إن مشاهد الحج ونحن نشاهدها على شاشة التلفاز أو نسمعها من المذياع تثير لدينا أحاسيس كثيرة، تنبعث من قلب لم تكتب له الأقدار الحج في العام نفسه، قلب دائم الشوق والحنين لرحاب الملك الجليل، قلب تعلق بحب الله، ينبض شوقًا لرؤية بيته وزيارة نبيه، لسان حاله: متى يرتوي القلب ويستريح بحج بيت الله الحرام؟ متى أُلبي النداء؟

حج بقلبك:
لقد أراد الله لمن لم يكتب عليه الحج أن يعيش نفس المعاني التي يعيشها الحُجاج، ليس عن طريق السماع والمشاهدة فحسب، بل عن طريق عبادات تملء القلب بنفس مشاعر الحُجاج وفي نفس الوقت الذي يؤدون فيه مناسكهم.

-ففي الوقت الذي يقف فيه الحجاج على عرفات ليغفر الله لهم ذنوبهم.. شرع الله لك وأنت في بلدك أن تصوم يوم عرفة ليكفر ذنوبك ويغفرها، فعَنْ أَبِى قَتَادَةَ الأَنْصَارِىِّ رضى الله عنه أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ فَقَالَ: «يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ»[1].

-وإن كان الحجاج يستجاب دعاؤهم، فإن دعوة الصائم مستجابة[2]، وصيام التسعة أيام من شهر ذي الحجة مستحب، فعن بعض أزواج النبي، [وقيل: حفصة]، قالت: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ تِسْعَ ذِي الْحِجَّةِ، وَيَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، أَوَّلَ اثْنَيْنِ مِنَ الشَّهْرِ وَالْخَمِيسَ»[3].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»[4].

-وإن كان الحجيج يتمتعون بالذكر والتهليل في هذه الأيام، فقد شرع الله لك الذكر والتكبير والتهليل أيضًا، فعَنْ ابن عمر رضى الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ وَلَا أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعَمَلُ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ، فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ»[5].

وكان ابن عمر وأبو هريرة رضى الله عنهم يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما[6].

- وإن كان الحجاج يتسمون بالوحدة والجماعة، والحب والإخاء، فها هو يوم العيد تعيشه بالفرح والتجمع والحب والسور والإخاء، ونصلي جميعًا في ساحة واحدة، وجماعة واحدة كما اجتمع الحجيج بعرفات ومزدلفة ومِنى.

-وإذا كان الحجاج يعيشون عيشة التقشف والزهد، فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يريدك أن تعيش العيشة نفسها، فقال: «إِذَا دَخَلَتِ الْعَشْرُ، وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ، فَلَا يَمَسَّ مِنْ شَعَرِهِ وَبَشَرِهِ شَيْئًا»[7].

وفي رواية: «فَلْيُمْسِكْ عَنْ شَعْرِهِ وَأَظَافِرِهِ». تمامًا مثل المحرم، نفس الهيئة، لا يحلق شعرًا ولا يقلم ظفرًا.

- وذبح الأضحية من أعظم القربات إلى الله التي تجعلك تعيش مشاعر الحجيج نفسها، في نفس الوقت الذي يذبحون فيه الهدي ويوزعونه على الفقراء، شرع لك أن تمارس نفس النسك، قال صلى الله عليه وسلم : «إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ بِهِ فِي يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّيَ، ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ، مَنْ فَعَلَهُ فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا»[8].

وفي رواية: «مَنْ ذَبَحَ بَعْدَ الصَّلاَةِ تَمَّ نُسُكُهُ، وَأَصَابَ سُنَّةَ المُسْلِمِينَ»[9].

أيام العشر.. باب خير مفتوح:
هذه بعض الأعمال، وإلا فأيام العشر باب للخير مفتوح على مصراعيه، والعمل الصالح فيها أحب الأعمال إلى الله، قال النبي «مَا العَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهَا فِي هَذِهِ؟» (يعني أيام العشر) قَالُوا: وَلاَ الجِهَادُ؟ قَالَ: «وَلاَ الجِهَادُ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ»[10].

وكثير من المفسرين يرون في قوله تعالى: {وَلَيَالٍ عَشْرٍ}: أنها ليالي الأيام العشر من ذي الحجة[11].

فليُقم كل منا جبلًا لعرفات في قلبه، ويدعو الله بما شاء وقت ما شاء.

ليَرجم كل منا الشيطان في كل لحظة من لحظات حياته.

ليَتخفف كل منا من دنياه فما بقي من الدنيا أقل بكثير مما ذهب.

ليُصلح كل منا ذات بينه، ويغفر لإخوانه، ويحب الخير لكل المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.

من فاته في هذا العام القيام بعرفة: فليقم لله بحقه الذي عرفه.

من عجز عن المبيت بمزدلفة: فليبييت عزمه على طاعة الله وقد أزلفه.

من لم يقدر على ذبح هديه بمِنى: فليذبح هواه هنا وقد بلغ المُنى.

من لم يصل إلى البيت لأنه منه بعيد: فليقصد رب البيت فهو أقرب إليه من حبل الوريد.

5 حِجَّات في اليوم، 50 في العشر:

يا من قتله الشوق والحنين، يا من فاته الحج: ألا تحب أن تحج في اليوم خمس مرات!

نعم خمس مرات وهذه هدية من النبي صلى الله عليه وسلم.

1-حِجة الذكر بعد الصلوات:
عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: جاء الفقراء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ذهب أهل الدثور من الأموال بالدرجات العلا، والنعيم المقيم يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ولهم فضل من أموال يَحُجُّونَ بها، ويَعْتَمِرُونَ، ويُجَاهِدُونَ، ويتصدقون، قال: «أَلَا أُحَدِّثُكُمْ بِأَمْرٍ إِنْ أَخَذْتُمْ أَدْرَكْتُمْ مَنْ سَبَقَكُمْ وَلَمْ يُدْرِكْكُمْ أَحَدٌ بَعْدَكُمْ وَكُنْتُمْ خَيْرَ مَنْ أَنْتُمْ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِ إِلَّا مَنْ عَمِلَ مِثْلَهُ تُسَبِّحُونَ وَتَحْمَدُونَ وَتُكَبِّرُونَ خَلْفَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ»[12].

2- حِجة الجلوس بعد الفجر للضحى في المسجد:
عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى الغَدَاةَ فِي جَمَاعَةٍ ثُمَّ قَعَدَ يَذْكُرُ اللَّهَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَانَتْ لَهُ كَأَجْرِ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ»[13].

3-حجة المشي إلى صلاة الجماعة:
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمْ، قَالَ: «مَنْ مَشَى إِلَى صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ فِي الْجَمَاعَةِ، فَهِي كَحَجَّةٍ، وَمَنْ مَشَى إِلَى صَلَاةِ تَطَوُّعٍ فَهِي كَعُمْرَةٍ تَامَّةٍ»[14].

وهذه وحدها بخمس حِجات لمن صلى الخمس صلوات، والله ذو فضل عظيم.

4- حجة طلب العلم وتعليمه:
عَنْ أبي أمامة رضي الله عنه، عَنِ النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمْ قَالَ: «مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ لَا يُرِيدُ إِلَّا أَنْ يَتَعَلَّمَ خَيْرًا أَوْ يَعْلَمَهُ، كَانَ لَهُ كَأَجْرِ حَاجٍّ تَامًّا حِجَّتُهُ»[15].

5- بر الوالدين حج وعمرة وجهاد:
عَنْ أنس رضي الله عنه، قَالَ: أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: إِنِّي أَشْتَهِي الْجِهَادَ وَلَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ، قَالَ: «هَلْ بَقِيَ مِنْ وَالِدَيْكَ أَحَدٌ؟» قَالَ: أُمِّي، قَالَ: «قَأَبْلِ اللَّهَ فِي بِرِّهَا، فَإِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ فَأَنْتَ حَاجٌّ وَمُعْتَمِرٌ وَمُجَاهِدٌ»[16].

النية أجر المعذورين:
ولعل النية الصالحة تبلغ العبد ما يرجوه، إذا حبسه العذر، كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا، مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا، وَلاَ قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؟ قَالَ: «وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ، حَبَسَهُمُ العُذْرُ»[17].

يا قلوب المؤمنين اشتاقي إلى الكعبة وأولعي..

يا همم العارفين بغير الله لا تقنعي..

وبحب مولاكِ أفردي وبين خوفه ورجائه أقرني وبذكره تمتعي.

وفي عرفات الغرفات قفي وتضرعي.

يا راحلين إلى البيت العتيق لقد *** سِرْتُم جُسُوما وسِرْنَا نحن أرواحا

إنَّا أقَــمْنَا عـلى عـُذْرٍ وعَنْ قَدَرٍ *** ومن أقـام علـى عـُذْرٍ كَمَـنْ راحــا


[1] روى الطبراني في "الدعاء" والبيهقي في "الشعب" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ثلاث دعوات مستجابات: دعوة الصائم ودعوة المظلوم ودعوة المسافر»،وصححه الألباني.
[2] رواه مسلم.
[3] رواه أحمد وأبو داود وصححه الألباني.
[4] رواه الترمذي، وحسنه الألباني.
[5] رواه أحمد، وصححه الأرنؤوط لغيره.
[6] رواه البخاري.
[7] رواه مسلم.
[8] رواه البخاري ومسلم.
[9] رواه البخاري.
[10] رواه البخاري، وهو عند أحمد أيضًا وكثير من كتب السنة.
[11] منهم ابن عباس وعبد الله بن الزبير ومسروق ومجاهد وقتادة وعِكْرِمَة والضَّحَّاك. انظر الدر المنثور للسيوطي.
[12] متفق عليه واللفظ للبخاري.
[13] رواه الترمذي وحسنه الألباني، ورواه الطبراني عن أبي أمامة رضي الله عنه، عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: «مَنْ صَلَّى صَلَاةَ الصُّبْحِ فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ يَثْبُتُ فِيهِ حَتَّى يُصَلِّيَ سُبْحَةَ الضُّحَى، كَانَ كَأَجْرِ حَاجٍّ، أَوْ مُعْتَمِرٍ تَامًّا حَجَّتُهُ وَعُمْرَتُهُ».
[14] رواه الطبراني، وقال الأرنؤوط: إسناد رجاله ثقات خلا إسحاق بن خالويه الواسطي شيخ الطبراني فيه، فلم نعثر فيه على جرح أو تعديل، وقال الألباني: حسن.
[15] رواه الطبراني 8/ 94 (7473)، ورواه الحاكم 1/ 91، وصححه على شرط البخاري، ووافقه الذهبي ، وقال العراقي في تخريج أحاديث «الإحياء» 4/ 461: إسناده جيد. وقال الهيثمي في «المجمع» 1/ 123: رواه الطبراني، ورجاله موثقون كلهم، وقال الألباني في صحيح الترغيب (86): حسن صحيح.
[16] رواه أَبُو يعْلى والطبراني فِي الصَّغِير والأوسط، وقال الهيثمي: ورجالهما رجال الصحيح غير ميمون بن نجيح، ووثقه ابن حبان. قال حافظ العراقي في تخريج الإحياء: َإِسْنَاده حسن، وضعفه الألباني، وقال: والأحاديث بمعناه كثيرة في الكتابين المذكورين وغيرهما.
[17] رواه البخاري ومسلم.





أحمد المنزلاوي