مررت فوق كومة التربة البيضاء , عابرا تلك الهضاب الصغيرة , تغرق قدم التربة لأنقذها بإستعادة توازن و جذب قويّ للساق ,, و أواصل المشي ,,
وقفت بجانب السّور , مطِلًّا برأسي على أرض خضراء خصبة فيها بضع أشجار زيتون ,,
و في هذه الأرض شيء لم يجذبني كثيرا خضرتها و جمالها الاخّاذ و أشجار الزيتون فيها ,, بقدر ما انتبهت فقط لشيء واحد في هذا المكان الذي حقّا يُبهرك هدوءه ,,
هذا الشيء بإختصار شديد هو ,, بشر 'كانوا' بيننا ,,
هم الآن فقط ,, تحت التراب ,,
قدّر علماء الفلك و الجيولوجيا عمر هذه الأرض بأكثر من 4 مليارات سنة , و بغضّ النظر عن مدى صحّة هذه الحسابات , فالله وحده العالم بالعمر الحقيقي لهذه الأرض ,,
فما رأيُك لو نقارن معدّل عمر 'الإنسان' اليوم , بعمر هاته الأرض ؟؟
قال رسول الله صلى الله عليه و سلّم :
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( أَعْمَارُ أُمَّتِي مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى السَّبْعِينَ ، وَأَقَلُّهُمْ مَنْ يَجُوزُ ذَلِكَ ) .
رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي. ورواه الترمذي وابن ماجه.
فماهي اعمارنا مقارنة بعمر هاته الأرض ؟؟
'لا شيء'
مقارنة اللّامقارن !!
يأتي الضيف لبيتك , يجلس عندك , يتناول الغداء عندك , يقضّي القيلولة في بيتك , كذلك المساء و الليل و العشاء يتناوله عندك , ثمّ يغادر في الصباح ,,
فماذا تمثّل , مدّة بقاء هذا الضيف عندك , مقارنة مع مدّة عيشك في هذه الدنيا ؟؟
بضع ساعات و بضع سنين
هكذا نحن في الحياة ,, لسنا سوى جزء 'مجهري' مقارنة حتّى مع بعض أنواع السلاحف , التي تعيش لأكثر من 100 سنة ,, فنحن فقط 'لا شيء' ,,
و لكي تتّضح الفكرة ,, فهاته الـ'ـلاّ شيء' تعني أنّنا :
نتكبّر و ما نحن إلاّ صغار ,,
نطغى و ما نحن إلاّ ضعاف ,,
نظلم و ما نحن إلاّ مساكين ,,
نتجبّر و ما نحن إلاّ مملوكين ,,
نبطش و ما نحن إلاّ عاجزين ,,
وقفتُ لحظات مرتعدا وجلا في مكاني ,, محملِقا في تلك القبور المَطليّة بالبياض ,, و الله أعلم ما المخفيّ تحت ذلك البياض ,, روضة من رياض الجنّة ام حُفرة من حُفر النّيران ,,
هدوء الطبيعة الخارجي ,, يُخفي تحته ضجيجا قد لا تقوى آذاننا على سماعه و قد لا تستطيع أعيننا قطُّ النظر إلى حال اهله ,,
قالت لي نفسي ,,
أيا هذا ,,
هل من شيء نفع هؤلاء غير 'أفعالهم و أقوالهم' ؟
و هل من شيء ضرّ هؤلاء غير 'أفعالهم و أقوالهم' ؟
و كان الجواب يأتيني من تلك القبور المخيف المرعب هدوءها , مباشرة في القلب ,,
'لا شيء' نفع أو ضرّ غير 'أفعالهم و أقوالهم' ,, فما زرعوه في ذلك 'الوقت القصير' الذي قضّوه في الدنيا , هم اليوم يحصدون و يجنون ثماره ,,
زرعتَ خيرًا حصادك جنّة و فوز ,, زرعتَ شرّا حصادك حميم و جحيم
تأمّلتُ مرارا و تكرارا من بعيد في تلك القبور الواجمة , ثمّ رفعتُ عينيّ عنها و كأنّي كنتُ في غيبوبة و رحتُ ببصري إلى الخضرة الأخّاذة و إلى أشجار الزيتون المباركة ,, و قلتُ في نفسي :
هي مظاهر و الله في هذه الدنيا خدّاعة ,, ظواهر الأمور اكثر ما يخدع الإنسان في هذه الدنيا ,, و لو فهمنا الأمور بحقائقها و بواطنها لإمتلأت عقولنا فهما و قلوبنا وعيا بخطورة ما نحن مقدمون عليه ,,
أوَ لم يقل ربّنا -جلّ في علاه- في مُحكم تنزيله :
"اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2)"
(سورة الأنبياء (1-2))
أوَ لم يقل صل الله عليه و سلّم :
"لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرًا".
رواه البخاري.
فهل بعد هذا التحذير من تحذير ؟؟
قيل هذا قبل أكثر من 1400 سنة من الآن !
فما الحال اليوم ؟؟
زاد الضحك و زادة الفكاهة و التفاهة و كلُّ شيء أصبحنا نضحك عليه و نجعله كفكاهة بيننا ,,
و لن اتكلّم عن الفضائل التي غابت و عن الرّذائل التي حلّت مكانها ,,
و ليس هناك رذيلة أو معصية أو كفر أو سمّ ما شئت ,, قام به الأوّلون , إلاّ أبدع فيه و زاد فيه و تميّز فيه أحفادهم اليوم ,,
و يكفي أنّ الباطل أصبح حقّا و الحقُّ أصبحَ باطلاً ,,
تمالكتُ نفسي وواصلتُ طريقي ,, و في قلبي خوف و رعب من 'الموت' , و أنّني يوما ما , سأكون بين هؤلاء ,,
منسيّا من البشر محاسَبا حسابا عادلا من ربّ البشر ,, مجازا في قبري قبل الآخر ككلّ البشر ,,
لا فرق بيني و بين أيّ آدميّ آخر خلقه الله على هذا الكون ,, فالتمشّي الذي مرّ به مليارات البشر قبلي سأمرّ به و ستَمرّ به و سمرّ به عدد الله أعلم به- من البشر بعدنا ,,
حياة فموت فحساب فجنّة او نار
مُرعب أن نلاقي الله و نحن لدينه 'خائنون' بتقصيرنا الكبير في تعلمه و العمل به و في سكوتنا عن الباطل الذي نراه يوميّا وفي وفي وفي وفي ,,,,
اللهم سدّد خطانا و إهد قلوبنا و أصلح حالنا ,,