فيما يلي نُحاول أن نُلقي الضوء على شخصيةٍ من أهم الشخصيات التي حكمَت بلادَ المغرب في بداية العصور الحديثة؛ لما كان لها من بصمات قوية على تاريخ بلادها، وحضارة أمَّتها، في زمن كان الاستعمار الأوربي تحفَّز للانقضاض على أوطان العالمين العربي والإسلامي، ويحاول قهر شعوبها واستعمارَ أرضها.

وأمير المؤمنين أحمد المنصور الذهبي [1] جديرٌ بالدراسة، وإبراز مَعالم شخصيته؛ فهي مثالٌ للشخصية الإسلامية ذاتِ الطموح، الغَيورة على بلادها وأمَّتها العربية والإسلامية. وكان من حسن حظِّ المنصور وحظِّ بلاد المغرب أن بَدأ حكمُه عقبَ انتهاء هذه المعركة الخطيرة الكبيرة (معركة وادي المخازن) التي انتصَر فيها المغاربةُ على البرتغاليِّين انتصارًا حاسمًا والتي كان لها دَويُّها ومؤثِّراتها على المغرب، وعلى القوى الصليبيَّة، كما كان لها نتائجها المباشرة على المعسكرَين الإسلامي والمسيحي.

الدولة السعدية في عهد أحمد المنصور الذهبي (986 - 1012هـ):
ويعتبر المنصور واسطةَ عِقد الدولة السعدية، وقد ظل متربِّعًا على عرشها ربع قرنٍ من الزمان انتهى إليه مجدُها وعظمتها، ويمكن اعتبارُ عصر المنصور عصرًا قائما بذاته، أخَذ فيه المغرب شخصيته المتميزة عن الأقاليم المجاورة له، وأصبحَت له في هذه الفترة سياسةٌ معينة غيرُ مرتبطة بسياسة جيرانه في الجزائر، وبقية أقاليم المغرب الكبير، كما أن البنيان الاجتماعيَّ والاقتصادي للمغرب قد أخذ شكلاً واضحًا يختلف عن شكله في الأقاليم المجاورة.

وُلد أبو العباس أحمد المنصور بن المهدي سنة 956هـ، وتربى بمدينة فاس؛ حيث أخذ يدرس العلم والأدبَ والفقه في مَدارسها، ثم أقام بسجلماسة، ولما تولى أخوه الغالب أمرَ المغرب رحَل هو وأخوه عبد الملك إلى الجزائر ثم إلى تركيا، وقد أكسبه مقامه في الأستانة اطلاعًا على شؤون أوربا ودول البحر المتوسط، فأظهر مهارة ودهاء ساعَداه في توجيه سياسة المغرب الخارجية، وقد ألف للمغاربة بنفسه كتابًا في علم السياسة، بيَّن فيه كيف تُنظِّم الأمَّة المُلك وتحافظ على كيانها ومجدها، وكان يهتم بمشكلات دولته ويطَّلع على شؤون بلاده اطلاعًا واسعًا [2].

كما كان وَلوعًا بالمعارف الطريفة، إلى جانب أنه كان عالمًا حفيًّا بالعلماء، حتى أُطلق عليه عالمُ الخلفاء وخليفةُ العلماء، كما كان شاعرًا من أحسن الشعراء، وكما يقول بعضهم: إنه أشعرُ ملوك المغرب قاطبة [3]، وكان له ديوانٌ باسم ديوان الشرفاء [4].

ولقد كان لهذا الرجل العبقريِّ دورٌ كبير في توطيد وتأسيس حكم أخيه المعتصم بالله عبد الملك بالمغرب؛ ولذلك رشَّحه لولاية عهده، وكان المنصور خليفةً لأخيه على فاس، ومنها كان يُرسل النَّجدات، ويقود الجيوش لمحاربة أعداء الدولة، كما كان له دورٌ عظيم في معركة وادي المخازن التي انتصَر فيها المغاربةُ على أعدائهم الصليبيين.

بويع أبو العباس بالخلافة غداةَ الانتصار في معركة وادي المخازن، وتلقب بالمنصور بالله؛ تيمنًا بانتصار المسلمين فيها، وكانت بيعته في نهاية جُمادى الأولى سنة 986هـ، ولقد بايعه الجندُ الذين كانوا في المعركة أولاً، والذين كانوا قد طالبوه بالرَّواتب والأُعطِيَات، فطالبهم بخُمس الغنائم، فسُوِّيَت بذلك الأمور بين الخليفة الجديد وجنودِه، ثم أتته بيعةُ فاس، وأرسل المنصور فأذعن الكلُّ للطاعة، وسارعوا فيما دخلَت فيه الجماعة [5].

وقد تعرَّض المنصور في بداية توليته لمؤامرةٍ كاد يفقد فيها سلطانَه؛ وذلك حينما علم قادة الأتراك بأمر بيعته، فاتفقوا مع بعض كبار الجيش المغربي على تنحية المنصور، وإعلان بيعة إسماعيل بن عبد الملك للعرش السعديِّ، مستغلِّين شعبية عبد الملك المعتصم في نفوس العامَّة، ولبثِّ روح التفرقة بين أبناء المغرب، مما اضطر معه المنصورُ إلى الفِرار؛ خشيةً على حياته. ولكنَّ المغاربة رفَضوا ذلك وأصرُّوا على بيعة المولى أحمد المنصور؛ لذلك كان أول ما فعله المنصور -بعد استِتباب أمره- أن قام بالتنكيل ببعض كبار الجيش المغربيِّ، والتخلُّص من المشكوك في إخلاصهم له [6].

علاقات أحمد المنصور الذهبي مع الإمبراطورية العثمانية:
ولما استقر حكم المنصور بالمغرب أرسل إلى السلطان مراد الثالث وإلى سائر المماليك الإسلامية المجاورة للمغرب: "بما أنعم الله به عليه من إظهار الدِّين، وهلاك عبَدة الصليب، واستئصال شأفتهم" [7]. وقد استقبل الخليفةُ السعدي الجديد وفودَ التهنئة من تركيا والجزائر وإسبانيا والبرتغال وفرنسا .. إلخ، وقد استُعرِضَت الهدايا والتُّحف الثمينة التي جاءت بها تلك الوفودُ في حفل شعبي عظيم.

ويبدو أنَّ استقبال المنصور للوفد التركيِّ كان استقبالاً فاترًا، وربما كان المنصور قد استقبَل هدية سلطان تركيا، وكانت سيفًا محلًّى لم يُر مثله مَضاءً وصفاءَ متن، فتَشاغل عن الوفد وأهمَله، وتأخَّر عن جواب خافان مالك القسطنطينية العظمى السلطان مراد بن السلطان سليم التركماني، والذي كان يطلب تبعيَّة المغرب للإمبراطورية العثمانية [8]، فاغتاظ السلطان العثماني، وكان في بلاطه بعضُ أعداء المنصور الذين زيَّنوا لصاحب القسطنطينية ضرورةَ تأديب المنصور، والاستيلاء على المغرب الأقصى، وكان على رأسهم عليّ علوج وزير البحر، وقد نجَح علوج في إيغار صدر السلطان التركيِّ واستثارته، فأمر بتوجيه حملة لمنازَلة المنصور.

ولقد بلغ الخبر للخليفة السعدي، ولم يضيع المنصورُ وقته، فاتَّجه إلى فاس، وشحن الثُّغور، واستعد أكملَ استعداد للحرب، وفي نفس الوقت بعثَ رسولين للسلطان العثمانيِّ، ومعَهما هدية عظيمة مقدِّمًا اعتذاره عما سلَف منه، والتقت رسل المنصور بالريس علي علوج وهو قاصدٌ المغرب، وحاول أن يُثني رسولَيِ المنصور عن هذه السفارة، ولكن أحد الرسولين وصل إلى بلاط السلطان التركيِّ ونجح في إزالة النُّفور من صدره، فقَبِل السلطان مرادٌ اعتذارَ المنصور، وقبِلَ هديته، وصدرت أوامرُ سلطان تركيا إلى علوج بالرجوع عن مُنازلة المنصور [9]. وهكذا استطاع المنصور بحنكته السياسية وحسن تدبيره أن يَقِي بلادَه شرَّ حملة لا يُمكن التنبؤ بنتائجها في تلك الفترة التي يُحاول فيها توطيدَ دعائم القوة والاستقرار في دولته.

ضربة على أيدي الثائرين:
ولم يكن أمر حملة علوج -التي عادت قبل أن تصل المغرب- هو كلَّ ما أقلق المنصور، بل الحقيقة أنه تعرض طوال سِني حكمه الطويلة لثوراتٍ ومؤامَرات من الداخل والخارج؛ كما سنوضِّح ذلك بعد قليل. ولقد مرض المنصور مرضًا خطيرًا في العام التالي، وهذا ما جعله يفكِّر في تعيين ولي للعهد، كما طلب منه كبارُ رجال دولته أيضًا ذلك، وقد وقع اختيارُ المنصور على ابنه محمد الشيخ وليًّا للعهد.

ويبدو أن ذلك الاختيارَ أسخط داود بن عبد المؤمن ابنَ أخي المنصور، فقام داود بثورته ضد عمِّه الذي اعتقد أن عمه لم يُراعِ حقَّه عند ولاية العهد على الرغم مما قدَّمه من خدمات لعمَّيه أحمد وعبد الملك في استخلاص المُلك من المتوكِّل.

وقد أرسل المنصور قائده ابنَ بجَّة الذي ظلَّ يطارده بجبل سكسيره، ففرَّ الثائر إلى جبال هوزالة، ولم يزل ابن بجة في مقاتلته إلى أن شرَّده إلى جبال هوزالة، ففر داود منها إلى الصحراء إلى أن هلَك سنة 988هـ، وانتهى أمر ثورته [10].

وقد أوقع المنصورُ كذلك بعرب الخلط الذين عاثوا في البلاد فسادًا، وضايقوا الرعيَّة، فكَثُرت الشكاية منهم إلى المنصور، فأرسل إليهم قائده موسى بن أبي حُميد العمري، فانتزع منهم الخيل، ثم حكَّم السيفَ في رقابهم، واستأصل جمهورهم؛ فمِن ثم خُضِدت شوكتهم، ولانت للغامز قناتهم [11].

كما قضى المنصور على ثورة الحاج قرقوش ببلاد غمارة وبلاد الهبط الذي كان قد ثار هنالك، وتَسمَّى بأمير المؤمنين واعتقدَت فيه العامة، فأُخذ وقُتل، وحُمل رأسه إلى مرَّاكُش سنة 993هـ [12].

أمَّا أخطر هذه الثورات التي هزَّت المغرب الأقصى، وأقلقَت المنصور ردحًا من الزمن فثَورتان: ثورة ابن أخيه الناصر بن الغالب، وثورة ابنه ووليِّ عهده المأمون محمد الشيخ.

أما ثورة الناصر بن الغالب فكان وراءها المحرِّض عليها فيليب الثاني ملك إسبانيا، وقد كان الناصر واليًا على قادلا أيام أبيه الغالب، ولما تولى أخوه المتوكِّل عرش البلاد سجَنه إلى أن أطلَقه من سجنه عمُّه عبد الملك حينما استولى على حكم المغرب، فلما توفي المعتصم فرَّ الناصر إلى آصيلا، وكانت تحت البرتغاليين، ثم عبر البحر إلى إسبانيا حيث بقي عند ملك إسبانيا إلى أن بعثَه إلى مليلة؛ لتفريق الكلمة في بلاد المغرب، وتحطيم كل مشروعات المنصور، وإثارة القلائل ضده.

ولما نزل الناصر مليلية سارع إليه الناس، وكثرت جموعه، فخرَج منها قاصدًا لتازة، والتفَّت أيضًا حوله القبائل المجاورة، ولما علم المنصور بأمره أحزَنه ذلك، وتخوَّف منه غاية الخوف؛ لأنَّ الناصر اهتزَّت لقيامته البلادُ؛ لميل القلوب عن المنصور؛ لشدة وطأته وكثرة عسفه للرعية.

ثم حدث أن بعثَ المنصور جيشًا كبيرًا، فهزمَه الناصرُ واستوثق له الأمر، فأمر المنصورُ وليَّ عهده بمنازلته، فلما التقى الجمعان كانت الدائرة على الناصر، فهرب إلى تازه بالجاية، وهي بلدة من عمل بلاد الزبيب، فلحق به وليُّ العهد، فلَم يزَل في مقاتَلته إلى أن قبض عليه، واحتزَّ رأسه، وحملها إلى مراكش سنة 1005هـ [13].

ولقد تردَّد أصداءُ هذا النصر في الرسائل الموجَّهة من المنصور إلى علماءِ مصر وسلطانِ تركيا مندِّدةً بمناورات إسبانيا الصليبية في إثارة الأدعياء ضد دار الإسلام [14]. ولقد تميزت العلاقات بين المنصور وفيليب الثاني ملك إسبانيا بالتقلُّب والتعاقب بين الصفاء والكدر، وبخاصة بعد تدخل المنصور في النِّزاع المسيحي بين الدول الكاثوليكيَّة والدول البروتستانتيَّة.

علاقات أحمد المنصور الذهبي مع القوى المسيحية:
ولقد تآمر فيليب الثاني ضدَّ المنصور حينما أطلَق سراح الناصر ابن أخي المنصور، الذي كان محتفظًا به في الأراضي الإسبانية للقيام بثورة؛ لإزعاج الدولة وحاكمها، والقضاء على استقرار البلاد. ويمكن القول: إن إطلاق فيليب للناصر كان ردًّا على سياسة المنصور إزاء تأييده لملكة إنجلترا (إليزابيث) في مساعدتها للأمير (دون أنطونيو) المطالب بالعرش البرتغالي الذي كان الملك الإسباني قد ضمه إلى أملاك إسبانيا منذ سنة 1581م، وبالرغم من ذلك استطاع المنصور إخماد ثورة الناصر بعد جهودٍ كبيرة، وبعد أن شغلَت البلادَ المغربية حوالي سنتين من الزمان.

وقد تراجع المنصور عن سياسته في تأييد إنجلترا والأمير البرتغالي في الوقت الذي دخل مع فيليب الثاني في مفاوضات سرِّية انتهت بتنازل الإسبان عن مدينة آصيلا إحدى قواعد الاحتلال الإسباني بالشواطئ المغربية والجلاء عنها، فعادت هذه السياسة على المغرب بتحرير بعض المدن المستعمَرة من جهة، وساعدت المنصور من جهة أخرى على إرسال الحملات العسكرية لتوسيع رقعة البلاد المغربيَّة [15].

ولقد كان لسياسة المهادنة مع القوى الخارجية -وبخاصة القوى المسيحية- بالإضافة إلى الدبلوماسية المحنكة التي اتَّبعها الخليفة السعدي أثرُها في أن حقَّقَت للمغرب الكثير من الاستقرار والمكاسب، ومن ثَم اتجه المنصورُ إلى تطوير الدولة السعدية، محاولاً أن يُضفي عليها طابعًا إفريقيًّا بتوسيع رقعتها في أقصى فيافي الجنوب، ولعل انحدارَ البرتغال وتقلُّص نشاطِها الاستعماري هو الذي جعَله يتَّجه إلى أن يخلفها في اكتساح الصَّحراء؛ وذلك بعد أن تعلَّل المنصور بوجوب الجهاد جنوبًا بعد تعذُّر ذلك بالأندلس شمالاً [16].

توسيع رقعة المغرب:
وقد عاودَت المنصورَ أحلامُ والده المهديِّ في تحقيق الدولة المغربية الكبرى، وأراد أن يَنجح فيما قصرت به إمكانيات وظروف والده الراحل. ولعل أهم حدث سياسي يَرتبط باسم المنصور الذهبي، ويتميَّز به تاريخ دولة الأشراف السعديين هو ضمُّ بلاد السودان الغربي إلى المغرب الأقصى؛ فقد امتد سلطان المنصور إلى تمبكتو وكاغو وكاتم بأرض السودان، ولولا كيد آل عثمان ومؤامراتهم لانضمَّت لسكان المغرب مملكة التيكرور وبرنو منذ ذلك العهد، ولكانت بأفريقيةَ دولةٌ إسلامية معتزة بشعوبها وسلطانها في العصر الذي تحوَّلَت فيه الحياة في أروبا إلى الصناعة والغزو والفتوحات [17].

وقد استطاع المنصور الاستيلاءَ على واحتي تيكورارين وتوات من أرض الصحراء سنة 990هـ، فاشتهر أمره في السودان، فأرسل إليه سلطان برنو بهدية وبايعَه، ثم تطلَّعَت نفسه لفتح السودان الغربي، فجهَّز لذلك جيشًا تحت قيادة جؤذر باشا، فمرت جيوشه بتنانسيف ثم بدَرعة، ثم قصَدوا تميكتو ثم إلى كاغو، وكان ملكها يُدعى إسحاق اسكيه، فبرز لقتالهم، وصبر السودانيُّون على نار المدافع المغربية، ولكن جيوش المنصور استطاعت آخر الأمر أن تستولي على بلاد السودان الغربي، وتعلن تبعيَّتَه لدولة الأشراف السعديين في مراكش [18].

ولم يأت عام ألف للهجرة (1000هـ / 1591م) حتى غدا المنصورُ إمبراطورًا يحكم أراضيَ واسعة بغربي أفريقية، تضم من بين مناطقها بلاد السودان الغنيَّة بذهبها وتوابلها ورقيقها، والتي كانت من أهم الأسواق التجارية في العالم وفي أفريقية بوجهٍ خاص.

وغدا المنصور بذلك ندًّا قويًّا لكلٍّ مِن منافِسَيه: مراد الثالث سلطان تركيا، وفيليب الثاني ملك إسبانيا، كما أصبحَت للمنصور شهرةٌ واسعة ومكانة خاصة يَحسَبُ لها حكامُ الشرق والغرب أيَّما حساب، وقد تفرَّغ منذ هذا التاريخ للأعمال العمرانيَّة والإنشائية، ولتطوير دولته سياسيًّا وحضاريًّا، ورفع مستوى المعيشة لمختلِف طبقات الشعب المغربي.

انحراف وليِّ عهده:
ولئن كان معروفًا أن فيليب الثاني ملك إسبانيا وراء ثورة الناصر بن الغالب، فهناك دلائلُ تشير إلى أنَّ هناك صلةً بين ثورة ابنه محمد الشيخ وليِّ عهده وبين الأتراك، وربما كانت جهاتٌ أجنبية أخرى وراء هذه الثورة، ويمكن القول: إن ثورة الشيخ كانت من الخطورة بمكان؛ إذ إنه لو قُدِّر لهذه الثورة أن تستمرَّ حتى نهايتها لأدَّى ذلك إلى تدخُّل الأتراك في شؤون المغرب الأقصى، وهي الأمنيةُ التي طالَما تطلَّعوا إليها منذ زمن بعيد.

كان محمد الشيخ خليفةً لأبيه على فاس، إلا أنه كان سيِّئ السمعة موغلاً في ضُروب الفساد، ولما استشرى عبَثُه وفسادُه نهاه وزيرُ أبيه إبراهيم السفياني عن سوء فعله مرارًا فلم يَنته، فلما أكثر الوزير من التقريع والتوبيخ سقاه الشيخ سمًّا فكان فيه حتفُه [19].

ولما كثرت الشكاوي ضد الشيخ كتب له المنصور أن يكفَّ عن غيِّه، فما زاده التحذير إلا إغراء، فلما رأى المنصورُ أنه لم يكترث بأمره عزم على التوجُّه لفاس؛ بقصد أن يؤدِّبه بما يكون رادعًا، فلما سمع بذلك الشيخ جمَع عسكرَه، واستعرض جيشه وعزم إن بلغَه خروجُ أبيه عن مراكش أن يتوجَّه في أصحابه إلى تلِمْسان؛ للاستنجاد بالأتراك.

فلما بلغ المنصورَ ما عزم عليه ولدُه من الذَّهاب إلى تلِمسان تخلَّف عن الخروج من مراكش، فصار يُلاطفه إليه ولاية سِجِلْماسة ومعها دَرعة، وخلَّى له خَراجهما حتى تسكن ثورتُه، فأظهر المأمونُ امتثال الأمر، وخرج يومًا قاصدًا سجِلماسة، فما هو إلا شيء يسير حتى عاد فجأةً إلى فاس، ورجع إلى ما كان عاكفًا عليه من الفساد والاستهتار، فأرسل إليه الخليفة أعيانَ مراكش وعلماءها، فنصَحوه وحذَّروه سطوةَ والده وعقوقَه، فتظاهر بالقَبول، ولم يطمئنَّ المنصور لذلك، فخرج سرًّا في اثني عشرَ ألفًا من الخيل لدار الملك في فاس الجديد، شاكرًا الله على ما أولاه من الظَّفَر بابنه والنصر عليه، مِن غير إراقة دماء، وقد انتهت ثورة الشيخ المأمون سنة 1011هـ / 1602م [20]. وهكذا استطاع المنصورُ بدهائه وتخطيطه الدقيق وحُسن تصرفه أن يَقضي على ثورة ولَدِه ووليِّ عهده، وأن يقِيَ المغرب الأقصى شرَّ أعدائه المتربصين به وبدولته.

إنجازات أحمد المنصور الذهبي السياسية والاقتصادية والعلمية:
أما إنجازات المنصور السياسية والإدارية والاجتماعية والعمرانية والثقافية، فقد سجَّل له التاريخ العديدَ والعظيم منها؛ حيث برَزَت في عهده أهمُّ النظم ومظاهر الحضارة المختلفة في شتى مرافق الدولة، وبين طبقات المجتمع المغربي، وفي هذا المجال لا يُمكن أن نُغفِل ذِكر قصر البديع الذي استغرق بناؤه منذ تولِّي المنصور الخلافةَ حتى وفاته، وقد أخذ هذا القصرُ مِن اسمه الكثيرَ من مظاهر الإبداع. كما أنشأ المنصورُ الكثيرَ من المدارس ومعاهد العلم، والمستشفيات والقناطر، والحصون والقلاع، والطرق في المدن والقرى في شتى أنحاء الإمبراطورية المغربية. ويعدُّ عصرُ المنصور الذهبيِّ من أعظم عصور حكَّام السعديين؛ لما حفَل به عهدُه من رقيٍّ وازدهار، ولما ترَكه من آثار حضاريَّة، امتدَّت بعده على مدى سنينَ طويلة.

علاقات أحمد المنصور الذهبي ببلاد المشرق:
ويبدو أنَّ أمير المؤمنين أحمد المنصور الذهبيَّ لم يَقنَع بما وصلَت إليه الدولة السعدية في عهده من اتِّساع، فاتجه نحو الشرق العربي الإسلاميِّ الخاضع للأتراك العثمانيِّين؛ وذلك لأنه كان يعتزُّ -كما كان آباؤه من قبل- بأصله العربيِّ ونسبه الشريف، ويرَون أنهم أولى بالخلافة الإسلاميَّة من سَلاطين الأتراك.

ثم إنه اتَّجه للمشرق العربي؛ وذلك لأن الاكتشاف البرتغاليَّ والإسباني لطريق الهند والشرق الأقصى، وتحوُّل التجارة العالمية من البحر المتوسط إلى المحيط الأطلسي -قد أثَّر في اقتصاديات بلاد الشرق الأوسط، وقد أدى ذلك إلى اضطرابات في أوضاع الشرق العربي في المجالات الاقتصادية والسياسيَّة، مع عجز الأتراك عن معالجة مَشاكل شعوبهم.

كما يُضاف إلى ذلك إقبال عرب المشرق -بعد التحول الذي طرأ على أوضاعهم الاقتصادية- على الأسواق التجارية في أواسط أفريقية وبلاد السودان وغربي أفريقية الغنية؛ لتوثيق الروابط التجارية معهم، فشرَعَت قوافلُهم التجارية تسلك طريقًا خاصًّا، يبدأ بنهر النيل في مصر، وينتهي بنهر النيجر في بلاد السودان، عبر برنو والهاوسا وغيرها، وأصبح هذا الطريق يعد أساسيًّا للتجارة؛ لصعوبة السفر عبر البحر المتوسِّط؛ نتيجةً لتزايد أعمال القرصَنة وقطع الطَّريق في البحار، ومنذ الفتح المغربيِّ للسودان أخذ المنصورُ يفكِّر في وضع اليد على طريق التجارة الرئيسية في أواسط أفريقية؛ لعائداتها المادية، ولأنها تنتهي ببلاد مصر، باب المشرق العربي، والتحكم في مصر يُساعد على بسط النفوذ على باقي البلاد العربية في الشرق [21].

لذلك أرسل المنصورُ دعاته للتبشير بخلافته إلى المشرق، ولتوثيق علاقته ببعض البيوتات الشهيرة والشخصيات العلميَّة في الشرق الإسلامي عامة، وفي مصر بوجه خاص. لكن الأحداث الداخلية ومؤامرات فيليب الثاني ملك إسبانيا ضدَّ الدولة السعدية جعلَت المنصور يتَّجه من الشرق إلى الغرب؛ لمحاربة فيليب الثاني، وعملِ تحالفٍ عسكري إنجليزي مغربي؛ لغزو إسبانيا في عقر دارها!

وفعلاً كاد يتم هذا التحالف بين إنجلترا البروتستانتيَّة والمغرب الإسلاميِّ، لولا أنَّ إليزابيث ملكة إنجلترا (1557 – 1603م) وهي الملكة المسيحيَّة، لا يمكن أن تمكِّن ملكًا مسلمًا -مهما كانت الأسباب- مِن احتلال بلادٍ مسيحيَّة؛ لذلك وجَّهَت نظر المنصور إلى غزو مستعمَرات إسبانيا البعيدة؛ سعيًا منها للوصول إلى موضع التوابل في الشرق.

ولم يكن المنصور ليُغامر بوقته وجهده وماله في مشروعٍ بعيدِ المنال، وخاصة بعد أن تغيَّرَت ظروفه الداخلية؛ إذِ انتشر داء الطاعون في المغرب منذ سنة 1007هـ / 1598م، وانعكس ذلك على الأوضاع الاقتصاديَّة والسياسية للبلاد، كما أخذ وليُّ عهده ابنه محمد الشيخ يهدِّد بالثورة والخروج على أبيه، والاستنجاد بالأتراك، غير أنَّ المنصور قد نجح في إفساد خطَّة ابنه، وأفسد بالتالي على الأتراك فرصةَ التدخل ضد المغرب سنة 1011هـ كما سبق أن ذكَرنا.

ولكن الزمن لم يمتدَّ بالمنصور طويلاً بعد ذلك؛ فقد توفِّي في العام التالي سنة 1012هـ بداءِ الطاعون، بعد أن بلغَت دولة الأشراف السعديين في عهده أوجَ عظمتها واتِّساعها، وبلغَت شأوًا كبيرًا في الحضارة والعمران.

المصدر: موقع شبكة الألوكة.
[1] وسبب تلقُّبه بالذهبيِّ يُقال: إنه لِما أفاض الله من الذَّهب على أيامه من غنائم السودان وتجارتهم، حتى صار الذهب أكثرَ المعاملات، ورواتب الجند المرتزقة وغيرهم؛ انظر: (محمد الإمام بن ماء العينين الشريف الإدريسي الشنجيطي: الجأش الربيط في النضال عن مغربية شنجيط وعربية المغاربة من مركب وبسيط)؛ جـ 1 ص 19.
[2] نقولا زيادة: صفحات مغربية، ص 60.
[3] عبد العزيز عبد الله: تاريخ المغرب، جـ 1 ص 184.
[4] عبد السلام بن سودة: دليل مؤرِّخي المغرب الأقصى، ص 210.
[5] السلاوي: الاستقصا، جـ 5 ص 91.
[6] من أبرز القواد الذين نكل بهم المنصورُ سعيد بن فرج الدغالي قائد جند الأندلس، ومحمد ابن أخيه، ومحمد بن زرقون الكهية وأبو الفضل الغري؛ انظر: الفشتالي، مناهل الصفا، ص 7 - 13.
[7] السلاوي: الاستقصا جـ 5 ص 91.
[8] اليفرني: النزهة ص 86.
[9] المرجع السابق، نفس الصفحة.
[10] انظر: السلاوي: الاستقصا، جـ 5 ص 94.
[11] انظر: الفشتالي: مناهل الصفا، ص 160 - 170.
[12] الفشتالي: المناهل، ص 105 - 107.
[13] انظر عبد العزيز الفشتالي: مناهل الصفا في أخبار الملوك الشرفاء، ص 138 - 144.
[14] المرجع السابق، ص 158 وما بعدها.
[15] د. عبد الكريم كريم، عصر المنصور الذهبي، ص 4.
[16] عبد العزيز عبد الله، تاريخ المغرب، جـ 1 ص 184.
[17] عبدالكريم الغلالي، المغرب ملكًا وشعبًا، ص 43.
[18] محمد فريد وجدي، دائرة معارف القرن العشرين، جـ 5 ص 151.
[19] اليفرني، النزهة، ص 179.
[20] انظر: اليفرني، النزهة، ص 180 - 181.
[21] عبد الكريم كريم: عصر المنصور الذهبي، ص 7.



عسر أحمد طه