لقّم أبو العلا عبد ربه سلاحه، وانطلق ليلاقي رفاقه، شربوا الشاي، وضعوا اللمسات الأخيرة على الخطة، تواصلوا مع الأمير والشيخ القدير، ومضوا. في حي مدينة النصر في القاهرة، اجتمع أبو العلا مع رفيقيه، عبد الشافي أحمد محمد رمضان وأشرف السيد إبراهيم صالح. سلّم إليهما الأسلحة وانتظر الثلاثة ثماني ساعاتٍ أمام مكتب المفكر المصري فرج فودة، ففرج مهدورٌ دمه، بتهمة القفز بالأفكار العلمانية 80 عاماً إلى الأمام، وبالتالي "العبث" بقيم المجتمع المصري والعربي من خلال كتاباته.
نجح عبد الشافي، عضو تنظيم الجهاد الذي يترأسه الشيخ عُمر عبد الرحمن، بقتل جسد فرج فودة، بينما نجح فرج القتيل بتخليد فكره وصفع المجتمع بمقتله، عل المجتمع يستعيد وعيه، أو جزءاً منه. عبد الشافي كان بائعاً للأسماك، وأبو العلا كان بدوره صياداً يافعاً. يجزم أبو العلا ويُؤكد أنهما لم يقرآ أي كتابٍ للمفكر فرج فودة، أو أي منشورٍ طوال حياتهما، لكنهما ارتضيا أن يكونا الأداة التي يُحاول فيها من حركهما قتل فودة بتهمة الإلحاد والكفر. غيب الشابان إرادة التفكير، وسلكا درب التكفير، فكان مصيرهما السجن ومصير المفكر الموت، حاله حال الكاتب الأردني، ناهض حتر الذي يختلف معه كُثُرٌ بسبب آرائه الجدلية في معظم الأحيان، وشخصيته الإشكالية من حيث الأفكار والكتابات، دينيةً كانت أم سياسية.
وجد حتر نفسه عُرضةً لمحاكمةٍ قضائية، لسببٍ سخيف، وهو نشرُ كاريكاتور لم يرسمه هو، يُظهر متطرفاً وفي حضنه فتاتان، يسأله الرب عما يحتاجه من خدمات. ثارت ثائرة المتطرفين، وانصاعت الحكومة لمطالبهم، فحاكمت ناهض بتهمة "المس بالذات الإلهية"، علماً بأن الملك ذاته، والحكومة ذاتها تضامنا مع حق مجلة "شارلي إيبدو" بالتعبير. لكن سمن المجتمع الغربي يختلف عن زيت المجتمع الشرقي...
لم تؤمن الحكومة الأردنية أي حمايةٍ لحتر بالرغم من التهديدات التي تلقاها، مما سهل على القاتل رياض العبدلله قتله. الإهمال الحكومي ليس العامل الوحيد المؤسف في قضية ناهض حتر، بل التفاعل الجماهيري مع الجريمة. البعض هلل للقاتل ومجد الجريمة، فالدين طبعاً، أسمى من أن يطاله كاريكاتور تافه.
بالرغم من أن ناهض حتر برر مراراً أن هدفه تنزيه الذات الإلهية عما يطالها، لكن تبريره لم يشفع له، فالمجتمع الذي لا تهزه الجرائم، ولا تحرك فيه المجازر ساكناً، ينتفض رفضاً لرسمٍ كاريكاتوريٍ مسيىء للنبي تارةً ولله تارةً أخرى. تغيب الغيرة والنخوة عند نشر داعش وغيره من التنظيمات فيديوهاتٍ لذبحٍ وحرقٍ بإسم الإسلام. لم تخرج أي مظاهرةٍ رافضةٍ للفكر التكفيري. لم نشهد أي اعتراضٍ فعليٍ من مَن شمتوا بحتر وساهموا بقتله معنوياً على جرائم تُرتكب باسم الله، وتحت رايات سوداء تحمل شعار التوحيد! ما يردده هؤلاء حصراً معروفٌ وممل. المجرم لا يمثل الإسلام، دون أي تحركٍ فعلي يسحب البساط الديني من تحت هذا المجرم.
حضر رياض إسماعيل أحمد العبدلله لجريمته بشكلٍ متقنٍ قبل تنفيذها. رياض مهندسٌ كهربائي، حوّله التطرف إلى تاجر دينٍ وضحيةٍ في آن واحد، ضحيةٌ للفكر التكفيري ومدرسة الإلغاء، وسحب معه مجتمعاً كاملاٍ إلى ثقبٍ أسود، يعيدنا جميعاً إلى الوراء. لربما، إذ ما استمررنا بالرجوع، سنلتقي بالديناصورات قريباً، مع وجود الديناصورات الدينية والسياسية التي تستغل الشباب وتحولهم لأدوات قتلٍ وقمعٍ وتطرفٍ وإلغاء.
تعيش مجتمعاتنا الشرقية، وإن بنسب مختلفةٍ، حالةً من اللامساواة. المتدينون المتشددون يعتبرون أنفسهم أولياء على المجتمع، بحكم الطبيعة الشرقية والأغلبية الإسلامية. تملك هذه الشريحة نفوذاً سلطوياً ومجتمعياً، وتغلب معتقداتها على حساب معتقدات الآخر، الملحد أو العلماني خاصة. فحالة اللامساواة التي نعيشها، والتي اختبرها رائف بدوي، المدون السعودي السجين الذي هزت قضيته العالم بفعل جهود إنصاف زوجته، سُجن لأجل نشر أفكارٍ علمانيةٍ لا تمس بالآخر، بل تفتح باب الأسئلة لا غير. منذ قرابة السنة، تحادثتُ وإنصاف، كنت أظن أن رائف، بفعل الضخ الإعلامي، ليس إلا جاهلاً ملحداً بالدين من دون حجج وسُبُل. أوضحت لي زوجته أن رائف شابٌ تعمق في الدراسة والنقاش، لكن لم يجد من يناقشه، وجد باب السجن مفتوحاً بدل باب الحوار، دائماً تحت شعار المس بالذات الإلهية. في معتقدات المتطرفين، لا معنى للنقاش ولا وجود للاختلاف ولا احترام للتنوع. على المجتمع أن يصبغ بصبغةٍ واحدة، ولا يرحم هؤلاء حتى إبن ملّتهم، فقتلوا هم، الشيخ نزار الحلبي في بيروت العام 1994، فقط لأنه، لا يتوافق في الأفكار الدينية معهم تماماً، ولم تشفع له عمامته.
اللامساواة التي نعيشها، والتي يُظهر فيها من يمارسها قمعاً وقتلاً، كأن الله عاجزٌ بحاجةٍ لكفيلٍ ينتقم له، تلتقي مع هالةٍ من القداسة يبنيها الحكام والأمراء حولهم. فالمسّ بالذات الإلهية شبيهٌ من حيث الحكم القضائي بالمس بالذات الملكية والأميرية. يتغنى الحكام بالديمقراطية ودعم الشباب في مجالسهم، لكن، عند تعبير أي شابة كسارة الدريس عن رأيها، أو شابٍ كرائف عن أفكاره، يكون السجن مصير كل منهما. كأن الأمير أو الملك أصبح قديساً لا يُمس، مع أن الحرية، حرية التعبير خاصة، هي المقدسة الوحيدة إن أردنا بناء مجتمعٍ سليم... مع التسليم بأن حرية المعتقد واقعٌ لا يُمكن تجاهله، دائماً وأبداً، إن أردنا بناء مجتمعٍ سليم. ربما نصل إلى ذلك المجتمع يوماً ما، بعد خروجنا من الثقب الأسود، أو لقائنا بالديناصورات.