لئن كان البحث التاريخي عن القرون الأربعة الأولى بعد الفتح الإسلامي في المغرب مازال يسير متعثرا على يد الباحثين المختصين، بسبب قلة المصادر المعاصرة لهذه الحقبة بل انعدامها. فإن البحث الجغرافي عن معالم المدن والبقاع التاريخية في هذه الحقبة أيضا لا يقل عن سابقه تعثرا وغموضا ونقصا.
مدن المغرب في كتب الجغرافيين:
فإننا نجد المؤرخين يرددون أصداء بقاع مغربية وصل إليها عقبة بن نافع وموسى بن نصير، كما أنهم يحدثوننا عن مدن أسست أو جددت على يد الأدارسة في الشمال والجنوب والغرب، وأخرى خربت على يد برغواطة، أو الخوارج، وأخرى ظهرت أيام مغراوة وبني يفرن، يوم كانت هذه البلاد مسرحا للصراع بين الأموية الأندلسية والشيعة الفاطمية.
والمؤرخ الجغرافي الذي يحاول رسم مصور تاريخي وجغرافي للمغرب في هذه العصور لاشك أنه يقف أمام رموز والغاز ومشكلات لا سبيل لحلها والتغلب عليها إلا بإجراء عدة أبحاث وحفريات في طول البلاد وعرضها مع تحري المعالم والأطلال والآثار.
والذي يدرس كتاب (المغرب) وهو الجزء الخاص بإفريقية من كتاب المسالك والممالك لأبي عبيد البكري الجغرافي الأندلسي الشهير، يرى مجموعة من المدن والقرى والبقاع التاريخية في المغرب لا نكاد نعرف مكانها بالضبط كما لا نكاد نعلم من تاريخها شيئا، والبكري هو أقرب جغرافي لهذه الحقبة فقد كان يكتب مؤلفه سنة 460هـ وهو ذو خبرة واطلاع وثقافة موسوعية، عاصر زملاءه الموسوعين كابن حزم وابن بسام وابن حيان وغيرهم من أعلام الفكر والبحث في الأندلس.
وهو وإن كان لم يزر المغرب فإن معلوماته عن مسالكه ومراسيه وتاريخه تكاد تكون فريدة من نوعها لاسيما ونحن نجده ينقل عن مؤلفين لا نشك في (مغربيتهم) فهو يقول مثلا (ص160): "الطريق من مدينة أغمات إلى سوس، على ما ذكره مومن بن يومر الهواري"، فهذا مؤرخ أو جغرافي مغربي لا نكاد نعلم من أمره شيئا وقد اعتمده البكري في سرد معلوماته عن هذا الجزء من المغرب، كما اعتمد مؤرخا آخر، هو أبو صالح زمور بن موسى بن هشام بن واردزين البرغواطي عند كلامه على (ممالك برغواطة وملوكهم).
وامتدت حياة البكري إلى سنة 487هـ أي إلى ما بعد معركة الزلاقة بنحو الثمانية أعوم، وقد كان من رجال المعتمد بن عباد، وشاهد استيلاء المرابطين على الأندلس، ونفي المعتمد إلى أغمات، غير أن المعلومات التي يقدمها لنا في كتابه الذي بين أيدينا لا تتجاوز سنة 460هـ.
ولو وصلتنا كتب محمد بن يوسف بن عبد الله الوراق في مسالك إفريقية والمغرب التي ألفها للخليفة الحكم المستنصر يوم كان في صراع مع الفاطميين، لكنا في غنى عن المدن التاريخية في المغرب، فقد كتب الوراق عن نكور والبصرة وسجلماسة وغيرها من مدن المغرب وإفريقية، وهو قيرواني النشأة هاجر إلى الأندلس وتوفي بها سنة 363هـ (انظر عنه في: التكملة، ط دار الفكر، ترجمة رقم 1016).
والمؤرخون يرددون عدة أسماء للمدن التي كانت أيام الأدارسة، منها مدينة باب أقلام قرب طنجة، وحجر النسر، وحصن عكاشة قرب ورغة، ومدينة كرت، وجراوة وزواغة، وجوطة، والبصرة، وتامدولت، ونكور وغيرها، كما أن ياقوت الحموي في معجم البلدان يشير إلى بعضها، لكن التحديد يحتاج إلى بحث وحفريات عسى أن يجود الزمان برجالهما في هذه البلاد.
مدن المغرب في كتاب الاستبصار في عجائب الأمصار:
ومؤلف كتاب (الاستبصار في عجائب الأمصار) هو أيضا يعطينا معلومات عن مدن المغرب التي كانت في عصره مشهورة، وقد ألم بكثير مما عند البكري وغيره كما زاد بعض ما جد في الموضوع مع مشاهدات شخصية، وأخبار تلقاها عن التجار ورجال القوافل الذين كانوا يضربون في الأرض ما بين القيروان وتلمسان وفاس وسجلماسة وأقطار الصحراء والسودان.
وقد عاش في العصر الذهبي لدولة الموحدين وكان متصلا بالخليفة يعقوب المنصور، ولا يترك مناسبة دون التنويه بالدولة الموحدية ومآثرها وأعلام ملوكها، وكتابه الاستبصار لون غريب من التأليف فهو يبدأ رحالة يصف معالم الحجاز والحرمين الشريفين ويعرج على مصر فيذكر ما فيها من العجائب ويذكر تاريخها وجغرافيتها، جامعا بين الحقائق والأساطير. وينتهي إلى أرض إفريقية وهناك يجد مكان القول ذا سعة، إذ هناك يجد النفوذ الموحدي الممتد من حدود مصر إلى مجاهل الصحراء فيمر بمراسي الساحل التونسي والجزائري ويصف المدن والبقاع وصفا لا يخلو من دقة وعمق وفائدة للمؤرخ والجغرافي على السواء.
ويربط مراسي المغرب على البحر المتوسط بمراسي الجزائر لأنه يريد أن يعطيك صورة عامة عن السواحل وما يجاورها من المدن والقرى قبل أن يتفرغ للمدن الداخلية كفاس ومراكش وأغمات، حتى إذا وصل إلى طنجة حدثك عما بعدها من المراسي المغربية، أصيلا وتشمس، وسلا ورباط الفتح.
ويبدأ حديثه عن مراسي المتوسط هكذا :
مدينة ترنانا:
"كانت مدينة كبيرة مشهورة على ساحل البحر، وكانت محطا للسفن، ومقصدا لقوافل سجلماسة وغيرها. وعلى هذا الساحل مدن كثيرة قد خربت، وكانت في سالف الأزمان آهلة كثيرة الخصب مثل مدينة تامجريت وهي ساحل، وبه مدينة مليلية وهي مدينة قديمة مشهورة ولها سور صخر. داخلها قصبة مانعة، ودخلها الناصر سنة 314هـ وبنى سورها".
مدينة عجرود:
"مدينة قديمة على البحر فيها آثار كثيرة ومرسى مقصود".
مدينة نكور:
"مدينة كبيرة بينها وبين البحر نحو 10 أميال وهي بين رواب وجبال، ولها نهران أحدهما يسمى نكور وبه سميت ومخرجه من بلاد كزناية من جبل كوبن، ومن هذا الجبل ينبعث النهر المعروف بورغة. (ويتبع هذه المعلومات الجغرافية بمعلومات تاريخية مفيدة) ويقول: ويجاور مدينة نكور جبل غمارة وتحته مراس كثيرة، منها مرسى بادس عليه عمارة كثيرة من البربر وفيه السعر رخيص ومنه تحمل مراكب الطعام".
مدينة تطوان:
"وهي مدينة قديمة كثيرة العيون والفواكه والزرع طيبة الهواء والماء" (ولاشك أنه يعني تطوان القديمة)
مدينة سبتة:
يتحدث المؤلف عن جغرافيتها وتاريخها ثم يسطر هذا النص الكبير الأهمية: "وأمر الخليفة أمير المؤمنين أبو يعقوب رضي الله عنه سنة 580هـ بجلب الماء إليها من قرية بليونش المذكورة على ستة أميال من سبتة في قناة تحت الأرض حسب ما جلبه الأوائل في قرية قرطاجة وغيرها، وشرع العمل فعرضت أمورا وجبت التربص إلى حين يأذن الله تعالى بذلك، والرجاء الآن مؤمل ونحن في سنة 587هـ. وعلى قرية بليونش المذكورة جبل عظيم فيه القردة، عبر من تحته موسى بن نصير إلى ساحل طريفة فسمي به".
ثم يعرج على مراسي المحيط فيذكر:
مدينة طنجة:
يردد المؤلف أسطورة القنطرة التي كانت على بحر الزقاق وتعرف في كتب الأقدمين بأعمدة هرقل، كما يردد أسطورة الجزائر السعيدة، ويحدثنا عن قناة الماء الكبيرة التي تجلب ماء الشرب إلى المدينة. ولا ينسى أن يذكر ما قيل من الشعر في ماء (برقال) وشاربيه. وليس في معلومات المؤلف بعد ذلك عن طنجة ما يلفت النظر.
مدينة أصيلا:
يذكر أنها كانت عامرة ذات مرسى مقصود، وقد خربت على يد المجوس في القرن الثالث ثم الرابع الهجري (لعله يقصد النرومانديين الذين هاجموا سواحل الأندلس وإفريقية مرارا).
مدينة تشمس:
"وهي مدينة قديمة أزلية فيها آثار للأول، وهي على نظر واسع كثير الخصب والزرع والضرع، وهي تشبه بلاد الأندلس، وبقربها بحيرة كبيرة تسمى أمسنا يصب فيها البحر 7 أعوام وتصب في البحر 7 أعوام وينقطع البحر عنها فتظهر جزائر بينها غدران يتصيد فيها أنواع السمك، وبين البحر والبحيرة مسجد مقصود يسكن حوله النساك وأهل الخيرة، وأمرهم بتلك الجهات معروف".
مدينة سلا:
"اسمها بالأعجمي شله، وهي مدينة أزلية فيها آثار للأول وهي معروفة بضفة الوادي، متصلة بالعمارة التي أحدثها الخليفة الإمام أمير المؤمنين وآبائه المكرمون، وقد كان اتخذ أرباب البلد العشريون وأولياؤهم مدينة بالعدوة الشرقية وهي المعروفة الآن بسلا. وأمر الخليفة أبو يعقوب رضي الله عنه ببناء مدينة كبيرة متصلة بالقصبة التي أحدثها الإمام أمير المؤمنين، وفي هذه القصبة جامع وقصور وصهاريج الماء أمام الجامع وهو مجلوب من نحو 20 ميلا".
فهذا النص على ما فيه يدلنا على أن البناء في مدينة رباط الفتح قد شرع فيه قبل الخليفة يعقوب المنصور أي منذ عهد عبد المؤمن بن علي. وبذلك تنحل العقدة التي كنا نجدها عند ما نرى عبد المومن يكاتب ويراسل عماله ورعيته من مدينة الرباط. (انظر رسائل موحدية، ص 44/56/62/128).
أما المدن الداخلية التي تحدث المؤلف عن جغرافيتها وتاريخها فهي:
فاس:
"وقاعدة بلاد المغرب مدينة فاس -كلاها الله- هي أعظم مدينة من مصر إلى آخر بلاد المغرب، ومدينة فاس مدينتان كبيرتان متفرقتان يشق بينهما نهر كبير يسمى بوادي فاس، يدور عليها سور عظيم، وبين المدينتين قناطر كثيرة، وتطرد فيها جداول ماء لا تحصى تخترق كلتي المدينتين تسمى بالسواني، لابد لكل دار من ديار المدينتين منها. وفيها عيون كثيرة لا تحصى عددا، وفيها من أرحية الماء 360 رحى"، ويكتب المؤلف ثمان صفحات عن مدينة فاس واصفا كل شيء يتعلق بمعالمها ونظامها وما قيل في أهلها، ولا ننسى أن المؤلف كان يكتب كتابه هذا في عصر الموحدين الذي كانت فيه مراكش عاصمة إمبراطورية تضم شمال إفريقيا والأندلس.
وقد استفاد صاحب القرطاس مما في الاستبصار حول فاس، فنقل ذلك في كتابه باللفظ تارة وبالمعنى أخرى. ومن الألفاظ التي استفدنا معناها من المؤلف لفظة (شريعة) التي كان يقصد بها في ذلك العصر المصلى فهو يقول: "وفي كل عدوة شريعة لخطبة العيدين" فالشريعة إذن هي المصلى. وباب الشريعة التي أسست في العصر الموحدي على يد الناصر لدين الله الموحدي هي باب المصلى.
رباط تازا:
يذكر المؤلف أنه بني على عهد الموحدين سنة 568هـ. كما يذكر أنه كانت هناك قلعة للمهدي ابن توالي الجيفشي في جبال فازاز وإليها كان تغريب المعتمد بن عباد. ونحن نعلم أن المعتمد غرب إلى طنجة، كما عند المؤرخين ثم إلى مكناسة كما عند الأمير عبد الله آخر ملوك بني زيزي في غرناطة في مذكراته.. قبل أن يصل إلى أغمات حيث قضى بقية حياته هناك. فلا يبعد أن يكون قد مكث في هذه القلعة قريبا من جبال فازار قبل أن يصل من طنجة إلى مكناسة الزيتون، كما عند هذا المؤلف.
مكناسة الزيتون:
وهي أربعة مدن وقرى كثيرة متصلة بالمدن والحصون يذكر المؤلف خصبها وخيراتها وما أحدثه الموحدون بها.
ثم يذكر دخول المولى إدريس المغرب ونزوله بمدينة وليلي ويصفها بقوله: "وكانت مدينة رومية قديمة بطرف جبل زرهون في الغرب منه وتسمى الآن تيسرة".
وما يلفت نظر الباحث عند المؤلف قوله:
1- وكان إسحاق بن محمد الأوربي معتزلي المذهب فوافقه إدريس على مذهبه.
2- وانطلق سليمان (أشماخ) مع صاحبه فلم يزالا يتغلغلان في البلاد حتى وصل إلى إدريس، وكان إدريس عالما برياسة سليمان بالزيدية.
برغواطة:
ويتفرغ المؤلف إلى برغواطة فيتابع البكري فيما ذكره عن هذه الطائفة الضالة المضلة ويذكر جميع ما يتعلق بها في العقائد والعادات والنظام والقبائل التي دانت بها والثورات التي قامت بها.
سجلماسة:
ومن هنا ينتقل إلى الجنوب الشرقي حيث يحدثنا طويلا عن سجلماسة وجغرافيتها واقتصادها وتاريخها مما لا غنى لنا عنه في الكتابة عن تلك المدينة العظيمة النائمة تحت التراب منذ أجيال.
وينعطف إلى الغرب فيذكر درعة وأغمات وريكة وأغمات هيلانة ومدينة نفيس التي دخلها عقبة بن نافع سنة 62هـ وبنى بها مسجدا كان معروفا على عهد المؤلف.
مراكش حاضرة بلاد المغرب:
ثم يصل إلى مراكش حاضرة بلاد المغرب ودار مملكتها، فيقول إن تأسيسها كان سنة 459هـ ويصف معالمها في عصره، ويظهر أن المؤلف من مواليد مراكش نفسها حيث أنه يذكر سباحته مع رفاقه في الصهريج المحدث على عهد عبد المومن بها.
ويصرح المؤلف أن باني المسجد والمنار العظيم الذي لم يشيد في الإسلام مثله (جامع الكتيبة) هو الخليفة الإمام عبد المومن وأكملها ابنه أبو يعقوب يوسف، وهذا يخالف ما عند كثير من المؤرخين أن باني المنار هو يعقوب المنصور.
بلاد السوس:
وبعد مراكش ينتقل بنا المؤلف إلى بلاد السوس فيصف مدينة إيجلي التي وصلها عقبة بن نافع وما فيها من جنات وخيرات وغلات، وقصب سكر. ثم يصف لنا مدينة تامدولت التي أسسها عبد الله بن ادريس وتوفي بايجلي وبها قبره.
ومن سوس ينتقل إلى أقاليم الصحراء المغربية ثم إلى السودان وبلاد غانة حيث كانت القوافل المغربية تربط خطوط المواصلات بين الإمبراطورية الموحدية وقلب إفريقيا السوداء من أجل الازدهار الاقتصادي الذي كان عاما في تلك الأعصار.
هذه مدن المغرب في كتاب الاستبصار، وهذا كتاب الاستبصار، أما المؤلف فما زلنا لا نعرف عنه شيئا إلا ما نأخذه من نفس الكتاب. ومثل هذا يقال عن المراكشي صاحب المعجب، وابن عذاري، وابن أبي زرع، وغيرهم من المؤرخين المتقدمين.
* المصدر: مجلة دعوة الحق المغربية، العدد 54.