أجمل ماكتب الشاعر الكبير نزار قباني
قصيدة في رثاء زوجته بلقيس
كـــــاملة
بلقيـــــس ..
شكراً لكـــم ,, شكراً لكـــم
فحبيبتي قتلت .. وصار بوسعكم
أن تشربوا كأساً على قبر الشهيدة
وقصيدتي اغتيلت .. وهل من أمة في الأرض
- إلا نحن – نغتال القصيدة ..؟
بلقيس
كـــانت أجمل الملكات في تاريخ بابل
بلقيس
كانت أطول النخلات في أرض العراق
كانت إذا تمشي
ترافقها طواويس .. وتتبعهــا أيائل
بلقيس .. يا وجعي
ويا وجع القصيدة حين تلمســها الأنامل
هل يا ترى
من بعد شعرك سوف ترتفع السنابل ...؟
يا نينوى الخضراء
يا غجريتي الشقراء
يا أمواج دجلة
تلبس بالربيع بساقيها ... أحلى الخلاخل
قتلوك يا بلقيس
أية أمة عربية ... تلك التي
تغتال أصوات البلابل ..؟
أين السمؤال ..؟؟ والمهمل ..؟؟
و الغطاريف الأوائل ...؟؟
فقبائل أكلت قبائل
وثعالب قتلت ثعالب
و عناكب قتلت عناكب
قسما بعينيك اللتين إليهما
تأوي ملايين الكواكب
سأقول يا قمري عن العرب العجائب ..
فهل البطولة كذبة عربية
أم مثلنا التاريخ كاذب ..؟؟
بلقيس .. لا تتغيبي عني
فإن الشمس بعدك
لا تضيء على السواحل
سأقول في التحقيق :
أن اللص أصبح يرتدي ثوب المقاتل
وأقول في التحقيق :
إن القائد الموهوب أصبح كالمقاول
وأقول :
إن حكاية الإشعاع أسخف نكة قيلت
فنحن قبيلة بين القبائل
هذا هو التاريخ يا بلقيس
كيف يفرق الإنسان
مابين الحدائق و المزابل
بلقيس
أيتها الشهيدة .. والقصيدة
و المطهرة النقية
سبأ تفتش عن مليكتها
فردي للجماهير التحية
يا أعظم الملكات
يا امرأت تجسد كل أمجاد العصور السومرية
بلقيس
يا عصفورتي الأحلى
ويا أيقونتي الأغلى
ويا دمعاً تناثر فوق خد المجدلية
أترى ظلمتكِ .. إذا نقلتكِ
ذات يوم من ضفاف الأعظمية
بيروت .. تقتل كلّ يوم واحد فينا
و تبحث كل يوم عن ضحية
والموت في فنجان قهوتنا
وفي مفتاح شقتنا
وفي أزهار شرفتنا
وفي ورق الجرائد
والحروف الأبجدية
ها نحن يا بلقيس
ندخل مرة أخرى لعصر الجاهلية
ها نحن ندخل في التوحش
والتخلف .. والبشاعة ... والوضاعة
ندخل مرة أخرى عصور البربرية
حيث الكتابة رحلة
بين الشظية والشظية
حيث اغتيال فراشة في حقلها
صار القضية
هل تعرفون حبيبتي بلقيس ...؟
فهي أهم ما كتبوه في كتب الغرام
كانت مزيجاً رائعاً
بين القطيفة والرخام ..
كان البنفسج بين عينيها
ينام ولا ينام
بلقيس ... يا عطراً بذاكرتي
ويا قبراً يسافر بالغمام
قتلوكِ في بيروت .. مثل أي غزالة
من بعدكِ .. قتلوا الكـــلام
بلقيس ... ليست هذه مرثية
لكن على العرب السلام
بلقيس
مشـــتاقون ... مشـــتاقون .... مشــــتاقون
والبيت الصغير
يسأل عن أميرته المعطرة الذيول
نصغي إلى الأخبار .. والأخبار غامضة
ولا تروي فضول
بلقيس .. مذبوحون حتى العظم
والأولاد لا يدرون ما يجري
ولا أدري أنا .. ماذا أقول ..؟؟؟
هل تقرعين الباب بعد دقائق ...؟
هل تخلعين المعطف الشتوي ...؟
هل تأتين باسمية
وناضرة
ومشرقة كأزهار الحقول ؟؟
بلقيس
إن زروعك الخضراء
مازالت على الحيطان باكية
ووجهك لم يزل متنقلاً
بين المرايا والستائر
حتى سجارتكِ التي أشعلتها
لم تنطفئ .. ودخانها
مازال يرفض أن يسافر
بلقيس
مطعونون .. مطعونون في الأعماق
والأحداق يسكنها الذهول
بلقيس
كيف أخذتِ أيامي ... وأحلامي
وألغيت الحدائق و الفصول
يا زوجتي
وحبيبتي .. وقصيدتي .. وضياء عيني
قد كنتِ عصفوري الجميل
فكيف هربتِ يا بلقيس مني ...؟؟؟
بلقيس
هذا موعد الشاي العراقي المعطر
والمعطر كالسلافة
فمن سيوزع الأقداح .. أيتها الزرافة ...؟؟
ومن الذي نقل الفرات لبيتنا ..؟؟
وورد دجلة و الرصافة ..؟؟
بلقيس .. إن الحزن يثقبني
وبيروت التي قتلتكِ .. لا تدري جريمتها
وبيروت التي عشقتكِ
تجهل أنهــا قتلتْ عشيقتها
وأطفأت القمر
بلقيس .... يا بلقيس ... يا بلقيس
كل غمامة تبكي عليكِ
فمن ترى يبكي عليّ ...؟؟؟
بلقيس ... كيف رحلتِ صامتة
ولم تضعي يديكِ على يديّ ..؟؟
بلقيس
كيف تركتنا في الريح
نرجف مثل أوراق الشجر ؟؟
وتركتنا – نحن الثلاثة – ضائعين
كريشة تحت المطر
أتراكِ ما فكرت بي ...؟؟
وأنا الذي يحتاج حبك .. مثل (زينب) أو (عمر)
بلقيس
يا كنزاً خرافياً
ويا رمحاً عراقياً
وغابة خيزران
يا من تحديتِ النجوم ترفعاً
من أين جئتِ بكل هذا العنفوان ...؟؟؟
بلقيس
أيتهــا الصديقة والرفيقة
والرقيقة مثل زهرة أقحوان
ضاقت بنا بيروت ... ضاق البحر
ضاق بنا المكان
بلقيس ما أنتِ التي تتكررين
فما لبلقس اثنتان
بلقيس
تذبحني التفاصيل الصغيرة في علاقتنا
و تجلدني الدقائق والثواني
فلكل دبوس صغير .. قصة
ولكل عقد من عقودكِ .. قصتانِ
حتى ملاقط شعركِ الذهبي
تغمرني .. كعادتها ... بأمطار الحنانِ
و يعرش الصوت العراقي الجميل
على الستائر .. والمقاعد .. والأواني
من المرايا تطلعين
من الخواتم تطلعين
من القصيدة تطلعين
من الشموع .. من الكؤوس
من النبيذ الأرجواني
بلقيس .. يا بلقيس
لو تدرين ما وجع المكـــان
في كل ركن أنتِ حائمة كعصفور
وعاقبة كغابة بيلسان
فهناك كنتِ تدخنين
هناك كنتِ تطالعين
هناك كنتِ كنخلة تتمشطين
وتدخلين على الضيوف
كأنك السيف اليماني
بلقيس
أيــن زجاجة ( الغيرلانِ ) ..؟؟
والولاعة الزرقاء
أين سجارة الــ ( كنت ) التي
ما فارقت شفتيكِ
أين ( الهاشمي ) مغنياً
فوق القوام المهرجانِ
تتذكر الأمشاط ماضيهــا
فيكرج دمعهــا
هل يا ترى الأمشاط من اشواقها أيضاً تعاني ..؟؟؟
بلقيس .. صعب أن أهاجر من دمي
وأنا المحاصر بين ألسنة اللهيب
وبين ألسنة الدخانِ
بلقيس ... أيتها الأميرة
ها أنتِ تحترقين ... في حرب العشيرة والعشيرة
ماذا سأكتب عن رحيل مليكتي
إن الكلام فضيحتي
ها نحن نبحث بين أكوام الضحايا
عن نجمة سقطت
وعن جسد تناثر كالمرايا
ها نحن نسأل يا حبيبة
إن هذا القبر قبرك أنتِ
أم قبر العروبة ..؟؟
بلقيس
يا صفصافة أرخت ضفائرها عليّ
ويا زرافة كبرياء
بلقيس
إن قضاءنا العربي أن يغتالنا عرب
ويأكل لحمنا عرب
ويبقر بطننا عرب
ويفتح قبرنا عرب
فكيف نفر من هذا القضاء ..؟؟
فالخنجر العربي .. ليس يقيم فرقاً
بين أعناق الرجال
وبين أعناق النساء
بلقيس .. إن هم فجروكِ .. فعندنا
كل الخناجر تبتدي في كربلاء
وتنتهي في كربلاء
لن أقرأ التاريخ بعد اليوم
إن أصابعي اشتعلت
وأثوابي تغطيها الدماء
ها نحن ندخل عصرنا الحجري
نرجع كل يوم .. ألف عام للوراء
البحر في بيروت
بعد رحيل عينيك استقال
والشعر .. يسأل عن قصيدته
التي لم تكتمل كلماتها
ولا أحد ... يجيب على السؤال
الحزن يا بلقيس
يعصر مهجتي كالبرتقالة
الآن ... أعرف مأزق الكلمات
أعرف ورطة اللغة المحالة
وأنا الذي اخترع الرسائل
لست أدري كيف أبتدي الرسالة ...؟؟
السيف يدخل لحم خاصرتي
وخاصرة العبارة
كل الحضارة أنت يا بلقيس .. والأنثى حضارة
بلقيس .. أنت بشارتي الكبرى
فمن يسرق البشارة ..؟؟
أنت الكتابة مثلما كانت كتابة
أنتِ الجزيرة والمنارة
بلقيس
يا قمري الذي طمروه مابين الحجارة
الآن ترتفع الستارة
الآن ترتفع الستارة
ســـأقول في التحقيق :
إني أعرف الأسماء .. والأشياء .. والسجناء
والشهداء .. والفقراء ... والمستضعفين
وأقول إني أعرف السياف قاتل زوجتي
ووجوه كل المخبرين
وأقول : إن عفافنا عهر
وتقوانا قذارة
وأقول : إن نضالنا كذب
والآن لا فرق
ما بين السياسة والدعارة ...!!!!!
ســـأقول في التحقيق
إني أعرف القاتلين
وأقول :
إن زماننا العربي مختص بذبح الياسمين
وبقتل كلّ الأنبياء
وقتل كلّ المرسلين
حتى العيون الخضر .. يأكلها العرب
حتى الضفائر والخواتم
والأساور والمرايا .. واللعب
حتى النجوم تخاف من وطني
ولا أدري السبب
حتى الطيور تفر من وطني
ولا أدري السبب
حتى الكواكب والمراكب والسحب
حتى الدفاتر والكتب
وجميع أشياء الجمال
جميعهـــا .... ضد العربْ
لمّــــا تناثر جسمك الضوئي
يا بلقيس .. لؤلؤة كريمة
فكرت .. هل قتل النساء هواية عربية
أم أننا في الأصل محترفي جريمة
بلقيس
يا فرسي الجميلة .. إنني
من كل تاريخي خجول
هذي بلاد يقتلون بها الخيول
هذي بلاد يقتلون بها الخيول
من يوم أن نحروك
يا بلقيس ... يا أحلى وطن
لا يعرف الإنسان كيف يعيش في هذا الوطن
لا يعرف الإنسان كيف يعيش في هذا الوطن
مازلت أدفع من دمي ... أغلى جزاء
كي أسعد الدنيا .. ولكن السماء
شاءت بأن أبقى وحيداً
مثل أوراق الشتاءْ
هل يولد الشعراء من رحم الشقاءْ ..؟
وهل القصيدة طعنة
في القلب ليس لها شفاءْ ..؟
أم أنني وحدي الذي
عيناه تختصران تاريخ البكــاءْ ..؟
ســـأقول في التحقيق :
كيف غزالتي ماتت بسيف أبي لهبْ
كل اللصوص من الخليج إلى المحيط
يدمرون ويحرقون
وينهبون ويرتشون
ويعتدون على النساء
كما يريد أبو لهــبْ
كل الكلاب موظفون
ويأكلون ... ويسكرون
على حساب أبي لهب
لا قمحة في الأرض
تنبت دون رأي أبي لها
لا طفل يولد عندنا
إلا وزارت أمه يوماً
فراش أبي لهـــب ..!!!!
لا سجن يفتح ... دون رأي أبي لهب
لا رأس يقطع ... دون أمر أبي لهب
سأقول في التحقيق :
كيف أميرتي اغتصبت
وكيف تقاسموا فيروز عينيها
وخاتم عرسهــا
وأقول : كيف تقاسموا الشعر الذي
يجري كأنهار الذهبْ
ســـأقول في التحقيق :
كيف سطوا على آيات مصحفنا الشريف
وأضرموا فيه اللهبْ
ســـأقول كيف استنزفوا دمهـــا
وكيف استملكوا فمهــا
فما تركوا فيه ورداً ... ولا تركوا عنبْ
هل موت بلقيس
هو النصر الوحيد
بكل تاريخ العربْ .....؟؟؟؟
بلقيس
يا معشوقتي حتى الثمالة
الأنبياء الكاذبون ... يقرفصون
ويركبون على الشعوب .. ولا رسالة
لو أنهم حملوا إلينا
من فلسطين الحزينة
نجمة أو برتقالة
لو أنهم حملوا إلينا
من شواطئ غزة .. حجراً صغيراً أو محارة
لو أنهم من ربع قرن حرروا .. زيتونة
أو أرجعوا ليمونة
و محوا عن التاريخ عاره
لشكرت من قتلوكِ يا بلقيس
يا معبودتي حتى الثمالة
لكنـــهم تركوا فلســــطيناً
ليغتالوا غزالـــة ....!!!!
ماذا يقول الشعر يا بلقيس
في هذا الزمــانِ ..؟ماذا يقول الشعر ؟؟
في العصر الشعوبي ... المجوسي ... الجبانِ ..؟
والعالم العربي
مسحوق ... ومقموع ... ومقطوع اللسانِ
نحن الجريمة في تفوقهــا
فمــا (العقد الفريد) ... ومــا (الأغاني) ..؟؟
أخذوكِ أيتها الحبيبة من يدي
أخذوا القصيدة من فمي
أخذوا الكتابة والقراءة
والطفولة ... والأماني
بلقيس ... يا بلقيس
يا دمعــاً ينقط فوق أهداب الكمانِ
علمت من قتلوك أسرار الهوى
لكنهم ... قبل انتهاء الشوط
قد قتلوا حصاني
بلقيس
أسألك السماح ..... فربمـــا
كانت حياتك فدية لحيـــاتي
إني لأعرف جيداً
أن الذين تورطوا في القتل ... كان مرادهـــم
أن يقتلوا كلمـــاتي ..!!!!
نامي بحفظ الله .... أيتهــــا الجميلة
فالشعر بعدكِ مستحيل
والأنوثة مستحيلة
ستظل أجيال من الأطفال
تسأل عن ضفائركِ الطويلة
وتظل أجيال من العشـــاق
تقرأ عنكِ ... أيتهــا المعلمة الأصيلة
وسيعرف الأعراب يومــاً
بأنهم قتلوا الرســــولة
قتلوا الرسولة
ق .. ت .. ل .. و .. ا
ا .. ل .. ر .. س .. و .. ل .. ة
بيروت 15/12/1981مـ
.................. نزار قبانــــــــي