تحدث المؤرخون عن علاقة نور الدين زنكي بصلاح الدين، فقد روى ابن الأثير وذكر أبو شامة نقلًا عن أبن أبي طي أسباب الوحشة بين نورالدين وصلاح الدين التي ابتدأت سنة 567هـ، وذلك عندما اتفقا على حصار الكرك ورجع صلاح الدين الأيوبي إلى مصر، قبل أن يلتقي بنور الدين، وأخذ عن ابن الأثير وابن أبي طي عدد من المؤرخين، وتبعهم بعض المؤلفين المعاصرين دون تمحيص، وغالوا في تعليلاتهم وتفسيراتهم لأسباب الوحشية ونتائجها، فوصفوا العلاقة بين نور الدين وصلاح الدين وكأنها علاقة عدائية، ومن ذلك أن كل واحد منهما كان يخاف صاحبه وأن صلاح الدين أصبح يسعى للتخلص من سيادة نور الدين ويحبذ أن تظل منطقة الكرك فاصلًا بينه وبين نور الدين، ونور الدين فكر في أنه أخطأ في إنفاذ أسد الدين شيركوه وصلاح الدين إلى مصر، ووصف نور الدين بأنه خصم خطير لصلاح الدين إلى ما ذلك. فما حقيقة الوحشة بين صلاح الدين ونور الدين؟
نقول: إن هذه التصورات الباطلة لا أصل لها إلا عند ابن أبي طيء وابن الأثير:
فأما ابن أبي طي: فقد حاول بما أتقنه من الدس والكذب أن يطعن في العلاقة بين الرجلين وهو متهم فيما ينسبه إلى نور الدين مما لا يليق به، فإن نور الدين كان قد أَذَلَّ الشيعة بحلب، وأبطل شعارهم وقوَّى أهل السنة، وكان والد ابن أبي طيّ كثير التحامل على نور الدين ويحاول أن يلطخ العلاقة بين الرجلين العظيمين بأكاذيبه النتنة.
وأما ابن الأثير: فهو متهم فيما يكتبه عن صلاح الدين، فهو يلتمس المناسبات أحيانًا لنقد صلاح الدين وتجريحه وخاصة عند المقارنة بينه وبين نور الدين، فمؤرخ البيت الزنكي في كتابيه "الكامل في التاريخ" و"الباهر في تاريخ الدولة الأتابكية" قد ذكر الآراء في كتابيه والتي نقلها عنه عدد من المؤرخين، وفحواها أن صلاح الدين لم يكن وفيًا لأستاذه نور الدين، بل كان يجتهد منُذ استقرار نفوذه في مصر إلى الاستقلال عنه، ومزاحمته السيادة السياسية ببلاد الشام. فكل هذه الآراء كتبها ابن الأثير بعد وفاة صلاح الدين.
واضطرار صلاح الدين إلى الخروج على رأس عساكره إلى بلاد الشام، وضم ممتلكات أستاذه نور الدين بها إلى ممتلكاته بمصر إذ أن خروج صلاح الدين إلى الشام كان من أجل إعادة الجبهة الإسلامية الموحدة، التي كان عماد الدين زنكي ثم ابنه نور الدين قد أجهد نفسيهما طويلًا في تكوينها، وكانت بعد وفاة نور الدين على وشك أن تنفصم وترجع الأوضاع إلى ما كانت عليه سابقًا من سوء وتشرذم وضعف، بعد انقسام البيت الزنكي، حزب في دمشق وحزب في حلب، ولم يستطع ابنه الطفل الصالح إسماعيل إعادة توحيد مملكة والده، ولقد كتب صلاح الدين إلى الخليفة العباسي، وإلى ابن نور الدين يخبره أن خروجه للشام، هو لتوحيد كلمة المسلمين ضد الفرنج.
وأغلب الظن أن هذه الأقوال التي رددها ابن الأثير، ونقلها عنه بعض المؤرخين بخصوص عدم ولاء صلاح الدين للبيت الزنكي، والروايات التي قيلت حول هذا الموضوع، قد صاغها المؤرخون وعلى رأسهم ابن الأثير لتعليل مسلك صلاح الدين بعد وفاة نور الدين وكان وراءها ولاء ابن الأثير للبيت الزنكي، ثم عدم تعاطفه مع صلاح الدين، الذي قضى على هذا البيت وممتلكاته من ناحية أخرى خاصة، وقد لاحظ المؤرخون المحدثون أن ابن الأثير قد تحامل على صلاح الدين في تاريخه الكامل والباهر، وتلمس له مواضع الزلل، وأسباب الخطأ.
نقد الشبهات المثارة:
وفي الحقيقة أن صلاح الدين كان نعم الجندي في السمع والطاعة لقائده نور الدين زنكي، وإليك الأدلة على ذلك:
1- قال العماد الأصفهاني أن صلاح الدين كان: لا يخرج عن أمر نور الدين، ويعمل له عمل القوي الأمين ويرجع في جميع مصالحه إلى رأيه المتين.
2- وأما أبو شامة، فقد عمد إلى تفنيد اتهامات ابن الأثير لصلاح الدين بخصوص خروجه عن طاعة نور الدين، وفي رأي أبي شامة أن نور الدين لم ينتقد على صلاح الدين إلا إسرافه في تفريق الأموال وصرفها واستبداده بذلك من غير مشاروته، ويؤكد أبو شامة رأيه بوثيقة وقف عليها بنفسه، بخط نور الدين، يقرر فيها للقاضي شرف الدين بن أبي عصرون، الذي تولى القضاء له بالشام ثم لصلاح الدين بمصر، إعجابه الشديد بما قام به صلاح الدين من نصرة المذهب السني بمصر، والقضاء على الدولة العبيدية الفاطمية والمذهب الشيعي، ويطلب من أبي عصرون مساندة صلاح الدين في هذا الأمر الجلل.
3- والواقع أن جميع الخطوات الحاسمة التي اتخذها صلاح الدين لإسقاط الدولة الفاطمية بمصر والقضاء على الدعوة الإسماعيلية بها، جاءت بأمر مباشر من نور الدين،، ولم تتم إلا بعد أن وصل نجم الدين أيوب والد صلاح الدين من طرف نور الدين إلى مصر، ليشرف بنفسه ويساعد ابنه للقضاء على الدعوة الشيعية الإسماعيلية.
4- وليس أدل على التبعية الكاملة لصلاح الدين الأيوبي تجاه نورالدين وكونه نائبًا عنه في حكم مصر من كونه كان يخطب له على المنابر في أرجاء الدولة الفاطمية إبان وزارته للخليفة الفاطمي العاضد، وإثر نقل الخطبة للعباسيين كان الخطيب بمصر وأعمالها يدعو لنور الدين بعد الخليفة، وقُرِّرت السكة باسم المستضيء بأمر الله وباسم الملك العادل نور الدين فنُقش اسم كل منهم في وجه.
5- وكان مجيء ابن القيسراني وزير نور الدين إلى مصر سنة (568 - 569هـ) لكشف البلاد وارتفاعها ومراجعة حساباتها لتقرير القطيعة أو الوظيفة السنوية التي يدفعها صلاح الدين لنور الدين، أمرًا طبيعيًا يؤكد تبعية مصر لنور الدين.
6- لقد أدركت الخلافة العباسية هذه الحقيقة الجوهرية، فميزت بوضوح بين الخِلع الخليفية لنور الدين وبين الخِلَع الخليفية لصلاح الدين وجَعلت خِلع صلاح الدين أقل من خلع نور الدين، في حين قلّدت نور الدين بالسيفين، إشارة إلى تقليده لقطري الشام ومصر، وفي نفس الوقت أرسل نور الدين من قبله خلع سيّرها من بلاد الشام إلى صلاح الدين وأهله وأمرائه بمصر، وتأكيدًا لتبعيتهم المباشرة له.
7- كان صلاح الدين يراعي التأدّب في رسوم الملك، فلا يساوي نفسه بسيده نور الدين، فقد أرسل الرُّسل من القاهرة إلى نور الدين لتخبره بلبس صلاح الدين للخلع وباستجابة صلاح الدين على مداومة إرسال ما قُرَّر عليه من مال إلى نور الدين في كل سنة.
8- وإذا كانت جميع الإجراءات التي اتخذها صلاح الدين لإسقاط الخلافة الفاطمية والخطبة لبني العباس والقضاء على الدعو الإسماعيلية بمصر قد تمَّت بتوجيه مباشر من نور الدين وبعد إرساله لنجم الدين والد صلاح الدين فإن ضمَّ صلاح الدين لليمن تّم بإذن نور الدين للقضاء على الدعوة الشيعية الإسماعيلية هناك وضم اليمن لجبهة المقاومة، بحيث أرسل نور الدين هذه الباشرة بنفسه للخليفة العباسي، وكذلك في ضم المغرب الأدنى وغزو مملكة النوبة وبشر الخليفة العباسي بقرب فتح القسطنطينية وبيت المقدس. فقد كتب نور الدين إلى الخليفة العباسي: "وقسطنطينية والقدس يجريان إلى أمَد الفتوح في مضمار المنافسة، والله تعالى بكرمه يدنى قطاف الفاتحين لأهل الإسلام ويوفق الخادم لحيازة مراضي الإمام، ومن جملة حسنات هذه الأيام الزاهرة، ما تيسر في هذه النَوْبَة من افتتاح بعض بلاد النُوبَة، والوصول إلى مواضع منها، لم تَطرُقها سنابك الخيل الإسلامية في العصور الحالية، وكذلك استولى عساكر مصر أيضًا على برقة وحصونها .. حتى بلغوا إلى حدود المغرب".
9- ومنُذ استقرار صلاح الدين بمصر، حتى وفاة نور الدين داوم صلاح الدين على إرسال تحف القصر العبيدي الفاطمي إلى سيده نور الدين رمزًا للولاء والتبعَّية، وداوم صلاح الدين على إطلاع نور الدين على كل صغيرة وكبيرة داخل مصر، فنجده مثلًا يرسل إليه كتابًا يتضمن ذكر ثورة بقايا الفاطميين والتي كان من ضمنها "عمارة اليمني"، وليس أدلّ على تعاون كل من صلاح الدين ونور الدين من تفاهمها الاستراتيجي في قتال الفرنج؛ فيروي أبو شامة أنه في سنة 568هـ/1172م تولى السلطانان نور الدين في الشام وصلاح الدين من مصر في هذه السنة جهاد الصليبيين، ولقد وصف العماد هذا الحدث بـ "جهاد السُّلطانين للفرنج"، وهذا ما أكَّده صلاح الدين في كتاب له للخليفة العباسي بقوله أنه: "كان انعقد بينه وبين نور الدين رحمه الله، في أن يتجاذبا طرفيَّ الغزاة من مصر والشام، والمملوك (أي صلاح الدين) بعسكره وبّره وبحره، ونور الدين من جانب سهل الشام ووعره".
10- ولقد أبدى صلاح الدين تبعيته لبيت نور الدين حتى بعد وفاته سنة 569هـ/1173م، بحيث خطب صلاح الدين لابنه الصالح إسماعيل، وضرب السكة باسمه، ووافى إرسال الرسائل في العزاء بنور الدين، وعلى هذا الأساس نستطيع أن نقول: إنَّه حتى وفاة نور الدين، كانت مصر والشام قد توحدتا تحت زعامة نور الدين، وهذا ما عبر عنه العماد الأصفهاني حين امتدح نور الدين فقال:
بملك مصـــــر أهنىء مالك الأمم *** فثق وأبشر بنصر الله عــن أمم
فملك مصر وملك الشام قد نُظِمَا *** في عقد عز من الإسلام منتظم
وفي كل الأحوال لم تصل علاقة نور الدين بصلاح الدين إلى درجة العداء ولا مسوّغ لاعتبار الاختلاف في الرأي وحشة ونفرة كما يقرر ذلك عدد من المؤرخين والكتاب.
وكل ما هنالك أنّ نور الدين كان يتطلع إلى مصر على أنها مصدر للواردات وسدّ بها نفقات الجهاد ضد الصليبيين في الشام، وأنها مصدر للطاقة البشرية المجاهدة وكان صلاح الدين أكثر معرفة من نور الدين لما يجري في مصر من أخطار ناجمة عن استعداد أنصار الفاطميين للإنضمام إلى الفرنج فوجه اهتمامه إلى بناء جيش قوي، بحيث يستطيع السيطرة على مصر، ورأى أن تثبيت كيان الدولة الجديدة في مصر أولى من الانشغال بمسائل الشام، وهذا يتفق مع ما قاله نور الدين للرسول الذي بعثه صلاح الدين يعتذر عن موقفه من حصار الكرك، حيث قال: "حفظ مصر أهم عندنا من غيرها".
مصدر البحث:
علي الصلابي: عصر الدولة الزنكية، ونجاح المشروع الإسلامي بقيادة نور الدين محمود "الشهيد" في مقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبي، الناشر: مؤسسة اقرأ للنشر والتوزيع والترجمة، القاهرة - مصر
الطبعة: الأولى، 1428هـ / 2007م.
مصادر ومراجع البحث:
- ابن الأثير: التاريخ الباهر في الدولة الأتابكية، تحقيق عبد القادر طليمات، طبعة القاهرة 1963م.
- ابن واصل: مفرج الكروب في أخبار بني أيوب، تحقيق د. جمال الدين الشيال.
- أبو شامة: كتاب الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية، مؤسسة الرسالة الطبعة الأولى 1418هـ/1997م.
- سبط ابن الجوزي: مرآة الزمان في تاريخ الأعيان، حيدرآباد الدكن 1951م.
- ابن العديم: زبدة حلب من تاريخ حلب، تحقيق سامي الدهان طبعة دمشق 1954م.
- المقريزي: السلوك لمعرفة دول الملوك، تحقيق مصطفى زيادة.
- محمود فايز إبراهيم السرطاوي: نور الدين زنكي في الأدب العربي في عصر الحروب الصليبية، دار البشير، عمّان الأردن، الطبعة الأولى 1411هـ / 1990م.
- السيد عبد العزيز سالم وسحر السيد عبد العزيز سالم: دراسة في تاريخ الأيوبيين والمماليك، مؤسسة شباب الجامعة الإسكندرية طبعة سنة 1999م.
- عباس العزاوي: التعريف بالمؤرخين في عهد المغول والتركمان، طبع ببغداد، 1376هـ/1957م.
- أحمد فؤاد سيد: تاريخ مصر الإسلامية زمن سلاطين بني أيوب، مكتبة مدبولي طبعة 2002م.
د.علي الصلابي