TODAY - July 14, 2010
ما نتعلمه من ثورتنا وزعيمها: العراق والمواطن أولا...
في ذكرى الثورة العراقية، 14 تموز- يوليو- 1958، لا يمكن إلا أن تتداعي الأفكار والمشاعر من جديد- كما في كل ذكرى لها. ونعرف أن الأحداث يجب أن تحلل وتقيم بظروفها، وكذلك هو تقييم الشخصيات السياسية. كما نعرف أنه ما من حركة سياسية هي محض خير أو محض شر؛ محض أخطاء، أو تراكمات منجزات. وهذا ما يصدق أيضا على القادة- ولا نعني الطغاة.
ثورة العراق انفجرت في ظروف وأوضاع خاصة، وكان لا مفر منها لانسداد سبل التحول السلمي التدريجي منذ منتصف 1955، كما ذكرت مرارا. ولو أمكن تحقق التغيير سلميا، على خطوات وبإصلاحات متدرجة، لكانت النتائج أفضل، واحتمالات ردود الفعل السلبية أقل. ولكن الوضع العراقي في حينه لم يكن مؤهلا لمثل تلك الثورة التدرجية السلمية، فضلا عن أن تحقق ثورة كهذه هو دوما أصعب وأكثر تعقيدا من "الطفرات الثورية"، أي التحول بالعنف، وما يستدعيه، لا محالة، من عنف مماثل، ومن مخاطر أخرى.
كتبت عن الذكرى مرارا خلال السنوات الماضية، وفي كل مرة كنت أشعر بالحزن الشديد لما آلت إليه أمور العراق، لحاضره ومستقبله المبهم والملتبس. وفي كل مرة أستعيد صفات وأخلاق وتطلعات الزعيم عبد الكريم: ابنا بارا للشعب، نزيها، متجردا، متفانيا في الشعب والوطن، متسامحا دينيا، ومذهبيا، وقوميا؛ زعيم لم نعطه حقه في حياته، بل ظلمناه، فمنا - من بين محبيه- من حاصرناه وطاردناه بالمطالب والمذكرات والمظاهرات الصاخبة؛ وأما القوى المعادية، فظلت تطارده بالتآمر المتكرر على الثورة وعلى حياته حتى أجهزت عليهما معا في انقلاب 8 شباط الفاشي [ 1963 ].
نعم، عبد الكريم قاسم لم يكن كاملا، وله عيوبه وأخطاؤه وتخبط بعض مواقفه، ولكنه، كان الزعيم الأكثر شعبية وقربا من الشعب، والأنقى إخلاصا له. وكان، مع محمد حديد، الأكثر واقعية سياسيا بالنسبة لمجموع القوى السياسية حينئذ، ساعيا للاعتدال والمرونة جهد الإمكان في خضم عواصف الصراعات والمصادمات ونوازع العنف والانتقام. وقد حاربته قوى خارجية وداخلية، وانقضت عليه أحزاب كانت في الثورة، وشيوخ الدين المتزمتون ومرجعياتهم حين انتصف للمرأة، فشرّع قانون الأحوال الشخصية، الذي لم يجرؤ حتى صدام على إلغائه، ولكن من جاؤوا بعده هم الذين ألغوه باسم أحكام الشريعة.
زعيم الثورة أراد بناء وطن العدالة والمساواة للجميع، واستهدف التحاق العراق بقائمة الدول المتقدمة، وقد سار أشواطا في الطريق، ولكن عدم نضج القوى السياسية الأخرى، وشراسة الأعداء حالا بينه وبين تحقيق كل ما أراد، ولم ينل من كل ما فعله لشعبنا غير عملية اغتيال خسيسة جبانة أمام عدسات التلفزيون. وقد بخل قاتلوه عليه بقبر يأوي جثمانه الطاهر، فألقوا به إلى نهر الأحزان والدم. راح بعيدا عن شعبه، وفشلوا في محو اسمه من القلوب أو في إيجاد قشة واحدة تمكنهم من اتهامه بسرقة دينار واحد من أموال الشعب، أو السطو على قصر! وجاء، بعد قاتليه، من سطوا حتى على مدينة الفقراء التي بناها عبد الكريم، وحولوها لمعقل للجريمة والطائفية والغدر. وقد شاء التاريخ والحق أن يعود حتى بعض من حاربوه وتآمروا عليه إلى إنصافه، وتمجيد خصاله ومآثره.
عمر الثورة كان قصيرا، ورغم ذلك تحققت منجزات مهمة لصالح الفلاحين والفقراء، والمرأة، والشعب الكردي، والأقليات القومية والدينية، وتعزيز السيادة الوطنية، وفي دعم حركات التحرر العربية، لاسيما الفلسطينية والجزائرية، وإن أخطأ في المطالبة بالكويت.
عبد الكريم قاسم نذكره دوما، معتزين بشخصه، ونعتز به أكثر وأكثر حين نقارنه بحكام اليوم. فأين هم من قامته! وقد ضحكت يوما حين كتب أحدهم مقالا يقارن المالكي به. كانت نكتة فانتازية حقا: أن تقارن زعيم حزب إسلامي مذهبي، أسسه رجال دين، واستند إلى مليشيات كانت مرتبطة بفيلق القدس الإيراني، وبرنامجه نشر "الدعوة الإسلامية"، ويقود حكومة وصل العراق في عهدها لمقدمة دول الفساد، وأعادت السجون السرية ومسلسل الاغتصاب؛ أن تقارن سياسيا مثله بزعيم متجرد من الحزبيات والعقد الطائفية، متواضع، ونزيه اليد واللسان، و برنامجه وشعاره هما العراق والمواطن أولا.
في كل عام، نستعيد متألمين صور "أيام مضت"، منها أيام صافية من العهد الملكي نفسه يرتبط بعضها بفيصل الأول، ومنها صفحات في الثورة قبل أن تمزقها الصراعات الحزبية والمؤامرات. أما هذه السنة، فالحزن والغضب أشد، لما نراه من ألاعيب ومناورات الساسة في صراع الكراسي، فيما الشعب يعاني في مختلف الميادين، وفيما قوى التدخل والشر الإقليمية المتعددة تسرح وتمرح، والضحايا الطاهرة تسقط يوميا.
بعد سبع سنوات على سقوط النظام الصدامي، نرى الوضع يزداد ترديا وتداعيا، ونرى مزيدا من الأدلة على أن الطبقة السياسية العراقية غير مؤهلة أبدا لقيادة البلد لشاطئ السلامة، والأمان، والرخاء، ولإقامة دولة المؤسسات الديمقراطية وحقوق الإنسان والمساواة وسيادة القانون. ولا داعي لكي أعيد وأكرر ما سبق لي ولغيري نشره حول هذا كله. وإلا فهل يعقل أن رجلا كالسيد المالكي يظل يتشبث بالكرسي حتى النفس الأخير، وبلا احترام للعبة الانتخابية؟ وما هذه المداولات السرية والعلنية حول تشكيل الحكومة في عدم التزام فاضح بالنتائج، وبالمواعيد الدستورية؟ ولو كانت المسألة هي العودة للحصص وتوزيع المغانم، فلماذا الانتخابات أصلا؟!
حكام اليوم لا ينطلقون من عقيدة المواطنة، أي من مبدأ الانتماء للوطن أولا، ومساواة الجميع في الواجبات والحقوق. الكثيرون منهم، بالمقارنة مع عبد الكريم قاسم، هم خارج التقييم الإيجابي: جشع للسلطة، جشع للمال، عزلة عن الجماهير الشعبية، تقوقع طائفي وعرقي، ونظام سياسي قائم على المحاصصة؛ وصمت الأكثرية الحاكمة المريب عن التدخل الإيراني واسع النطاق، وهو الأكثر خطرا واتساعا، برغم أن دولا أخرى تتدخل أيضا، دولا عربية وتركيا. إيران تدخل أراضينا، وتضرب قرانا يوميا، أمام صمت الحكومة المركزية وحكومة الإقليم. وبينما يفرض المجتمع الدولي والغرب سلسلة عقوبات على النظام الإيراني الساعي نحو التسلح النووي، فإن النفط ومشتقاته يجري تهريبها على قدم وساق من إقليم كردستان ومن البصرة أيضا.
كما نذكر العدوان التركي المتواصل على أراضينا.
إن مهازل ومناورات الانتخابات وما بعد الانتخابات لا تشرف زعماء القوائم الناجحة، والمالكي بالذات يتحمل المسئولية الأولى والأكبر عن استمرار الأزمة، دون مراعاة للتداول السلمي للسلطة، ولتطلعات الناس، وحاجاتهم الأولية، ودماء الضحايا البريئة. إنهم لا يزالون يتأرجحون بين "محاصصة"، و" توافقية"، و" شراكة لا تحرم أية قوة"- أي من الكعكة إياها. والحقيقة إنها اللعبة نفسها، "تريد أرنبا خذ أرنبا.. تريد غزالا خذ أرنبا"- أي المحاصصة، [ مسكين الأرنب الوديع لإقحامه في هذه الإشكالية، فمعذرة له!].
صحيح أن سلوك وسياسات النظام السابق في حملاته الدموية ونزعته الطائفية والعنصرية، وما تركه من خراب أخلاقي واجتماعي- كل هذا يفسر الكثير. ولكن علينا أن نسجل أولا أن الوضع الراهن هو أولا نتاج أزمة الفكر السياسي العراقي، وأزمة الأخلاق السياسية العراقية. إنها أزمة النخب الحاكمة أولا، ولا يجب طمس أو تمييع المسئوليات بالتعكز على دور السياسات الصدامية، أو تخلف المجتمع.
الساحة متروكة أولا لإيران، فهي اللاعب الأول في العراق. أما إدارة أوباما، فهي، وكما نعرف، لا تعطي العراق أولوية يستحقها. فكيف ستتركه هكذا ليكون ضيعة كاملة لإيران، وليكون معرضا لأخطار التمزق والحروب المحلية؟؟
وهنا أيضا نصيح متوجعين: أين أنت يا عبد الكريم!
ملحق: كتب الأستاذ عبد الله المدني في "الحياة" بتاريخ 14 تموز عام 1994 مقالا عن الثورة والزعيم يستحسن هنا إيراد بعض مقاطعه. والأستاذ المدني هو من بين مثقفين عرب موضوعيين أنصفوا الزعيم. يقول المدني: "إنه حان الوقت لنعيد لعبد الكريم قاسم اعتباره ونسمي الأشياء دونما أن نغفل ظروف ذلك الزمن ونوعية تحالفاته وعلاقاته.. كان عفيف اللسان، نزيه الكف، لم تذكر خطبه المسجلة كلمة شائنة واحدة في حق خصومه، ولم تذكر دفاتره أنه حقق جاها أو مالا لنفسه أو لعائلته من وراء مناصبه... مات كما لم يمت غيره من صناع تاريخ العراق، وحيدا دون جاه أو قصور أو أطيان، أو حتى ملابس مدنية، ودونما أحزاب ومتحزبين ومليشيات، بل دونما زوجة أو وريث من صلبه.. بل سيذكر التاريخ أن الرجل، الذي فجر الثورة وأسس الجمهورية وحالف الفقراء ووهب الوطن كل حياته، لم يجد في أرض العراق الواسعة مترين من الأرض ليحتضنا جثته المثقوبة بالرصاص، وفضل رفاق الأمس، في ظاهرة تكشف قلة الوفاء وسيطرة النوازع الانتقامية، أن يرموا بالجسد في النهر ليكون طعاما للأسماك، حتى لا يعود العراقيون ذات يوم، حينما يعود الوعي الغائب أو المغيب قسرا، إلى الترحم على رجل لم يبخل على أهله بشيء فبخل الأهل عليه بكل شيء بما في ذلك القبر...."
عزيز الحاج