قراءة في تاريخ السينما العراقية

ليث الربيعي
يرى كثير من الباحثين إن السينما العراقية تعد واحدة من ابرز سينمات الوطن العربي، من حيث المضمون الفكري أولا ومن حيث عدد الأفلام المنتجة ثانيا، فضلاً عن إنها رابع أقدم صناعة سينمائية بعد المصرية والسورية والتونسية، رغم كل ما مر بها من ظروف قاهرة جعلت من فترات صمتها تطول، إلا إنها كانت متميزة. شهد العراق أول عرض سينمائي(سينما توغراف) ليلة الأحد 26 تموز 1909 في دار الشفاء في الكرخ، وبعد مرور عامين شهدت منطقة العبخانة عرضاً آخر نظمه تاجر يهودي متخصص في إستيراد المكائن إسمه (بلوكي) وأصبحت أول دار عرض تفتح في بغداد وبعدها تعددت دور العرض السينمائية مثل (أولمبيا) و(سنترال سينما) و(السينما العراقي) و(السينما الوطني) ومنذ 1909 ظل القطاع الخاص المستورد والموزع للأفلام، وعلى اثر اتساع العروض وتأثير دورها وزيادة اهتمام الصحافة بالسينما جرت عدة محاولات لإنتاج أفلام في العراق، إحداها سنة 1930 إذ سافر حافظ القاضي بطيارة إلى إنكلترا لجلب أجهزة ولوازم السينما تمهيدا لإنتاج فيلم في العام 1938 إلا أن هذه المحاولة قد أجهضت قبل أن يتمكن أصحابها من تصوير اللقطات الأولى للفلم. وفي الأربعينيات شرع أثرياء الحرب بتكوين الشركات السينمائية وكان أولها (شركة أفلام بغداد المحدودة) التي أجيزت في عام 1942 ولم توفق في إنتاج أي فيلم. وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية، بدأت صناعة الفيلم في العراق، ولم يحالفها الحظ في دخول الإنتاج إلا في العام 1946 بإنتاج أول فيلم عراقي من قبل مجموعة من الشبان المتحمسين للسينما الذين أسسوا (شركة أفلام الرشيد العراقية-المصرية)، وكان الفيلم (ابن الشرق) الذي أخرجه (إبراهيم حلمي) وعرض خلال أيام عيد الأضحى المبارك في20/11/ 1946 في سينما الملك غازي، دفع نجاح فيلم (ابن الشرق) إسماعيل شريف صاحب سينما الحمراء في بغداد بالتعاون مع اتحاد الفنانين في القاهرة الذي يضم المخرج احمد بدرخان, والمصور عبد الحليم نصر, والماكيير آنذاك حلمي رفله إلى إنتاج فيلم (القاهرة- بغداد) الذي قام ببطولته عميد المسرح العراقي حقي الشبلي أمام الفنانة مديحة يسري، وعرض الفيلم في بغداد لأول مرة في 10/3/1947 في سينما الحمراء. كان لنجاح هذين الفيلمين صداه عند عدد من المستثمرين الذي انشئوا أول أستوديو سينمائي في العراق هو (أستوديو بغداد) وكان باكورة أعمالهم فيلم (علية وعصام) المستوحى من قصة روميو وجولييت ولكن بأسلوب بدوي، واشترك في التمثيل إبراهيم جلال وعزيمة توفيق وجعفر السعدي وأخرجه الفرنسي اندريه شوتان، وصوره جاك لامار، وعرض الفيلم لأول مرة في 12/3/1949. في سينما روكسي، وجاءت التجربة الثانية لأستوديو بغداد مخيبة للآمال حيث فشل فيلم (ليلى في العراق) الذي أخرجه المصري أحمد كامل مرسي وعرض في سينما روكسي بتاريخ 15/12/1949، ويعود سبب فشل الفيلم إلى اعتماده على نجاح فيلم سابق للمطرب محمد سلمان بعنوان (لبناني في الجامعة) سنة 1947، والذي أخرجه حسين فوزي وشاركته البطولة المطربة صباح. إن هذه الأفلام اثارت بعض الشبان الذين اطلعوا على أسرار هذا الفن الجميل وامتلكوا بعض المؤهلات التي تساعدهم على قيادة هذه الصناعة الجديدة. لكن بعد عرض فيلم (ليلى في العراق) أصاب القطاع الخاص الخمول ولم يستطيع أحد إنتاج فيلم يستهل فيه الخمسينات. وفي العام 1953 استطاع ياس علي الناصر من تأسيس شركة (دنيا الفن) واعتمدت هذه الشركة على قدرات عراقية خالصة، وكان فيلمها الأول (فتنة وحسن) الذي أخرجه حيدر العمر وجرى عرضه في 20/6/1955، وأدى نجاح هذا الفيلم إلى تشجيع هواة السينما وأصحاب رؤوس الأموال على تأسيس شركات سينمائية والشروع بإنتاج الأفلام، وكان أول هذه الأفلام فيلم (وردة) إخراج وسيناريو يحيى فائق، وبعد إنتاج هذا الفيلم بدأت تظهر أفلام قليلة ذات مضامين رمزية وإنسانية مثل فيلم (ندم) الذي بدأ تصويره عام 1955 وعرض في عام 1956 وهو من إنتاج شركة سامراء، وبطولة حسين السامرائي وعزيمة توفيق وقصة وسيناريو وإخراج عبد الخالق السامرائي، وفيلم (من المسؤول) الذي بدأ تصويره عام 1956 وعرض لأول مرة في أيلول 1957 وهو من إنتاج شركة سومر للسينما، كتب السيناريو له وأخرجه المخرج عبد الجبار ولي توفيق عن قصة الكاتب العراقي أدمون صبري، ويعد هذا الفيلم واحداً من أهم الأفلام العراقية ونقطة مضيئة في تاريخها، لأنه أول فيلم تناول الواقع العراقي بأسلوب واقعي، وتعرض للواقع الاجتماعي المنهار والمشاكل التي يرزح تحتها الإنسان المسحوق في الخمسينات. وفي عام 1958 بدأ تصوير فيلم (ارحموني) وهو من إنتاج شركة الحداد والشيخلي وسيناريو وإخراج حيدر العمر، وعرض هذا الفيلم لأول مرة في آذار عام 1958. وقد سبق عرض هذا الفيلم، عرض فيلم (سعيد أفندي) الذي يعد والى الآن علامة بارزة أخرى في السينما العراقية، وهو من إخراج كاميران حسني ومثل فيه يوسف العاني وزينب وجعفر السعدي وعرض في شباط 1957 وهو من إنتاج شركة اتحاد الفنانين لصاحبيها كاميران حسني وعبد الكريم هادي ومقتبس عن قصة شجار للكاتب العراقي ادمون صبري وسيناريو وحوار يوسف العاني، وقدم الفيلم أحوال الحواري البغدادية والعلاقات الاجتماعية والأزياء وألعاب الأطفال خلفية لدراما الفيلم الذي يتحدث عن خلاف ينشأ بين جارين بسبب مشكلة بسيطة إلى أن تتطور ولكن في نهاية المطاف تسود روح التسامح والمحبة بين أبناء الحي. ومع بداية عام 1958 بدأ تصوير فيلم (أدبته الحياة) للمخرج مهند الأنصاري وإنتاج شركة مهند الصراف وتمثيل مهند الأنصاري ومديحة شوقي، وفي العام نفسه عرض فيلم (عروس الفرات)، من إنتاج شركة أفلام النسر قصة وسيناريو وحوار وإخراج عبد الهادي مبارك، ويتحدث الفيلم عن فتاة تهرب من عائلتها من اجل أن تتعلم. وعرض في عام 1958 فيلم (الدكتور حسن) وهو من إخراج محمد منير آل ياسين وانتاج أفلام ( دنيا الفن) ومثله ياس علي الناصر وخلود وهبي، وعرض أيضاً فيلم ( تسواهن ) الذي أنتجته شركة سمير أميس وكتب القصة والسيناريو وأخرجه حسين السامرائي ومثل فيه حسين السامرائي ورمزية حميد. وفي عام 1959 قدم برهان الدين جاسم فيلمه ( إرادة شعب ) تمثيل إبراهيم العزاوي وأزهار أحمد، وأنتج الفيلم عبد الرزاق الاسدي. قدم القطاع الخاص من شركات وأفراد عدة أفلام لا تخرج طبيعتها عن الأفلام المقلدة للأفلام المصرية باستثناء فيلم ( قطار الساعة 7) والذي عرض في عام 1962 لمخرجه حكمت لبيب، وعرض أول فيلم عراقي ملون وهو فيلم (نبوخذ نصر) لمخرجه كامل العزاوي من إنتاج شركة شهرزاد وتمثيل سامي عبد الحميد ونجلاء سامي حيث بدأ إنتاج هذا الفيلم عام 1957 وبلغت تكاليفه أكثر من أربعين ألف دينار وتم إنجازه عام 1961 ولم يسترد تكاليف الإنتاج عند عرضه وتوزيعه سنة 1962، وأنتج فيلم (اسعد الأيام) في عام 1963 وهو من إخراج برهان الدين جاسم ومن إنتاج أفلام الزبيدي ومثله عارف الزبيدي ومديحة وجدي، وعرض فيلم (يد القدر) عام 1963 وهو من إخراج كامل العبدلي ومن إنتاج أفلام العربي وبطولة عدنان الإمام وسلمى عبد الأحد، وعرض فيلم (العودة للريف) عام 1963، أخرجه وانتجه فالح الزيدي وهو من بطولة رفعت إبراهيم وسليمة خضير، وعرض فيلم (بصرة ساعة 11) الذي أخرجه وليم سيمون ومن إنتاج أفلام الجمهورية وقد عرض الفيلم عام 1963. وفي عام 1964 عرض فيلم (مع الفجر) لمخرجه عبد الجبار العبيدي ومنتجه هلال المالكي وبطولة فاروق هلال وبرلنتي حميد، وفي العام نفسه عرض فيلم (عفرة وبدر) لمخرجه فالح عبد العزيز الزيدي ومن إنتاج صالح الشيخلي وتمثيل ياس علي الناصر وبرلنتي حميد، وعرض في عام 1965 فيلم ( ليالي العذاب) إخراج جواد الشيخلي وإنتاج وتمثيل سليم الوكيل وأحلام وهبي، وتم عرض فيلم (غزالة) وهو من إخراج جواد مطشر وإنتاج شركة أفلام الكواكب وتمثيل سليم سالم وبرلنتي حميد في عام 1965، وفي عام 1966عرض فيلم (الغرفة رقم 7 ) وهو من إخراج كاميران حسني وإنتاجه وتمثيل عبد الله الشماس ونادية جمال، وأنتج هاشم جعفر فيلم (درب الحب) وهو من إخراج برهان الدين جاسم في عام 1966 مثله المطرب فاروق هلال ومديحة وجدي. وبعد عام 1968 صدر قانون دمج المصلحة بالمؤسسة العامة للإذاعة والتلفزيون، وفي عام 1972 صدر قانون فصل المؤسسة من الإذاعة وتحويلها إلى مؤسسة تعنى بشؤون السينما والمسرح. وفي عام 1975 استطاع الفيلم العراقي الوثائقي تسيد الموقف الفني فاشترك بمهرجانات سينمائية عالمية منها (لايبزغ وموسكو وكارلو فيفاري وطشقند وقرطاج) ووصل معدل ما أنتج من أفلام وثائقية إلى أربعين فيلما تناولت موضوعات عديدة علمية وتربوية وتأهيلية وثقافية. أما الأفلام الروائية فقد تميزت بانطلاقها من الواقع الموضوعي للمجتمع مثل (بيوت في ذلك الزقاق) عام1977 إخراج قاسم حول، و(التجربة) عام 1978 إخراج فؤاد التهامي، و(النهر) عام 1978اخراج فيصل الياسري، وقد عرضت هذه الأفلام بعد الإنتاج الأول للمؤسسة وكان بعنوان (الرأس) للمخرج فيصل الياسري عام 1977. شهد منتصف السبعينات الانطلاقة الحقيقية للسينما العراقية، وذلك من ناحية الإنتاج المنتظم والنوعية الجيدة للأفلام التي أنتجتها المؤسسة العامة للسينما، وفي هذا السياق، نذكر إن المؤسسة قامت بإنتاج مجموعة أفلام روائية امتازت بجديتها وخروجها عن النمط السائد في معظم البلدان العربية في ذلك الوقت. ومن هذه الأفلام هناك (الظامئون) لمحمد شكري جميل، و(المنعطف) لجعفر علي، و(بيوت في ذلك الزقاق) لقاسم حول. وخلال هذا العقد، ظهرت أفلام جادة ونظيفة أخرى، كان لها دور كبير في بناء السينما العراقية الجديدة التي نشطت آنذاك، إذ تمكن الجيل الشبابي المحب للسينما من فرض حضوره على الساحة الثقافية المحلية والعربية، فظهرت أفلام مثل (الأسوار) لمحمد شكري جميل عام 1979، و(القناص) لفيصل الياسري عام 1980، هذه الأفلام كانت تسعى لخلق سينما عراقية جادة تكسر جمود السائد وتحاور العقل والروح، فكانت مصداقا لهؤلاء السينمائيين يسجلون فيها مواقفهم وآرائهم إزاء التطورات التي شهدتها الساحة السياسية العراقية، فكان الحلم السينمائي العراقي، حلما واقعيا، ذاتيا، يحاور الآخر، ويستخلص تجاربه، ويستفيد منها، حتى إن السلطة الحاكمة آمنت به وراحت تنفق عليه، فاستضافت السينمائيين والصحفيين من شتى أنحاء العالم، وتعاملت معهم، في محاولة للتلاقح والتقارب فيما بين السينمائيين، في ذلك الحين تكاثرت المهرجانات والمشاريع، وصارت بغداد بشوارعها وساحاتها أماكن يلتقي فيها المهتمين بالشأن السينمائي، ويحيطهم الشباب العراقي الذين راحوا يمارسون طقوسهم السينمائية، فقدموا مشاريع حقيقية متميزة أثارت حفيظة السلطة الحاكمة. وفي أيام تغير كل شيء وتمخض عن ذلك الحلم الجبل أشياء هلامية حملت أسماء وعناوين معظمها يشكل اليوم إرثا ثقيلا ناءت بحمله السينما العراقية، فآل بها الحال إلى استعراض أمجاد وضرورات القائد الملهم عبر مغامرات كرتونية لا تنطلي أكاذيبها حتى على الصغار، وما يؤسف له حقا إنها وقعت بأسماء كبار السينمائيين العراقيين والعرب كالفيلم-الكرتوني الخارق-(الأيام الطويلة) لمخرجه المصري توفيق صالح عام 1980، وتلاه فيلم (القادسية) للمصري أيضا صلاح أبو سيف عام 1981. وإذا ما نظرنا إلى إنتاج السينما العراقية في السبعينات وقارناه بإنتاج الثمانينات، فسنجد أن سني الثمانينات شهدت تطورا ملحوظا في كمية الإنتاج السينمائي التابع لمؤسسة السينما العراقية، إذ بلغ عدد الأفلام المنتجة 28 فيلما قياسا بسنوات السبعينات الذي بلغ 16 فيلما، بيد إن ما يلفت النظر في إنتاج عقد الثمانينات هو ظهور أفلام ما يسمى بسينما قادسية ..... المجيدة، وهذا النوع من الأفلام رغم ما رصد له من ميزانية هائلة لم يحقق أي نجاح يذكر، لا على الصعيد المحلي ولا على الصعيد العربي والعالمي، ونستطيع بنظرة بسيطة على مجمل الإنتاج السينمائي العراقي في زمن الحرب العراقية-الإيرانية، أن نكتشف مدى الضعف الفني الذي ابتليت به تلك الأفلام، فمثلا هناك الفيلم الحربي (المهمة مستمرة) لمحمد شكري جميل، الذي لا يصمد في النقد أمام أي فيلم سابق لنفس المخرج، هذا فضلا عن الحكاية الساذجة التي لا تنطلي كذبتها حتى على الصغار، وهناك الفيلم الحربي الآخر(ساعات الخلاص) لطارق عبد الكريم الذي يرصد سقوط طائرة يقودها طياران عراقيان في أراضي الجمهورية الإسلامية في إيران أثناء الحرب، فيضطران للهبوط بالمظلات في الأراضي الإيرانية، ومن هناك يتخذان طريقا في محاولة للوصول إلى الأراضي العراقية، ورغم المعانة يصلان سالمين إلى ارض الوطن، وهناك فيلم (الحدود الملتهبة) لصاحب حداد، وفيلم (المنفذون) لعبد الهادي الراوي، وفيلم (صخب البحر) لصبيح عبد الكريم، وفيلم (شمسنا لن تغيب) لعبد السلام الاعظمي، وفيلم (الفارس والجبل) لمحمد شكري جميل، وفيلم (عرس عراقي) لمحمد شكري جميل... وغيرها، وهي بمجملها أفلام رغم ضخامة إنتاجها، إلا إنها تعاني ما تعاني من ضعف على مستوى الحكاية الفيلمية والإخراج. وشهدت الفترة الممتدة من عام 1991 ولغاية عام 2003، نضوبا شاملا للسينما العراقية، بفضل السياسة العقيمة للنظام السابق وزبانيته الحاكمة، وأسفر عن غياب كامل للسينما العراقية والسينمائيين، الذين التجئوا إلى دول العالم في محاولة لتقديم نتاجاتهم السينمائية، وهي محاولات لم يكتب لأغلبها النجاح، إلا إنها كانت خير عون للسينما العراقية الجديدة التي نهضت من ركام الحرب ومن بين أنقاض دمار مؤسسة السينما العراقية، فجاءت الأفلام العراقية الجديدة طموحة، فارضة نفسها بقوة على ساحة السينما العربية والعالمية. وأخيرا يمكن القول إن السينما العراقية التي نشأت فقيرة، في بستان بسيط في بغداد، وترعرعت في كنف مؤسسة السينما والمسرح، وتطورت بفضل مجموعة واعية من السينمائيين في منتصف السبعينات، أثرت فيها ظروف البلد غير المستقرة، لكنها ستحاول العودة والنهوض من جديد.