مقدمة ديوان جميل حيدر للشاعر الدكتور مهند جمال الدين
بسم الله الرحمن الرحيم
تتأثّر النصوصُ الأدبية بعضُها ببعضٍ, بل يتولّد بعضُها من بعضٍ, ولا يوجد هناك نصٌّ بريءٌ, بل إذا وجِدَ مثل هذا النصّ ينبغي أن لا ننسبَهُ إلى الأدب لأنه سيظلُّ هجيناً طوال حياتهِ, لا يعرف الآخرينَ ولا يعرفه الآخرون, فالأفكار والرؤى على هذا هيَ بالحقيقةِ أبناءٌ لأفكار ورؤىً سبقتها وعاشت نفس التجربة, ولا نجانب الواقعَ إذا قلنا أنها قيلتْ في فترةٍ سابقة.
نعم النمط والشكل ربما تكون له علاقةٌ بما نحسُّهُ من تغييرٍ في تلك النصوص,غيرَ أنّ الأزمنة الفكرية تظلُّ أزمنة متداخلةً على الرغم من تعاقبها لأنها تعتمدُ الوجودَ الحضاري, لا الوجود البايلوجي أو الفيزيائي,فانّ الأخيرين يلغيان ما قيل ليهيّئا بعد ذلك نصوصاً ستأتي فيما بعد, أما الوجود الحضاري فيعتمد على التداخلِ والتزامن بين الأفكار والرؤى, فكلُّ فكرٍ جديد لا يتولّد من عدمٍ أو فراغٍ, بل انّه يوجد متناثراً في أصقاع وأزمنةٍ أخرى.
وعلى وفقِ هذا الفهم يمكن القول بأنه لا يوجد مطلقٌ في الفكر والفن, وأنّ كل ما يمتُّ إليهما هو نسبيٌّ يتأثر بواقعهِ الفكري والاجتماعي والمعرفي وباللحظات التاريخية الموجِدة لهذا الواقع.
وعلى هذا فإنّ النتاجَ الفكري أو الفنّي أو الإبداعي إنْ كان قادراً على فهم اللحظات التاريخية والمتغيرات التركيبية والبنيوية للواقع, فإنّه يستطيع وقتئذ أن يضع له منزلةً مرموقة في نسقِ البنية الثقافية ويكون فاعلاً ومؤثراً في هذه البنية.
وهذا ما حصلَ فعلاً لجمعية الرابطة الأدبية, التي كانت من أكثر المؤسساتِ الثقافية فاعليةً في مدينة النجف,فقد استطاعتْ ـ بفضل مبدعيها ـ تجسير العلاقة بين التراث المعرفي للنجف ومتطلبات الحداثة والتجديد في واقع يعيش تبدّلاتٍ فكريةً ومعرفيةً كل حين, حيث شدّدتْ على كون الثقافة المتوازنة باقية تمدّ المجتمع بالروح والحياة,وعبّرتْ من خلال اللغة -وهي الكائن الحي- عن أصالة المنظومة الأدبية, إذ أثبت شعراؤها قابلية وقدرة الشكل التقليدي على التعبير برؤىً واعيةٍ للحياة المعاصرة بكل تناقضاتها...
وعلى الرغم من محاولات بعض الدارسين لأبعاد (النصِّ الرابطي) عن المعاصرة والحداثة,بحجةِ أنّ أدب الرابطة ما كان إلا (أدب المجالس) يكرّر ما كرسته العصور المظلمة أو الأدب القديم, حيث انه يبتني على التلقي الموجّه بمعنى أن الشاعر المنشد والجمهور المتلقّي كلهم يتقنون فنَّ (أدب المجالس), الذي يرتكز على عبارات الإطراء, متأثراً بالتلقي الشفاهي المكرّس بدوره للانفعال الآني والاستجابة السريعة.
لكنه (أي النص الرابطي) ظلّ مشدوداً به الجميع, وقد غدا مؤثِّراً ومتأثِّراً بما يحيطه من واقع معاش, فقد فاتهم ـ وهم المتسلطون على النصوص بسلطة الأمن الجديدة التي لها أكثر من دلالة ـ أنّنا أمام نصٍّ شعري عربي,لا بدّ أن يكون له مميزات الشعر وما ينتمي إليه, ومن أولى مميزاته أن تكون له هذه الهزّة العنيفة في الآخر وان يحدث في سمعه ما تحدثه المفاجأة.
ولماذا يراد للأذن والجهاز السمعي ـ وهو الجهاز الأهم الذي فضّله الله سبحانه وتعالى على بقية الأجهزة ـ أن يكون بمنأى عن العملية الشعرية, وأن يُعتقلَ هو الآخر ـ مع بقية المعتقلين من اللغة, والنحو, والموسيقى والمضمون, ووحدة الترابط, وحرية الرأي ـ ونضعه في زنزانةٍ يرنّ فيها اللاوعي, بل التخبّط والتشويش والتأثر بمقولات واردةٍ على ثقافتنا, وتبتني على مناهج غربية قسرية تحاول أن تقوّل النص العربي ليتوافق مع مقولات المنهج الذي وإنْ كان رائعاً وعظيماً ولكن في بيئتهِ التي هي بلا شك بعيدةٌ عن بيئتنا فكرياً ومعرفياً.
ولا يسمحُ لنا هذا الطرح إلى الموازنة بحيث نركن إلى الذين يحاولون التلفيق بين الثقافة التي تشيد بالتراث وتقدّسه ولكن تضعه في ميزان المناهج الغربية, لأنّ البيئة ـ كما قلت ـ لها الدور الرئيس في فعل النص الإبداعي.
وينبغي التنبيه على الفرق بين الإبداع والاتباع, فإنّ اتباع النمط الغريب أو تقليد الحضارة المتفوّقة يظلُّ اتباعاً ولا يمكن أن يصبَّ بخانةِ الإبداع, ولا يفهم أننا نريد من شاعرنا وإنساننا أن يظل مسايراً الماضيَ والتراثَ,فانّ الاتباع كما ينطبق على محاكاة نماذج الحاضر الوافدة من دون تمييز أو أعمال فكر,كذلك ينطبق على الانجرار إلى الماضي ومسايرته, فإنّ النتائج في كلتا الحالتين سلبيةٌ لا محال.
فشبابنا ـ إنْ ضلّوا وظلّوا هكذا ـ يتابعون ما يفكر فيه الغرب أو حتى ما يرتدي أبناؤه من أزياء وملابسَ تلائمهم طبعاً أو تطبعاً, فيقيناً أننا لا نرتجي منهم أيَّ إبداع, وهكذا إذا حاولوا أن يرتدوا ملابس أسلافهم وأن يفكروا بما كانوا يفكرون بحيث ينفصلون عن عصرهم ليتوحّدوا مع العصور القديمة فلا أمل كذلك بأيِّ إصلاح أو تقدّم.
وللخروج من هذه الأزمة هو أن نحاول الاعتماد على الأفكار الجديدة المنبثقة من صلب واقعنا حتى وان كانت بسيطة,والاعتماد على القراءة الصحيحة ـ في مجال الصعيد الأدبي ـ المستندة على الأساس المعرفي للنص الثقافي من دون إلغاء حداثية الرؤى والمناهج, والاعتراف بسلطة النص تتضمن الاعتراف بسلطة الواقع المنتج لهذا النص وهو واقعٌ متنوع يستمدّ روحه ودمه من واقعنا الذي نعيشه, لتكون النجف وكلُّ المدن العراقية منابع ثرّة مع كل ما يمكن أن تحدثه خطوطُ التقاطع بينها.
نظرة في جمعية الرابطة الأدبية:
مدينة النجف بيئةٌ شعرية وأهلها يتعاطون الشعر كما يتعاطون الدرس العلمي,والقليل منهم من لا يتذوق الشعر ولا يحبّه, واغلب المجالس التي كانت تنعقد إمّا مجالس علمية يتباحث فيها (الطلبة) مسألة من المسائل الفقهية أو الأصولية أو اللغوية, أو مجالس أدبية تزخر بالشعر والشعراء.
وأدّى هذا الجو المفعم إلى أن ينبري مجموعة من شباب النجف ـ الذين يعرفون الطريق التي يسيرون عليها ـ إلى تأسيس جمعية تُعنى بالأدب والمعرفة وتحتضن إبداعات أبناء مدينتهم وتعبر عن آرائهم واتجاهاتهم وتستضيف المبدعين من خارج النجف لتقدّمهم إلى الجمهور من خلال ما تقيمه من احتفالات عامة.
وهكذا أصبحت الرابطة الأدبية واقعاً معاشاً بعد أن تأسست على يد الجيل الثالث من أجيال النهضة الأدبية في النجف, والجدير بالتنويه أنّ الجيل الأول كان يمثله : (محمد سعيد الحبوبي, وابراهيم الطباطبائي, ومحسن الخضري, ورضا الهندي وغيرهم) بينما مثّل الجيل الثاني : (الشبيبي, والشرقي, والجواهري, والصافي النجفي وغيرهم).
وواضح أنّ التقسيم مبتنٍ على أساس ما يحاط بنصوصهم الشعرية, فقد تخلص الجيل الثاني من التزوير والتكلف الذي كان رائجاً في عصر الجيل الأول, وانفتح الجيل الثاني على الآداب الأخرى من خلال ما يطبع وينشر في المجلات والصحف العربية وما كان يترجم عن الأدب العالمي.
حتى إذا وصلنا إلى الجيل الثالث, الذي كان يسمى بجيل الرابطة الأدبية, رأينا كيف التهب الجو بروح النهضة الأدبية, متأثراً بأفكار ورؤىً أدبية جديدة, فكان تأسيس الرابطة الأدبية عام 1932 م, وكانت الهيئة المؤسسة تتمثل بـ(محمد علي اليعقوبي, وعبد الوهاب الصافي, وصالح الجعفري, وعبد الرزاق محيي الدين, ومحمد جواد الشيخ راضي, وجواد السوداني, وعبد المنعم الفرطوسي, ومحمد حسن الصوري, وخضر القزويني, ومحمود الحبوبي, ومحمد علي البلاغي).
ثمّ جاء الجيل الجديد الذي تحمل الأمانة الأدبية لتستمرّ الرابطة بنشاطاتها من خلال دماء جديدة لشعراء وأدباء من جيل جديد وكان يمثلهم : (مصطفى جمال الدين, وهادي محيي الدين الخفاجي، وعلي الصغير، وعبد الزهراء العاتي, وعبد الغني الحبوبي, وصالح الظالمي, ومحمد الهجري ـ من السعودية ـ , ومحمد بحر العلوم , وعبد الزهراء الصغير, وعبد العزيز الحلفي, وعبد الصاحب البرقعاوي, وعبد الغني الخليلي, وعبد الصاحب ذهب, وعبد الصاحب الموسوي, وجميل حيدر, ومسلم الجابري, وعدنان البكاء, ومرتضى فرج الله, ومحمد الخاقاني).
وقد تولى رئاسة الرابطة منذ تأسيسها حتى إلغائها بقرار من النظام البائد واستبدالها باتحاد الأدباء الذي ورث مكتبتها وممتلكاتها دون شعرائها البارزين,كلٌّ من (عبد الوهاب الصافي, ومحمد علي اليعقوبي, ومحمد بحر العلوم, ومصطفى جمال الدين حتى مغادرته العراق).
وتولى سكرتاريتها (محمود الحبوبي, وعلي الصغير, ومحمد بحر العلوم, ومحمد الخليلي, وعدنان البكاء).
وقد أسهمت الرابطة في تنشيط الحركة الثقافية من خلال استقطاب الأدباء والشعراء والمثقفين من كل أنحاء الوطن العربي والإسلامي, ومن خلال إحياء المناسبات الوطنية والقومية وخصوصاً ما سُجِّل لقضية فلسطين حيث أصدرت ديواناً أطلقت عليه اسم (الفلسطينيات) ومن خلال إقامة المهرجانات الشعرية الخاصة كمهرجان النجف الشعري الأول عام 1970 م حيث أقيمت فيه عدة جلسات شعرية في النجف والكوفة والحلة كربلاء, ومن خلال إحياء المناسبات الدينية كالمولد والمبعث النبوي الشريفين وولادة واستشهاد الأئمة(عليهم السلام) بالإضافة إلى عيد الغدير وغيرها, ومن خلال إصدار الكتب والدواوين الشعرية, فقد أصدرت الرابطة (ديوان الشبيبي) وكتاب (القرآن والطب العربي) و (لمحات من حياة الشيخ اليعقوبي) و(الجزائر المجاهدة) و(ديوان جهاد المغرب العربي) و(في ذكرى الطوسي) وفي سنواتها الأخيرة قامت بإصدار مجموعات شعرية بعنوان (سلسلة الرابطة الأدبية) لشعرائها من الجيل الأخير مثل (دروب الضباب) لصالح الظالمي و(نبع وظل) لجميل حيدر و(الاغتراب) لمحمد حسين المحتصر و(صلاة في حضرة النهر) لعبد الرسول البرقعاوي. وفي السبعينات أصدرت ثمانية أعداد من مجلة الرابطة وكان رئيس تحريرها مصطفى جمال الدين.
شاعر الديوان بسطور :
من الأفذاذ الذين نذروا عمرهم للشعر ولهذه الأرض الخصبة (النجف الأغر) الشاعر الأستاذ جميل حيدر , حيث ترعرع في أحضانها وتعلم في مدرستها , وان كانت ولادته في سوق الشيوخ عام 1935 م لكنه انتقل إليها عام 1945 م , وفي المدرسة (المهدية) تلقى علوم اللغة والبلاغة والمنطق والفقه والأصول , وانتهل من ينابيع أساتذته وهم (الشيخ محمد رضا العامري, والسيد محمد علي الحمامي, والسيد حسن الحلو, والشيخ عبد المنعم الفرطوسي, والشيخ محمد تقي الجواهري).
ولأنه عاش في بيئة النجف فلابدّ أن يقتحم مجالسها الأدبية ويتأثر بها, ولأن العصر الذي عاش فيه يعدُّ من العصور المهمة الذي شهد ولادة قيم ونظم جديدة بديلة عن الحضارة العثمانية التي سادت على مدى القرون الماضية, فقد اثّر هذا التبدل والتحول على اغلب الشعراء الذين عاشوا تلك المرحلة ومنهم شاعرنا جميل حيدر, وان كانت النجف من اقل البقاع تأثرا بهذا التحول, لأنها استطاعت أن تحافظ على عاداتها وقيمها وأدبها, مما ميزها عن غيرها من البلدان والمراكز العلمية الحضارية الأخرى.
وكان لمشايخه الأثر البالغ في شخصيته ونبوغه المبكر ومن الذين تأثر بهم (الشيخ سلمان الخاقاني, والشيخ علي الصغير, والشيخ محمد أمين زين الدين, والشيخ أسد حيدر).
وفي هذه المدرسة الدينية نشأ الشاعر, واصطلاح المدرسة الدينية ربما يكون غائباً على الكثير إذ هي في الحقيقة أقسام داخلية لطلاب العلوم الدينية, وفي هذه الأقسام تتشكل المجموعات (الشِّلل) وغالبا ما تتمحور حول أبرز أعضائها وأكثرهم ثقافة و تأثيراً في مجموعته, ففي مدرسة (الخليلي) مثلاً تشكّلت مجموعة (الأدب المحتضر) وكان محورها الشيخ محمد أمين زين الدين ثم انتقلت إلى مدرسة (الآخوند الوسطى) حيث انضمّ إليها الشيخ سلمان الخاقاني وقد كان ذا ثقافة واسعة واطّلاع على كل ما يصدر من جديد في المكتبة العربية من كتب ومجلات, وكان نشاط المجموعة غالباً ما يثيره الشيخان (زين الدين والخاقاني) بأسئلة شعرية وعلى الأعضاء الآخرين الإجابة شعراً كذلك , أو أنهما يقتنصان موضوعاً طريفاً يتسابق فيه الجميع ثمّ يُحكّم أحد الشعراء البارزين يومئذٍ، كاليعقوبي أو الجعفري للحكم بأجود قصيدة للمتبارين, ومن أهم أعضاء هذه الحلقة بالإضافة إلى (زين الدين والخاقاني) مصطفى جمال الدين ومحمد بحر العلوم وصالح الظالمي وضياء الخاقاني.
اسرة الادب اليقظ :
توسعت حلقة الأدب المحتضر كثيرا وأحس بعضهم أنها فقدت خصوصيتها، فأخذ الشباب منهم الذين يلتقون بنفس التطلع الأدبي وهم(جمال الدين والظالمي وبحر العلوم وضياء الخاقاني) إلى تأسيس رابطة جديدة تتميز عن بقية الحلقات، ثم انضم إليها السيدان (حسين بحر العلوم، ومحمد حسين فضل الله) والشيخان (محمد الهجري،وجميل حيدر)، وأطلق شاعرنا على هذه الرابطة اسم(أسرة الأدب اليقظ)لاعتقاده أنها صاحبة الأدب الحي دون سواها.
وفعلا كانت تمتاز بقراءاتها المتنوعة وبثقافة أفرادها التي أخذت تتسع في جدتها ، فلم يقتصر أفرادها على التراث الذي كان زاد الناشئة من شعر المتنبي وأبي تمام والبحتري والرضي ومهيار، أو شعراء النجف كالحبوبي والشبيبي واليعقوبي، أو الحلي بل أضافوا إلى زادهم ما تيسر لهم من دواوين الشعراء المحدثين بما فيها الشعر الحديث ،بل إن بعضهم أخذ يكتب تجاربه بطريقة التفعيلة ،وسيرى القارئ نماذج من هذا الشعر في الديوان.
وهكذا أضيف إلى النقد المسيطر على الأجيال في ذلك الوقت كنقد الجاحظ وقدامة بن جعفر وضياء الدين بن الأثير، نقد أحمد الشايب وسيد قطب ومارون عبود وميخائيل نعيمه ورفيق الخوري والدراسات الأدبية المترجمة في موسيقى الشعر وأصوات اللغة.
الشاعر في الرابطة الأدبية:
وتوسعت الرؤى وتفتّحت الذات الواعية علماً وأدباً على حاضنة اكبر وهي الرابطة الأدبية، التي كان يديرها الجيل المؤسس لها ـ كما ذكرنا ـ ، وجاء دور الجيل الثاني الذي أخذ بها إلى قمة أعمالها وكان من بين أعضائها صاحبنا الذي أخذ يتنفس تحت مظلة هذه الخيمة التي فيّأت بظلالها عمالقة الشعر في مدينة النجف ، فراح يشارك إخوانه في تثبيتها ونشر آدابها من خلال إحياء أماسيها، وهكذا أصبح واحداً من أعمدتها ومن الأمناء على نفائسها،كما طبعت هي بدورها باكورة أعماله الشعرية وهي مجموعة (نبع وظل) التي سيجدها القارئ في هذا الديوان.
مجال التربية والتعليم
ولم يستمر الأمر كما رسمت له أحلامه فقد ضاق به الحال وكان عليه أن يختار ـ كما ألجأ ذلك غيره ـ إما أن يبقى على هذا العسر وإما أن يشد الرحال إلى (دورة رجال الدين التربوية) وقد اختار ثانيهما في عام 1958م ليكون بعد عام معلماً في مدرسة (الرفعة) الابتدائية في سوق الشيوخ.
ولكنه لم ينقطع عن واحته التي ترعرع فيها، فقد ظل مشدوداً إلى رابطته الأدبية ومتصلاً مع رفاق عمره ، وناشراً أوردته جسور محبة تربط ما بين أدباء الرابطة مع أدباء مدينته الصغيرة.
وفي العقد السبعيني أضاف ملتقى ثانياً لتعزيز الثقافة والأدب من خلال عمله الثقافي في (نقابة المعلمين) فقد أرسى دعائم تقليد أسبوعي يلتقي فيه الأدباء والمثقفون والتدريسون من أبناء المدينة والمحافظات الأخرى ، كما حرص على الملتقيات التي تفتح أبوابها للمواهب الفتية وتشجعهم على التحرك والانفتاح على الثقافة والتواصل مع الآخر.
وفي الثمانينات بدأت تزحف إليه المعاناة حيث فقد أو هاجر عنه أصحابه وألغيت رابطته الأدبية والتي قال في رثائها:
تلك التي اغتيلت على مصباحها
وذؤابتاها حول عنق الجاني
وفي مطلع العقد التسعيني أوشكت المعاناة أن تقضي عليه حيث سرقت منه ولده (نمير) مما دعاه إلى أن يطلق على ما تبقى من عمره بـ(زمان النمير)، غير أنه بقي صابراً ومتحصناً بدينه وعقيدته.وما انفك فاتحاً قلبه وديوانه في سوق الشيوخ لمن يريد رعاية وإرشاداً وإصلاحاً وخيراً.
كما ظل متواصلاً مع الندوات الفكرية والثقافية في بغداد والنجف مثل ندوة (محمد جواد الغبان) وندوة (الشعرباف) الأسبوعية وندوة (القاموسي) وغيرها.
آخر المطاف:
وفي تاريخ 16/3/1999م وبعد أن أتم صلاة الفجر أسدل جفونه ليكون هذا التاريخ آخر يوم في حياة قضاها شاعراً وإنساناً تصالح مع الجميع وتصالح معه الجميع، لتحتفظ سوق الشيوخ والنجف والعراق برمز أدبي سيعيش دائما في الذاكرة.
وأخيراً الديوان :
حرصت المكتبة الأدبية المختصة في مدينة النجف على تكريم المبدعين منذ تأسيسها عام 1997م خارج العراق وحتى حلولها أرض الغري ـ البقعة الطاهرة المطهرة ـ ، لاعتقادها أن الإبداع هو العنوان الحقيقي والمظهر الناصع الذي تتمظهر به لتكون الوجه الحضاري العاكس للقيم والمبادئ والرؤى الجميلة.
ومن هنا أخذت تحثّ الخطى وهي تقتفي آثار الرواد الذين منحوا وجودهم قناديلَ تضيء في عتمة هذا الليل الطويل، وما زالت تناشد الحريصين على الأدب الحقيقي شعراً ودراسة، ـ بغض النظر عن الشكل أو الإطار ـ إلى أن يوجّهوها أو يضعوا بين يديها النتاج الذي يمكن أن تواكب به الحركة العلمية والأدبية في مختلف البلدان.
وما فتئت ترى ضالتها في دعم المكتبة الأدبية بدواوين الشعراء المبدعين وخصوصا بعد انقشاع الغمة عن بلدنا الحبيب، فكان عليها أن تتذوق ثمار هذا الانعتاق، وخير الثمار هذه القوافي الباسقة التي منعت من التنافس مع أقرانها ، وبقيت حبيسة بين المداد والأوراق القديمة، ولم تحاول أن تجد طريقاً إلى هذه التقنية العالية في الطباعة التي أصبحت متاحة لكل مفردات العالم، بل للألفاظ التي تتعانق مع بعضها لتوليد معنى لعله يجد الطريق إلى إدراك القارئ، ولكن محاولاتها ومحاولاته كلها باءت بالفشل، إذ رجع كل واحد منهما إلى وحدته دون الوصول إلى نتيجة.
ولا ندعي أن ديوان جميل حيدر مقتصر على الجبال التي لابد أن نتسلق قممها لنرى الوديان من تحتنا، بل إن حاله حال بقية الدواوين الموجودة في المكتبة العربية، فيها الجبال والوديان والسهول، وليس بمقدورنا ـ حين اطلعنا على تراث الشاعر ـ إبعاد تلك المنخفضات، لأننا صرنا أمام أمانة تسجيل تراثه بأجمعه منذ ولادته حتى ولادته في أفق الناقد والقارئ.
على أننا وجدنا في تراثه ما أتعبنا، لأن الديوان المخطوط لم يكن بخط الشاعر، ما أسهم ذلك في الوقوع بأخطاء في رسم كلمة أو حذفها أو زيادتها ، الأمر الذي يؤدي في أحيان كثيرة إلى خلل لغوي أو فني لا نظن أن الشاعر قد ابتلي فيه.
والذي نعتقده أنه (رحمه الله) سوف يغفر لنا جرأتنا بالتصرف ببعض المفردات أو بحذف البيت الذي لم نستطع معالجته، فإن تصرفنا يظل بريئاً لأن القصد منه ظهور الديوان بأجمل حلة.
وأخيراً تدعو المكتبة الأدبية المختصة النقاد والدارسين للتنقيب في طبقات ديوان جميل حيدر الذي يشتمل على ثلاث مجموعات هي (نبع وظل) و(أرق المسرى) و(سيرة ذاتية)، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والله نسأل أن يغفر لنا ولصاحب هذا الديوان.مهند جمال الدين
المكتبة الأدبية المختصّة
النجف الأشرف