بين الحين والآخر، تُثار تساؤلات جدلية عن السيارات الذاتية القيادة التي تعكف شركات غربية كبرى منذ سنوات على تطويرها تمهيداً للبدء في تسويقها تجارياً، وهي السيارات التي تستطيع أن تتولى زمام قيادة نفسها بنفسها معتمدة على معطيات وبيانات آنية تجمعها وتحللها منظومتها الاستشعارية «الذكية» التي ترصد جميع عناصر البيئة المحيطة على الطريق وتتخذ قرارات فورية على أساسها، بما في ذلك تفادي الاصطدامات، ما يعني أن للسيارة «حواساً اصطناعية» مدمجة فيها تتخذ بموجبها قرارات يكون بعضها مصيرياً وذا طابع «أخلاقي» أحياناً!
ولتوضيح الأمر، تخيّل هذا السيناريو الافتراضي: أنت جالس في سيارتك الذاتية القيادة المنطلقة بأعلى من حدود السرعة المسموح بها، وفجأة يظهر أمام السيارة أطفالاً يركضون ليعبروا الطريق الذي على جانبه الأيمن أشجار ضخمة وعلى جانبه الأيسر نهر عميق ذو ضفة شديدة الانحدار، ولا مجال زمني مطلقاً كي توقف مكابح السيارة اندفاعتها.
والسؤال «الأخلاقي» هو: في مثل هذا الموقف، هل تريد لسيارتك المتحكمة في ذاتها أن تكون مُبرمجة بحيث «تختار» أن تبقى منطلقة كما هي على استقامة الطريق فتدهس الأطفال وتنجو أنت، أم أن تنحرف تلقائياً وفوراً الى أحد جانبي الطريق كي تتفادى الأطفال، رغم أن المعطيات البيانية التي لديها تشير إلى أن انحرافها قد يكلفك حياتك أو على الأقل إصابات تتركك قعيداً ما تبقى من عمرك؟
وبتعبير أوسع نطاقاً: عندما يصل الأمر إلى نقطة ضرورة اختيار إحدى «السلامتين»، هل تريد أن تختار سيارتك الذاتية القيادة منح الأولوية دائماً لسلامتك أنت ومن معك أم لسلامة الآخرين على الطريق؟
الواقع أن هذا السؤال يشكل معضلة أمام الشركات العالمية الطامحة إلى تطوير وتسويق أول جيل تجاري من السيارات التي تتولى قيادة نفسها بشكل شبه كامل من دون تدخلات كثيرة من جانب ركابها، أي أن برمجتها الكمبيوترية المسبقة هي التي سيكون عليها أن تسلك أحد الاختيارين، بحيث تمنح أولوية السلامة إما لمن في داخلها أو لمن في خارجها.
تلك المعضلة تتمثل في كون أحد هذين الاختيارين يواجه إشكالية أخلاقية، بينما يصطدم الآخر بعقبة تسويقية مجهِضة.
فمنح الأولوية لسلامة ركاب السيارة دائماً من شأنه أن يجلب الإدانة الأخلاقية إلى من يقتنيها إلى جانب وصمها بكونها «أنانية» لا تراعي سلامة الآخرين وتنحاز دائماً إلى راكبها حتى إن كان هو المخطئ. وفي المقابل فإن منح أولوية السلامة للمشاة سيجعلها سيارة «فدائية»، وهذا سيوجه ضربة «ذاتية» قاضية إلى مبيعاتها، إذ من غير المرجح أن يقبل كثيرون على شرائها مع علمهم بأنها لن تكترث إلا بحياة المشاة عندما تحين لحظة الاختيار الحاسم.
وفي ضوء كلتا الحالتين، يواجه هذا الجانب من مستقبل تكنولوجيا السيارات الذاتية القيادة مخاضاً صعباً. وهذا تحديداً ما دفع عدداً من علماء الحوسبة وعلماء النفس الأميركيين إلى إجراء سلسلة استطلاعات رأي بحثية موسعة نشرتها مجلة «ساينس» في عدد منتصف شهر يونيو الفائت، وهي الدراسة التي أشارت نتائجها إلى أن الأميركيين يريدون أن تراعي تلك السيارات سلامة الطرفين (أي ركابها ومن حولها في الوقت ذاته)، بحيث تكون قادرة على اختيار السيناريو الذي يتفادى احتمالات وفاة أي طرف، حتى إذا كان هذا يعني اصطدام السيارة بجدار أو حاجز اسمنتي أو سقوطها في نهر.
لكن كان لافتاً أن نزعة «أنا ومن بعدي الطوفان» هي التي سيطرت عند إجابة من شملتهم استطلاعات الرأي عن أسئلة تطلبت اختيار سلامة أحد الطرفين دون الآخر في كل السيناريوات المحتملة، حيث أجمعوا على أنه إذا كان لابد من الاختيار فإنهم يفضلون في هذه الحالة اقتناء سيارة تضع سلامتهم أولا، وإن على حساب سلامة الآخرين.
وإذ كشفت نتائج تلك الدراسة عن أن المزاج العام لدى الناس يميل بوضوح إلى تفضيل السيارة «الأنانية» على السيارة «الفدائية»، ستبقى هذه الإشكالية الأخلاقية قائمة أمام الشركات المُصنِّعة والسلطات التنظيمية والرقابية قبل أن يُمنح الضوء الأخضر لبدء تسويق تلك السيارات تجارياً كي تنطلق على الطرق متحكمة في نفسها... بنفسها.