التاريخ كالشمس الساطعة، تنير الطريق لأجيال تتلوها أجيال، وقد يمتد أثره إلى يوم قيام الساعة، والمتعمق في التاريخ يقرأ بيسر ما يحدث على وجه الأرض من أمور، ولا يُخدع بسهولة، مهما تفاقمت المؤامرات، ومهما تعددت وسائل المكر والمكيدة.. فهو وكأنه فعلاً يرى المستقبل!!.
فالأحداث السابقة تتكرَّر دائمًا، وبصورة تكاد تكون متطابقة، والتاريخ ثروة مدفونة تحتاج إلى بذل مجهود، وتفريغ وقت، وحشد طاقات لاستخراجها نقية زهية.
تقريب التاريخ خطوة على الطريق:
لعل طريقنا طويل يبدأ من إبراز التاريخ ونفض غبار الزمان عنه، ثم توثيق التاريخ نفسه واستخراج الحق من ركامات الباطل، وتقريبه بلغة سهلة وعرض شائق، وتحليل أحداثه واستخراج الفوائد والعبر ومعالجة الأخطاء.
ودراسة التاريخ بهذه الطريقة تجعل التاريخ حيًّا ينبض.. أنت تقرأ لتتفاعل، لا لمجرَّد التسلية أو الدراسة الأكاديمية البحتة!
وتقريب التاريخ من أولويات هذا العصر، الذي امتاز بارتفاع مستوى المعيشة، وتعقد المدنية، وكثرة مطالب الحياة وتكاليفها، مع ما اتسم به هذا العصر من حب الاختصار، والاقتصار على الضروري المفيد، والشعور البالغ إلى حد الحساسية الزائدة بقيمة الوقت وسرعة مضيه، والزهد في كل شيء طويل معقد، وما يجهد النفس ويستنفد طاقتها من التأمل والمطالعة، بل ما يشق على النفس في الفهم والإدراك، مضافًا إلى كل ذلك ما اتسم به هذا الجيل من قصور الهمة، وضعف الإرادة، بل وضعف القوى.
كل ذلك استلزم قراءة تاريخية جديدة، وإن شئت فقل كتابة للتاريخ من جديد، بأسلوب مبتكر، بعيدًا عن الطلاسم واللوغريتمات وبلغة العصر وحداثته، مع مراعاة التدرج المعرفي والتسلسل الفكري للمادة العلمية.
مختصر الجبرتي.. إحياء بعد موات:
تاريخ الجبرتي المسمى "عجائب الآثار في التراجم والأخبار" أشبه بالتلال الأثرية، لا تكاد تحفر فيها حتى تجد تحفة أثرية نادرة، وكلما ازددت في الحفر عثرت على اللؤلؤ والجواهر. ومع ذلك، فإن هذا الحفر يحتاج إلى صبر ومثابرة وأناة حتى يمكن استخراج هذه النفائس من الأتربة العالقة بها.
ولقد عزم على الحفر والتنقيب في هذه التلال واستخراج لؤلؤها الباحث أيمن حسن الدمنهوري فقدم مختصرًا وافيًا لهذا الكتاب خرج عام 2007 قام على لب مقصود المؤلف في عبارة موجزة مع الإبقاء على جل معناه، فقدمه للجيل الجديد في مجلد واحد بعد أن كان أصله في أربعة مجلدات أو يزيد.
أهمية تاريخ الجبرتي:
كتاب "عجائب الآثار في التراجم والأخبار" يعد من التواريخ المهمة في حياة الأمة الإسلامية والعربية ومصر والتاريخ المعاصر، إذ يرصد مؤلفه حقبة من أشد الحِقب التي كانت لها أبعد الأثر سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا.
ويستمد كتاب الجبرتي أهميته من أنه أرَّخ لحقبة شهدت أحداثًا ضخمة في قطر كبير من أقطار العالم الإسلامي. فقد شهدت انحلال النظام العثماني الذي قام في مصر منذ فتحها السلطان سليم الأول عام 1517م. ثم شهدت الحملة الفرنسية وحكم الفرنسيين لها نحو ثلاث سنوات (1798-1801م)، ثم شهدت محاولة النظام العثماني العودة إلى مصر من جديد، ثم الإجهاز عليه تمامًا على يد محمد علي، وكان هذا الإجهاز تمهيداً لبناء النظام الجديد .
وقارئ التاريخ اليوم لا يجد كتابًا يتحدث عن هذه الحقبة المضطربة غير كتاب الجبرتي. ويعدُّ الجبرتي في هذه الحقبة الحافلة بالأحداث شاهد عيان، يرى ويسمع فيحلل ويكتب.
فقد عاش الجبرتي بين عامي (1754-1825م) وعامي (1176-1240ه)ـ. فشهد بذلك النصف الثاني من القرن الثامن عشر والربع الأول من القرن التاسع عشر الميلادي. وفي هذه الحقبة كانت مصر على مفترق الطرق في اتجاهها السياسي، وهو انتقالها من العصور الوسطى إلى العصر الحديث.
ويزيد من أهمية الكتاب أنه لم يكن كتاب تاريخ فحسب، بل كان كتابًا في تراجم الرجال أيضًا، فقد ترجم للآلاف من العلماء والشيوخ والأمراء والحكام والخطباء والشعراء والكتاب والأعيان والتجار، بل إن كتابه يشمل أخباراً طريفة كذلك عن أبناء الطبقات الدنيا من المجتمع المصري، حيث يورد أسماء كثيرين من الباعة وأهل البدع وبعض أصحاب الطرق والمجذوبين وغيرهم ممن يكثرون أيام الاحتفالات الدينية والمواسم، ويمكن القول: إن الجبرتي يقدم صورة كاملة للمجتمع المصري خلال العصر العثماني.
خاصة وأن الجبرتي ذكر الحقائق التاريخية دون محاباة أو مجاملة لحاكم أو لغيره، وعالج مشاكل الحياة والمجتمع المصري معالجة البصير بالأمور وحكم عليها حكمًا مقبولًا.
منهج الاختصار:
وعن منهج الذي اتبعه الأستاذ أيمن في الاختصار يحدثنا فيقول:
أبقيت على الجانب السياسي الذي تناوله الكتاب، وأضفت إليه كل الحوادث التي توضح ملمحًا دينيًا أو ثقفيًا أو اجتماعيًا أو اقتصاديًا.
احتفظت بعبارة شيخنا الجبرتي -ما أمكن ذلك- ولم أتصرف في لفظه إلا في النذر اليسير دعتني الضرورة إليه.
وأخيرًا..
للباحث منا جزيل الشكر على ما قدم، وتاريخنا يحتاج إلى المزيد من الجهد وبذل العقل والقلب والجوارح والروح، في التقريب والاختصار والتحقيق، والله الموفق والهادي إلى الصراط المستقيم.
أحمد المنزلاوي