وعندما كان علي على فراش الشهادة، ذكّر عباس (ع) بـ"سرّ الدم" هذا، وهمس في اذنه.
لما كانت ليلة احدى وعشرين من شهر رمضان عام 40هـ، واشرف علي (ع) على الموت، اخذ العباس (ع) وضمه الى صدره الشريف وقال: ولدي وستقر عيني بك في يوم القيامة، ولدي إذا كان يوم عاشوراء ودخلت المشرعة إياك ان تشرب الماء واخوك الحسين (ع) عطشان ...
كان هذا أول درس عاشوراء تعلّمه ليلة شهادة علي (ع)، وبقي في ذهنه على الدوام الى يوم عاشوراء.
لعلّه في تلك اللحظات الاخيرة من عمر علي (ع)، حين التف اولاده حول فراشه، وكان يساورهم القلق من المستقبل، لعله أوصى كل واحد منهم بما ينبغي. ولا يُستبعد انه اخذ بيد العباس (ع) ووضعها في يد الحسين (ع)، وقال له: يا عباس (ع)! نفسك ونفس الحسين (ع) في كربلاء. إياك ان تفارقه وتتركه وحيداً!.
كان لعباس (ع) شرف النسب والمحتد، وكثيراً ما كان يحظى برعاية علي (ع) وأمه، أم البنين. وكانت هذه المرأة امرأة شريفة وعارفة بحق اهل البيت (ع) ومخلصة في ولائهم. وفي المقابل كان لها عندهم الجاه الوجيه والمحل الرفيع، وقد زارتها زينب بعد وصولها المدينة تعزّيها بأولادها الاربعة، كما كانت تزورها أيام العيد. وهذا ما يدل على عظيم منـزلتها عندهم.
كنى العباس بن علي (ع)
للعباس (ع) أربع كنى أثنتان عرف بهما قديماً وأثنتان عرف بهما حديثاً عرفته بهما العوام؛ فالقديمتان هما أبو القاسم وأبو الفضل كني بابنيه القاسم والفضل، وهذه الأخيرة هي المشهورة حتى لا يكاد يعرف غيرها، فقيل: وأرى أن هذه الكنية له (ع) قد اشتقت من فضائله فإنه (ع) قد توشم فيه سمات الفضل منذ الصغر وزمن الطفولية فلقبوه به، وإليه يشير بعض من رثاه بقوله:
أبا الفضل يامن أسس الفضل والابا
أبي الفضل إلا أن تكون له أبا
فالمتوسمون لما توسموا في جبينه المشرق سمات الفضل، وظهرت لهم في ملامحه الفضائل على حد ما قيل:
إن الهلال إذا رأيت نموه
أيقنت ان سيصير بدراً كاملاً
فكنوه ابا الفضل عند ظهور تلك الإمارات والدلائل، وقد قيل:
قلم العلا قد خط فوق جبينه
اثر النجابة ساطع البرهان
دلنا على ذلك ما رواه أبن الحاج المالكي في كتاب المدخل عن أبي دواد في سننه عن شريح بن هاني عن أبيه أنه لما وفد على النبي (ص) في قومه سمعهم يكنون بـ(أبي الحكم) فدعاه رسول الله (ص) فقال ك إن الله هو الحكم وإليه الحكم فلم تكنى ابا الحكم؟ فقال: إن قومي إذا أختلفو في شيء أتوني فحكمت بينهم فرضي كلا الفريقيين بحكمي. فقال له رسول الله (ص): ما أحسن هذا ، ألخ؛ فالعباس (ع) أبو الفضل والفضائل.
أما الكنيات العاميتان فأبو فاضل وابن البدوية؛ فأبو فاضل هو أبو الفضل سواء، وأبن البدوية نظراً إلى أن أم العباس (ع) كانت من العرب التي تقطن البادية أنفة من ذل الامصار وفراراً من هوان الحضارة الذي تأباه نفوس العرب الاقحاح.
وأما كنيته عندهم بـ(أبي فرجة) فليس بكنية ـ كما عرفت ـ بل هي لقب بصورة الكنية حيث لم تكن للعباس بنت تسمى فرجة وإنما لقبوه بهذا لأنه كان كثيراً ما يفرج عنهم الكربات إذا توسلوا به إلى الله تعالى وأقسموا عليه بحقه وهذه عندهم من الامور القطعية وقد جربناها بانفسنا.
ألقاب أبي الفضل العباس (ع):
نوعان: قديمة ومستحدثة استحدثها العوام واشتقوها من صفاته وفضائله.
فالألقاب القديمة وكثيرة منها ما هو مشهور عند علماء التأريخ والسير ومنها دون ذلك في الشهرة، وتذكر آخر المباحث إن شاء الله.
فأما المشهورة عند النسابين والمؤرخين فهي (السقاء) أو (ساقي عطاشى كربلاء) ويسمى لذلك (أبا قربة)؛ قاله ابو الفرج في المقاتل، والدياربكري في تاريخ الخميس وغيرها، و(قمر العشيرة) أو قمر بني هاشم، و(بطل العلقمي) او بطل المسناة، (حامل اللواء) أو حامل لواء الحسين (ع)، و(كبش الكتيبة) و(العميد) أو عميد عسكر الحسين (ع)، و(حامي الظعينة) أو حامي ظعينة كربلاء، وكل هذه الالقاب مشهورة وهو معروف بها، وهي مشتقة من افعاله الكريمة وصفاته الفائقة.
السقاء او سقاء عطاشة كربلاء
هذا لقب نبيل اختص به ابو الفضل العباس بن علي (ع) حتى بلغ من شهرته أنه إذا اُطلق أنصرف إلى العباس الأكبر (ع) وإن شاركه فيه أبوه (ع) وأسلافه الكرام كما ستعرف ذلك.
والسقاية هي إرواء العطاشى من البشر في حالتي السلم والحرب، واشرفها سقاية الحرب وهي فضيلة من فضائل الإنسانية وأحد مكارم العرب ومفارخها العظيمة، وإنها من المآثر الشريفة ولا يفضلها إلا الإسلام وقد قال الله تعالى:(أجَعلتَُم سَقاَيةَ الحاجَّ وعَمِارَةَ المَسْجد الحرام كمَنْ آمَنَ بِاللهِ) الآية الشريفة،
فدلت هذه الاية على كونها من أعظم الفاخر والإيمان بلله أفضل منها، وسبب نزولها ـ على ما ذكر علماء الفريقين السنة والشيعة ـ وهذا نص فخر الدين الطريحي رحمه الله في مجمع البحرين أن سبب نزولها أنه أجتمع علي (ع) وعمه العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه وشيبة بن عثمان العبدري، فقال العباس: أنا أفضل لأن سقاية الحاج بيدي، وقال شبية: أنا أفضل لأن حجابة البيت بيدي، فقال علي (ع) أنا أفضل لأني آمنت قبلكما ثم هاجرت إلى رسول الله (ص)؛ فنزلت الآية، إنتهى. والآية لا تنفي فضيلة السقاية وإنما تثبتها وتثبت ان الإيمان أفضل منها.
سقاية أبي الفضل (ع) لعطاشى كربلاء:
قد تكرّرت منه السقاية وليست سقاية واحدة كما توهمه بعض اهل المقاتل بل هي ثلاث مرّات جلب فيها الماء لعطاشى عيال أخيه الحسين (ع) حسبما أستفدنا ذلك من الأخبار الواردة في قصّة المقتل الشريف.
السقاة يوم كربلاء ثلاثة:
أثنان علويّان العبّاس الأكبر وعليّ بن الحسين الأكبر، وواحد همدانيّ هو برير أبن خضير.
أما علي بن الحسين (ع) فذكر قصة سقايته فخر الدين الطريحي في المنتخب فراجعها، ورواها الصدوق القمي (رحمه الله) في الأمالي وأنه بعثه في ثلاثين فارساً وعشرين راجلاً وراجعها في قصّة المقتل من الأمالي، ورواها الدربنديّ في أسرار الشهادة.
وأما سقاية برير فرواها صاحب اسرار الشهادة وتبعه صاحب معالي السبطين وتركنا ذكر القصتين حذر التطويل وفوت الغرض المقصود.
أما سقاية العبّاس (ع):
فقد تكرّرت منه مراراً منها ليلة العاشر نفذل بأمر أخيه الحسين (ع) لطلب الماء، ومنها يوم العاشر قبل مقتله سمع صراخ العائلة وضجّة الصبية من الظمأ فأستأذن سيّده الحسين (ع): أحمل معك القربة، وفي هذه النوبة تمكن من الوصول إلى المشرعة ومل القربة لكنّه لم يتمكن من إيصال الماء إلى العائلة لأن حرس الماء قد تداعوا عليه من كلّ صوب واحاطوا به من كلّ وجه فقطعوا عليه خطّ الرجعة وعلموا أنّ سلامة القربة تحثّه على اختراق تلك الصفوف وأن الجموع مهما تراكمت وتكاثفت عليه سيشقها نافذاً إلى الحسين (ع) وأنّه يصل إلى مقصده لا محالة فرأوا من المستحيل صدّه عن مقصده إلاّ بإراقة ماء القربة فإن إراقة ماءها يوجب ضعف عزيمته ويوهن عزمه وينهك قوى نهضته فتعمدوا القربة وجعلوها هداف ورشقوه رشقاً متواصلا فأصابها بعض السهام المسددة نحوها فشقها واريق الماء فكانت هي السبب لأن يقف هدفاً للسهام وغرضاً للأسنة والظباة وآثر حينئذٍ المنيّة على مواجهة العائلة اللهيفة التي ترقب طلوعه عليها بالمنعش والمنقذ من لهفة الصدا وأرى أنّ موته الحرّ الكريم ايسر من إيراد حجج الاعتذار.