عندما فاز الرئيس الأميركي دوايت إيزنهاور بولاية ثانية، بدا رجلاً عجوزاً. لم يظهر حينذاك أنه تعافى من الأزمة القلبية التي أصيب بها خلال ولايته الأولى وأقعدته لفترة تحت المراقبة الطبيّة الفائقة. على عكسه، بدا خلفه جون كينيدي زاخراً بالحيوية والشباب. لكن إيزنهاور لم يكن قد تقدّم في السن، في المقياس السياسي، فحين بدا كهلاً كان عمره يناهز الـ62 عاماً. وكينيدي لم يكن معافى بالقدر الذي عكسه ظهوره العلني، إذ عانى صاحب الـ34 عاماً من مشكلات صحية عدة أبرزها "مرض أديسون" الذي هو من الأمراض المرتبطة بالهورمونات النادرة، ودخل بضع مرات سراً إلى المستشفى، وكان يتناول الدواء بشكل مستمر ويعاني آلاماً حادة أسفل الظهر. لكن شباب كينيدي تجلّى في قدرة فريقه على إخفاء مرضه.
"النساء الضعيفات" كهيلاري!
انشغل العالم بالوضع الصحي للمرشحة الرئاسية هيلاري كلينتون. حال الإعياء التي عاشتها مؤخراً وضع صحتها تحت المجهر، وأصبحت السيدة، التي تعتبر ثاني أكبر مرشحة في تاريخ أميركا عن عمر 68 عاماً، مُطالبة بتبرير ما رآه الجمهور خلال مشاركتها في إحياء ذكرى أحداث الحادي عشر من أيلول. وذكّرت صحيفة "وول ستريت جورنال" بارتجاج المخ والجلطات الدموية التي عانت منها كلينتون، قائلة "تعتبر هيلاري، وهي في الثامنة والستين، من أكبر المرشحين الرئاسيين سناً. وصحيح أن الناس يعمرون اليوم، ولكن السجلات الطبية عامة تكشف أن المخاطر الطبية تتضاعف في نهاية الستين وبداية السبعين من العمر". بدوره، حرص فريق المرشحة الديموقراطية على تأكيد تماثلها للشفاء، والتقاط صورة لها وهي تمشي في الشارع مستمتعة بـ"يوم جميل". في اتصال لها مع شبكة "سي أن ان"، قالت إن ما حدث ليس بالأمر الجلل. وهي تشبه في ذلك جميع الناس الذين يرهقون من ضغوط العمل، كما وعدت بمزيد من الشفافية.
لكن هل يمكن لهذا الكلام أن يقنع منافسها دونالد ترامب بعدم استغلال هذه "الفرصة الذهبية"؟ ترامب، أكبر المرشحين للرئاسة في تاريخ أمريكا بأعوامه السبعين، قال إنه "أفضل المرشحين صحة في تاريخ أمريكا". عدا صورة الشباب الدائم التي يصر أن يعكسها بشعره الأشقر المصفف دائماً وبزوجته الشابة عارضة الأزياء، فهو حريص على إظهار تفوقه الدائم على السود والمسلمين والعرب، ولمَ لا على "النساء الضعيفات" كهيلاري.
الرؤساء يخافون الأطباء
بينما يتوقع الناس أن يحظى الرؤساء بأفضل عناية طبية تقيهم أمراضاً كثيرة، يتبيّن أن العديد منهم كانوا يفضلون عدم الذهاب للأطباء المعروفين تجنباً لـ"الفضيحة"، وتحت ضغط "بارانويا المرض" يكتفون بزيارة أطباء العائلة، وليس بشكل دوري. هذا ما ذكره المؤرخ ماثيو ألغيو في كتابه"الرئيس رجل مريض"، عن الرئيس غروفر كليفلاند الذي استأصل ورماً سرطانياً بشكل سرّي على يخت أحد أصدقائه.
لا أحد يحب زيارة الطبيب، لكن بالنسبة للرؤساء فقد يؤدي انتشار مثل هذا الخبر إلى نهاية المسيرة السياسية لصاحب المنصب. وإن كانت السرية أكثر سهولة في الماضي، فاليوم بات من الصعب على المسؤولين إخفاء أعراض المرض أو أخباره. كما باتت صحة المسوولين مثار تندّر بين الجمهور، الذي تعب من "مرض السلطة" في روح الزعماء في العادة، ليأتيه مرض الجسد فيؤثر بشكل إضافي على أداء هؤلاء الزعماء. ويصبح للمرض في البلدان الملكية القائمة على التوريث وطأة أكبر، فتكثر الأخبار عن الصراعات داخل العائلات المالكة، وعمن يتحكمون بالقرار بدل الملك.
المرض في حرب السياسة
عانى روساء أمريكا أمراضاً كثيرة، بعضها ظهر للعلن بينما بقي الكثير منها في دائرة الظلّ، لتنكشف بعد موت صاحبها. الرئيس الثامن والعشرون وودرو ويلسون تعرض في خضم حملته لتعزيز معاهدة فرساي فى أنحاء الولايات المتحدة في العام 1919، لسكتة دماغية حادة أصابته بالشلل. لكن برغم حالته الصحية السيئة فقد استمر فى منصبه عامين كانت خلالهما زوجته الثانية إديث وسيطة بينه وبين حكومته. وأصيب الرئيس الثاني والثلاثون فرانكلين روزفلت قبل 12 سنة من توليه المنصب، لكنه تجنّب طوال فترة حكمه الكشف عن حالته الصحية، ولم يظهر علناً على الإطلاق مستخدماً كرسيه المتحرك. الرئيس دونالد ريغان خضع لعدة عمليات جراحية أثارت الشكوك حول قدرته على القيام بمهمات منصبه، وقد نقل سلطاته إلى نائبه جورج بوش لمدة 8 ساعات عندما أجرى استئصالاً لورم خبيث في القولون. أما بيل كلينتون، فكان يعاني انسداداً في الشرايين.
ولأن المرض شأن إنساني، ولأنه لا يكون بدنياً فحسب بل يأتي أحياناً عصبياً هستيرياً، تقدمت الجمعية العالمية للطب النفسي باقتراح إلى منظمة الأمم المتحدة في العام 1958، يتضمن فحصاً دورياً للمسؤولين والحكام للتأكد من صلاحيتهم لممارسة مهمات الحكم، وأعربت الجمعية عن استعدادها لإجراء التحاليل والفحوص لجميع القادة في العالم بصفة دورية كل ثلاث سنوات حرصاً على مستقبل الشعوب.
الأمر ليس بهذه السهولة، إذ دائماً ارتبطت السلطة بالقوة البدنية، وأحاطها أصحابها، كما الإعلام، بنوع من الألوهية. يظهر القائد عصياً على المرض بينما يحرص فريقه على إحاطة ما يصيبه بهالة من السرية. يذهب بعض الرؤساء إلى التباهي بقوتهم البدنية كعلامة تفوق على خصومهم، كالرئيس الروسي فلاديمير بوتين. يأتي ذلك كي لا تضعف ثقة الرأي العام به أولاً، ولتجنب استغلال أعدائه الأمر ضده ثانياً. بعد ذلك، يموت الروساء فجأة من دون أن يسمع الجمهور بمرضهم. وأحياناً يموتون ويبقون أحياء في الإعلام كما جرى مع رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق آرييل شارون الذي أعلنت وفاته بعد 8 سنوات من الغيبوبة.
الرئيس العربي لا يمرض؟
الخوف من إعلان المرض في الدول العربية يأخذ بعداً أكثر جدية، لا سيما في الدول غير الديموقراطية. حال التكتم الشديدة، تقابلها شائعات وتكهنات. هنا تصبح الحالة الصحية جزءاً من النظام السياسي وإفشاؤها يمسّ الأمن القومي. خجولة تخرج الأخبار عن حال الرئيس الجزائري عبد العزيز بو تفليقة، الذي يحكم البلاد منذ أكثر من 17 عاماً، يعيش على كرسي متحرك مع سرطان وجلطات وتفاعلات صحية. كل ذلك، وقصر الرئاسة يصر على تلطيف أخبار المرض، فيما يحذر المحللون من خطر على نظام الحكم.
الملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز، وقبل وفاته في العام الماضي، أحيطت أخبار صحته بالكثير من الغموض. ثم ظهرت التقارير تباعاً عن إصابته بـ”الانسداد الوعائي"، وكثرت التحليلات بشأن تحكمه بمقاليد الحكم والصراعات داخل العائلة المالكة. وذكرت حالته بما حصل مع الملك الراحل فهد الذي أصيب في العام 1995 بجلطة دماغية أقعدته عن الحركة. بدوره، كشف الطبيب المشرف على علاج رئيس دولة الإمارات السابق الشيخ زايد آل نهيان أنه كان يقوم بالغسيل الكلوي ثلاث مرات أسبوعياً، وكان يحتاج لوصلة شريانية لأن شرايينه كانت تغلق تلقائياً. الرئيس الراحل حافظ الأسد عانى أمراضاً كثيرة كالسكري والقلب والسرطان، وكلها أحيطت بالتكتم الشديد. وبقيت حال الرئيس الراحل ياسر عرفات مثار جدل، وقد ذكرت صحف عديدة أنه كان مصاباً بمرض الباركنسون، وتوفي نتيجة نزيف دماغي، لكن سيناريو اغتياله بقي يتردد في مناسبات كثيرة. أما مشهد الرئيس المخلوع حسني مبارك وهو عاجز عن الحركة أثناء استقباله الرئيس باراك أوباما الذي صعد بخفة على السلالم، فقد أثار تساؤلات عدة. بعدها، عمل فريق الرئيس وجهاز الاستخبارات على ضخ أخبار عديدة تؤكد سلامة صحة الرئيس وشبابه. في العام 2014، انتشرت الأخبار عن مرض صاحب أطول حكم في العالم العربي، السلطان قابوس في سلطنة عمان، وكثرت التحليلات بشأن خلفه لا سيما أن لا وريث عائلي له. بعد هرب الرئيس التونسي زين العابدين بن علي، انتشرت أخبار عن دخوله في غيبوبة في السعودية. ولا تنتهي القائمة التي تذكر أمراض رؤساء راحلين وحاليين، من جمال عبد الناصر إلى الأمير جابر أحمد الصباح إلى الملك حسين والقذافي وعلي عبدالله صالح وغيرهم.
يقول المثل الفرنسي إن المرض هو "صمت الأعضاء"، أما مرض الزعماء فيصح وصفه بـ"اختفاء الأعراض". يصل الأمر بالبعض منهم إلى إجراء عمليات تجميلية توحي بالصحة الدائمة. ففي بلدان يعتمد فيها استقطاب الجمهور على كاريزما الرئيس وجبروته فحسب، يصبح الجمال بـ"أثواب تزيننا" لا بإنجازات الدولة.