الغراب أذكى الحيوانات
قال الله تعالى :" فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ" (المائدة31) .
ثبت علميا بالدراسة والملاحظة أن الغراب هو أذكي الطيور وأمكرها على الإطلاق , ولا يدانيه في الذكاء والمكر إلا بعض الببغاوات , ويعلل ذلك بأن الغراب يملك أكبر حجم لنصفي المخ بالنسبة إلى حجم الجسم في كل الطيور المعروفة , التي يقدر عدد أنواعها بأكثر من عشرة آلاف نوع , وأفرادها بعشرات البلايين . ولذلك تظهر علامات الذكاء المتميز على الغراب من مثل المعرفة , الإدراك , الذاكرة , القدرة على الاتصال , التحايل على حل المشكلات , بناء مجتمعات دقيقة التنظيم , القيام بالعديد من الأعمال الجماعية من مثل الصيد الجماعي , والدفاع الجماعي , والرعاية الجماعية للصغار , واللعب الجماعي , والبناء الجماعي للأعشاش , والمحاكاة والفضول وحب الاستطلاع , وشدة اليقظة والانتباه , وقوة الملاحظة والقدرة على الإدراك , وعلى التحايل في اختطاف الطعام وفي طرائق إخفائه , وعلى التمييز في التعامل بين القريب والغريب . فقد شوهدت الغربان وهي تلقي على الطرق العامة ما لم تستطع فتحه من الثمار والأصداف الصلدة مثل جوز الهند , وأصداف بلح البحر , وبعض الحيوانات الكبيرة الحجم مثل السنجاب كي تقوم السيارات المارة بدهسها وإعدادها لقمة سائغة لها , كما شوهدت الغربان وهي تقلد الصيادين في عمليات صيد السمك بمهارة فائقة , وفي ترطيب الطعام الجاف بالماء .
وللغربان محاكم تلتزم قوانين العدالة الفطرية , تحاكم الجماعة فيها أي فرد يخرج على نظامها من مثل محاولات التعدي على حرمات غراب آخر من أنثى أو فراخ أو عش أو طعام , ولكل جريمة عند جماعة الغربان عقوبتها الخاصة بها , ففي حالة اغتصاب طعام الفراخ الصغار تقوم جماعة الغربان بنتف ريش الغراب المعتدي حتى يصبح عاجزا عن الطيران كالفراخ الصغار قبل اكتمال نمو ريشها , وفي حالة اغتصاب العش وتهدمه في مراحل الدفاع عنه تكتفي محكمة الغربان بإلزام المعتدي ببناء عش جديد لصاحب العش المعتدَى عليه , وقد يتبع ذلك الطرد من الجماعة إذا تكررت الأخطاء من هذا النوع , وفي حالة اغتصاب أنثي غراب آخر فإن جماعة الغربان تقضي بقتل المعتدي ضربا بمناقيرها حتى الموت .
وتنعقد محاكم الغربان عادة في حقل من الحقول الزراعية أو في أرض فضاء واسعة , تتجمع فيه هيئة المحكمة في الوقت المحدد , وينحي الغراب المتهم تحت حراسة مشددة , وتبدأ محاكمته فينكس رأسه , ويخفض جناحيه , ويمسك عن النعيق اعترافا بذنبه .
فإذا صدر الحكم بالإعدام وثبت جماعة الغربان على المذنب توسعه تمزيقا بمناقيرها الحادة حتى الموت , وحينئذ يحمله أحد الغربان بمنقاره ليحفر له قبرا يتواءم مع حجم جسده , يضع فيه جسد الغراب القتيل ثم يهيل عليه التراب احتراما لحرمة الموت .
وهكذا تقيم الغربان العدل الإلهي في الأرض أفضل مما يقيمه كثير من بني الإنسان , فالعدل في الغربان من الأمور الغريزية الفطرية لأنها لا تشرع لنفسها , ولكنها تتحرك بفطرتها المسلمة بأن الحاكمية لله وحده ومن أهم بنودها التشريع , فالمشرع هو الله سبحانه وتعالى الذي شرع لكل الخلائق وغرس شريعته في جبلة كل مخلوق غير مكلف حتى أصبح العدل الإلهي جزءا لا يتجزأ من تكوينهم وفطرتهم , أما الإنسان , ذلك المخلوق المكلف فيحاول التشريع من عنده بعلمه المحدود , وقدراته المحدودة حتى نسي العدل الإلهي , وأراد إقامة عدل نسبي من عنده فظلم نفسه وظلم غيره .
والغربان من الطيور آكلة كل من النبات والحيوان , وإن كان ميلها لأكل الحيوان أكبر , فهي تأكل الحبوب والثمار , والفراشات , والجراد , والضفادع , والفئران , والبيض , وفراخ الطيور الأخرى, كما تأكل النفايات والجيف . وبذلك تلعب دورا مهما في تنظيف وتطهير البيئة , ففي كل عام تزيل الغربان وأشباهها من الطيور الجارحة آلاف الأطنان من الجيف المتجمعة على الأرض , وملايين الحشرات والديدان , خاصة الحشرات الوبائية التي تصيب العديد من المحاصيل الزراعية فتحد من انتشارها.
وعلى الرغم من هذه الميزات العديدة للغربان فقد درج بعض الناس على التشاؤم من رؤيتها, وذلك بسبب التقاطها البذور المبذورة في الأرض من قبل إنباتها, أو قضائها على بعض المحاصيل الزراعية من قبل جمعها, أو وهي في مراحل الدراس والتذرية, وافتراسها بعض الحيوانات الأليفة مثل الدجاج وفراخه وبيضه . والغربان من طائفة الطيور (CLASSAVES) وهي طائفة من الحيوانات الفقارية تتميز بالريش الذي يغطي جسمها وبوجود عدد من أجهزة العزل الحراري الجيد ويعمل الريش على تجميع الهواء بداخله, وتدفئته ليساعد بذلك على حفظ درجة حرارة الجسم التي تتميز بالثبات, والارتفاع إلى ما هو أعلى من درجة حرارة جسم الإنسان بعدة درجات, ولتحقيق ذلك جعل الله تعالى للطيور عددا من الأكياس الهوائية بالإضافة إلى الرئتين, وتنتشر هذه الأكياس في مختلف أجزاء الجسم الطائر بما في ذلك العظام الكبيرة مما يعين على تخفيف وزن جسم الطائر, ومساعدته على الطيران, كما يزيد من حجم الحيز المتوفر لتخزين الهواء إلى عشرة أضعاف حجم الرئتين. ويساعد على الاحتفاظ بدرجة حرارة ثابتة في داخل جسم الطائر , كذلك مرور كميات كبيرة من الأكسجين المصاحب لهذا الهواء مما يعين على ارتفاع معدل التمثيل الغذائي, وعلى دوران الدم بشكل سريع وفعال في الجسم, ويحفظ الدم المؤكسد بعيدا عن الدم غير المؤكسد, مما يعين بعض الطيور على العيش في المناطق الباردة والمتجمدة. وهناك أكثر من عشرة بلايين طائر بري تعيش على مختلف قارات الأرض, بالإضافة إلى بلايين الطيور البحرية التي تعيش على محيطاتها وعلى الجزر المنتشرة في تلك المحيطات.
وتتميز الطيور عموما بالعيون التي وهبها الله تعالى القدرة على الرؤية من ارتفاعات شاهقة ولمسافات شاسعة, وبعدد من مراكز التنظيم الحركي على درجة كبيرة من الكفاءة , ويتضح ذلك في الغراب بشكل واضح. ويرجع تاريخ الطيور على الأرض إلى نحو 150 مليون سنة مضت في العهد الجوري المتأخر , وإن لم تنتشر انتشارا واسعا إلا في العهد الطباشيري المتأخر أي منذ تسعين مليون سنة مضت تقريبا , ولم تخلق الطيور الحديثة إلا منذ ستين 60 مليون سنة مضت تقريبا أي في العهد القديم لفجر الحياة الحديثة الباليوسين, ولم تنتشر انتشارا واسعا إلا في عهد الإيوسين منذ خمسة وخمسين مليون سنة مضت .
وعلى ذلك فالغراب سابق في وجوده للإنسان على الأرض بأكثر من 55 مليون سنة على أقل تقدير, وبذكائه وملكاته الفطرية التي وهبه إياها الله حق له أن يقف من ابني آدم موقف المعلم الذي علم قابيل قاتل أخيه هابيل كيفية دفن أول قتيل من بني آدم, وأن الدفن في التراب بالإضافة إلى ما فيه من تكريم للميت, يمنع انتشار الكثير من الأمراض والأوبئة, ويحافظ على نظافة البيئة وطهارتها .
ومن صور ذكاء الطيور بصفة عامة تلك القدرة الفائقة للطيور المهاجرة في التعرف على أماكن فقسها وتربيتها, والعودة إليها مهما كانت أبعاد المسافات بينها, ومازالت البحوث العلمية دائبة على دراسة نظم هجرة الطيور وفي محاولة لفهم الطرق التي تتعرف بها على الاتجاهات في مثل هذه الرحلات الطويلة. والمراقبون للطيور والدارسون لسلوكها لا يستطيعون تفسير عملية تحديد أعداد الطيور من نوع معين في مكان محدد, في زمن محدد من أزمنة السنة , وبقاء هذا العدد ثابتا ثباتا نسبيا. ولا يستطيعون تفسير كيفية تحديد مناطق النفوذ لكل نوع من أنواع الطيور. ومعظم الطيور ومنها الغربان لها أرض خاصة لجمع الغذاء أو الصيد, غير الأرض التي تعيش فيها. وعادة ما تكون أرضا مألوفة لها تمتد على مساحة من عشرات إلى مئات الكيلومترات المربعة لا تغيرها إلا مع تغير الظروف البيئية, وتأثير ذلك على وفرة الطعام.
والطيور في تحركها من أوكارها إلى مناطق صيدها أو رعيها, أو في هجراتها المختلفة تعتمد على اتجاه الرياح , وغير ذلك من الظروف الجوية, وعلى موقع الشمس كدليل ملاحي, وعلى المجالات المغناطيسية للأرض , وهذا يعني وجود ساعة حياتية تعطي للطائر إحساسا بالوقت وبالتغيرات الفصلية, كالتغير النسبي في طول كل من النهار والليل مع تغير الفصول المناخية, ويبقى هذا التوازن ثابتا حتى تحت ظروف التجارب المصطنعة كالظلام المستمر أو النور المستمر.
والطيور ومنها الغربان كما تستخدم حواسها المختلفة في التوجيه كالنظر الحاد , والشم لأقل نسب من الروائح, والإحساس بفروق درجات الحرارة, وغير ذلك , من المتغيرات المناخية, فإنها تتأثر بالمجال المغناطيسي للأرض, وبأية تغيرات فيزيائية أو كيميائية أخري في غلافها الغازي.
فالحمد لله على نعمة القرآن , والحمد لله على نعمة الإسلام , والحمد لله على بعثة خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين , والحمد لله على حفظ هذا الدين العظيم الإسلام في صياغته الربانية , وإشراقاته النورانية , وفي كماله وتمامه في القرآن الكريم , وفي سنة خاتم النبيين , ولا يمكن المقارنة بين كلام البشر وكلام الله في تمامه وكماله وصدقه وحجيته اللهم إني قد بلغت اللهم فاشهد وأنت خير الشاهدين . وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .