تأخذهم العزة بالإثم، ويكابرون على مصير شعوبهم، ويستمرون في كوارثهم، ولا يفكرون قيد أنملة في التكفير عن أخطائهم ولو باعتذار بسيط قد يحفظ ماء وجههم أمام التاريخ... لماذا لا يعتذر الحكام العرب عن أخطائهم؟
التحليل السياسي: ولي الأمر
اعتذار الحكام والمسؤولين والساسة متعارف عليه في الديمقراطيات الغربية. أرجع الباحث السياسي محمد محمود السيد ذلك لأسباب عديدة منها أن الاعتذار قد يكون غطاءً لبعض الأفعال غير القانونية، أو نوعاً من المواربة السياسية، أو لمخاطبة الرأي العام، أو الإيقاع بالمعارضة أو الخصوم السياسيين. أو حتى لرغبة الحاكم أو الحزب في تلميع صورته أمام الجماهير.
قد ينم الاعتذار أيضاً عن القيم الأخلاقية السائدة في المجتمع، والموجودة في عدد قليل من الدول منها اليابان، بحسب السيد.
الدول العربية لا تعرف اعتذار الحكام، سواء لأهداف سياسية أو باعتباره مستمداً من قيم المجتمع. وقال السيد إن العلاقة بين الحاكم والمحكوم ليست مبنية على أن الحاكم موظف عام لدى الشعب، كلفه بمهمة معينة في مدة محددة، على أن يخضع الحاكم بعد ذلك للحساب والعقاب، في حال ارتكابه أي خطأ. لكنها علاقة أبوية يكون فيها الحاكم رباً للأسرة الكبيرة، وولي أمرها والقائم على شؤونها، وبالطبع لا يعتذر ولي أمر لأبنائه عن أخطائه. وهذا ما يظهر بصورة واضحة في الخطابات السياسية للزعماء العرب السابقين والحاليين.
هناك سبب آخر يفسر عدم اعتذار الحكام العرب عن أخطائهم، هو ضعف الرأى العام العربي. أوضح السيد أن الرأي العام يحرك الحاكم وصناع القرار، ويوجه الحكومة، ويدفعها لفتح ملفات جديدة، وقد يجبر الحاكم على الاستقالة. لكن الرأي العام العربي ليس بهذه القوة، التي يستطيع فيها أن يفعل ذلك، وهذا راجع في جزء من أسبابه إلى سيطرة الحكام على الإعلام وتوجيهه بما يخدم مصالحهم.
بعد ثورات الربيع العربي، بدأ الرأي العام العربي يأخذ منحى آخر، وبدا أن له تأثيراً. لكن الانتكاسات التي أصابت هذه الثورات، أدت إلى تراجعه مرة أخرى، بحسب رأي الباحث.
وأوضح السيد أنه رغم أن وسائل التواصل الاجتماعي خلقت رأياً عاماً موازياً، حقق بعض الانتصارات الضعيفة، لكنه يبقى غير قادر على الضغط على الرؤساء والملوك، الذين ينظرون إلى هذه الوسائل على أنها "لعب أطفال". وبالتالي، اعتذارهم عن أخطائهم سيكون في أضيق الحدود، إن لم يكن غير موجود أصلاً.
وذكر السيد أن الحكام العرب يهربون من أخطائهم عبر عدة أساليب، منها عدم ذكر الخطأ أو الالتفات له في الخطابات الرسمية، والتشويش على هذه الأخطاء بذكر معلومات متضاربة ومتناقضة حول موضوع الخطأ، ثم يقع صراع بين هذه المعلومات، ليصبح المواطن غير مدرك لحقيقة الأمر.
التحليل النفسي: النرجسية المفرطة
نكران الأخطاء وعدم الاعتراف بها من قبل الحكام العرب، يرتبطان بصورة رئيسة بنرجسيتهم المفرطة، التي تنامت بعد جلوسهم على كرسي السلطة. قالت موريال ميراك فايسباخ في كتابها "مهوسوون بالسلطة، تحليل نفسي لزعماء استهدفتهم ثورات 2011"، إن جوهر النرجسية هو حب الذات الذي يستتبع عدداً من الصفات. فالنرجسي يفرط عادة في تقدير نفسه وقدراته، ويطلب الإعجاب من الآخرين الذين يطمئنون إلى عظمته.
وتشير في تحليلها لشخصية الحكام العرب، إلى أنهم يحيطون أنفسهم دائماً بالرجال الذين يوافقونهم في الرأي، والمتزلفين والمتملقين. كما أنهم يحتاجون إلى الشعور بأنهم محبوبون ويُخشى منهم، ولا يحتملون أي انتقاد وهم عاجزون تماماً عن النظر في إمكان أن ينقلب شعبهم عليهم. ويتوجب الأمر تجنب الأشخاص الذين يظهرون أي حكم مستقل على الأمور، ومن يجرؤ على انتقاد الزعيم النرجسي، أو يُشكك في سلطته، يصبح عرضة للضغط الاجتماعي الهائل. وهذا يفسر سبب إصرار الزعماء النرجسيين على السيطرة الكاملة على الرأي العام من خلال وسائل الاتصال الجماهيرية.
وأوضحت الكاتبة أن للصورة العامة للزعيم، دوراً حاسماً في فرض الشعور بتفوقه المفترض. لذلك في الأنظمة الديكتاتورية العربية، تنتشر صور أكبر من الحجم الحقيقي للزعيم، إضافة إلى المواكب السيارة الطويلة كلما ظهر. والمناسبات العامة المتكررة احتفاءً به وبإنجازاته، يُحشد فيها آلاف المؤيدين الهاتفين.
حين يتقدمون في السن، لن يحاول الرؤساء العرب الإبقاء على وهم الشباب الدائم حياً فحسب، بل أيضاً المحافظة على صورة المستقبل الزاخر بالإمكانات لهم. فيصر كل منهم على البقاء رئيساً مدى الحياة، ويعيدون صياغة الدستور لجعل ذلك ممكناً. ويبدو الأمر وكأنهم يتمسكون باعتقاد خرافي، بأنهم ما داموا في السلطة، فلن يتمكن حتى الموت من إزاحتهم، بحسب الكاتبة.
وحين تتزايد أخطاء الشخصيات النرجسية، ويرفضون الاعتراف بها، يتعرضون للهجوم الشعبي والثورة عليهم، فيصابون بهستيريا، ويسعون إلى قلب الطاولة على مهاجميهم. وهم غالباً يلجأون إلى نظريات المؤامرة، وهذا ما حصل في جميع الانتفاضات الشعبية التي وقعت في الدول العربية، ضد الأنظمة الحاكمة.
وخلال أزماتها مع شعبها، تسعى الشخصية النرجسية إلى الدفاع عن نفسها من خلال تمجيد الذات، لتبرز وكأنها الكمان الرئيسي في الفرقة الموسيقية. وتزداد هذه النزعة، حين يتضح انعدام الأمان بين هوية المرء الحقيقية وهويته المزعمة. وبرز ذلك في البيانات العامة للحكام المحاصرين، الذين عظّموا من مآثرهم الماضية، ومن دورهم "كأب للأمة"، أو كأبطال عسكريين حصدوا الأوسمة.
إذا وجد الحاكم النرجسي شريكاً يعجبه، يرتبط به فقط بوصفه يعكس صورة الأنا، كما لو أن المحبوب امتداد لنفسه. ويتحول تمجيد الذات إلى تمجيد متبادل. وعندما تلتقي الشخصيات النرجسية معاً في شراكة، كحالة زين العابدبن بن علي وزوجته ليلى الطرابلسي، يتحول الأمر غالباً إلى "حضن زوجي"، يعاد فيه توجيه البواعث العدائية المتبادلة إلى أناس آخرين. وتكون المرأة الشريكة في حالات كثيرة، هي النرجسية الكبرى، وينتهي بها المآل وهي تدير الحكم، تقول فايسباخ.
التحليل الاجتماعي: الثقافة البدوية
رغم أننا في القرن الواحد والعشرين، هناك اتصال تاريخي يربط الثقافة العربية بالثقافة البدوية. قالت الدكتورة هدى زكريا، أستاذة علم الاجتماع السياسي لرصيف22، إن البداوة سمة أساسية من سمات الثقافة العربية، وهي ثقافة تتسم بالجمود أكثر منها بالمرونة، والرغبة في إنتاج الماضي أكثر من التجدد والإبداع، وتُعلي من قيم الكبرياء والفخر. وبالتالي هي ثقافة لا تحب الاعتذار، وتراوغ كي لا تعترف بأخطائها. وقد يفعل الشخص أي شيء آخر لتصحيح خطأه إلا أنه لا يعتذر.
وأوضحت أن ما تتسم به الشخصية العربية ينسحب بصورة أكبر ومضاعفة على الحاكم الذي يشعر أن قيمته ستقل إذا اعتذر عن أخطائه.
الملوك أصعب من الرؤساء في الاعتذار. وأرجعت زكريا ذلك إلى أن الملوك يبدون مثاليين، ولا يخطئون، ويعتبرون الاعتذار ضعفاً. فالملوك والأمراء وأبناؤهم مقدسون في الثقافة العربية، وقد يأخذون لقب "ظل الله في الأرض" وبالتالي لا يمكن أن يعتذروا. كما أنهم يجدون من يغطي على أخطائهم.
وتشير إلى أن الرئيس العربي الوحيد الذي اعترف بأخطائه، هو جمال عبد الناصر، الذي اعتذر للشعب، وتحمل المسؤولية كاملة عن نكسة يونيو. لذلك كافأه الناس ورفضوا تنحيه وخرجوا للشوارع مطالبين ببقائه.
وأكدت أن الموجة الأولى من ثورات الربيع العربي، لم تغير شيئاً في علاقة الحاكم بالمحكوم. موضحةً أن الثورة حدث عميق وعنيف ومكلف، هدفها إمساك الشعب بمفاتيح التغيير والإصلاح. وهذا لم يحدث على الإطلاق، فعبّر الشعب عن رغبته في الإمساك بهذه المفاتيح، لكن الأنظمة القديمة عادت وأمسكت بها من جديد.
التحليل الثقافي: النظرة الفئوية
ثقافة الاعتذار في المجتمع تقوم على عدد من المعايير الثقافية المستقلة، أهمها احترام الآخر. وتستمد ثقافة الاعتذار أهميتها مما يسمى "التراتبية الاجتماعية". وقال الدكتور كمال مغيث، الخبير التربوي والباحث في المركز القومي للبحوث التربوية، إن المجتمع لو آمن بهذه الثقافة، فسيكون من المنطقي أن يعتذر الأب لابنه إذا أخطأ في حقه، والزوج لزوجته إذا لم يقم بواجباته، والمدرس لتلاميذه إذا تأخر عن موعد الدرس، وبالتالي سيعتذر الحاكم للشعب إذا أخطأ في قراره.
ويشير إلى أن هنالك بعدين لاعتذار المسؤولين أو الحكام بشكل عام. الأول إنساني يعتمد على فكرة الأخلاق والقيم التي تسمح بذلك، والثاني قانوني، فاعتذار المسؤول لا يمنع مساءلته في حال اتخاذه لقرار خاطئ، قد يترتب عليه نتائج سلبية على المواطنين، وكل من البعدين لا يتوافران في المجتمعات العربية.
ويوضح أن التعليم لا يهدف إلى إعداد الطالب لمهنة، وتسليح المعلمين بالمنهج العلمي فحسب، إنما له أدوار أخرى، منها التأكيد على المعاني الإنسانية، بما تشمله من الأخلاق الحميدة، واحترام حق الاختلاف والتعددية، واحترام الآخر وثقافة الاعتذار والمساءلة. مشيراً إلى أن مناهج التعليم العربية تخلو من ذلك.
وقال إن المجتمع العربي مبني في ثقافته على "التراتبية"، حيث النظرة الفوقية من قبل البعض للبعض الآخر. وهذا ما ينسحب على نظرة الحاكم للمحكومين، وهي نظرة فئوية لا تعترف بالاعتذار أو الاعتراف بالخطأ أو المساءلة.