دحو الأرض في الخامس والعشرين من ذي القعدة الحرام انبساطها ونشر الرحمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين الى قيام يوم الدين..
وبعد: قال تعالى: (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحَاهَا*أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا) سورة النازعات: 30ـ31 .
لغة: دَحَى ـ دحياً الشيء: بسطه وتدحى تدحياً الشيء تبسَّط، واندحى البطنُ: اتسع. المنجد باب دحى.
وفي التفسير: قال الإمام الشيرازي الراحل أعلى الله درجاته في تبيين القرآن ص605: (والأرض بعد ذلك) الخلق للسماء (دحاها) بسطها وحرّكها، وكانت قبل السماء مخلوقة غير مدحية، أو المراد (بعد ذلك) الترتيب الكلامي. انتهى كلامه رفع مقامه
أقول: إن الله سبحانه وتعالى بسط الأرض بمعنى مدها من تحت الكعبة المشرَّفة وليس في هذا اليوم خلقت الأرض وقد تقدم كلام التبيين في كونها كانت مخلوقة من قبل إلا انها في هذا اليوم وهو الخامس والعشرون من شهر ذي القعدة الحرام بُسطت، ويؤيد ذلك الأحاديث الشريفة فعن أبي عبد الله الإمام الصادق عليه السلام قال: «ان الله تعالى دحا الارض من تحت الكعبة الى منى، ثم دحاها من منى إلى عرفات ثم دحاها من عرفات إلى منى، فالأرض من عرفات وعرفات من منى، ومنى من الكعبة» تفسير نور الثقلين ج5ص502.
خلق الارض:
تختلف النظريات في كيفية خلق الأرض بين العلماء وآخر النظريات في ذلك هي نظرية الإنفجار العظيم وسنشير الى ذلك لاحقاً ـ إلا أنه قد ورد عن الشرع الشريف بيان وافٍ في كيفية خلق الأرض والمقام لا يسع لذكر الروايات الكثيرة في المقام وسنقتصر على روايتين الأولى هي خطبة لأمير المؤمنين عليه السلام نقتطف منها مقدار الحاجة والأخرى رواية عن الإمام الصادق عليه السلام.
رواية نهج البلاغة:
قال أمير المؤمنين عليه السلام: «كبس الأرض على مور أمواج مستفحلة، ولجج بحار زاخرة, يلتطم اواذى أمواجها، وتصطفق متقاذفات أثباجها وترغو زبداً كالفحول عند هياجها، فخضع جماح الماء المتلاطم لثقل حملها، وسكن هيج ارتمائه إذ وطأته بكلكلها، وذل مستخذياً اذ تمعكت عليه بكواهلها، فاصبح بعد اصطخاب امواجه ساجياً مقهوراً، وفي حكمه الذل منقاداً اسيراً، وسكنت الأرض مدحوة في لجة تياره، وردت من نخوة بأوه واعتلائه، وشموخ انفه وسمو غلوائه، وكعمته على كضة جريئة، فهمد بعد نزقاته ولبد بعد زيفان وثباته».
إيضاح:
كبس الأرض أي أدخلها في الماء بقوة واعتماد شديد والمور: مصدر مار أي ذهب وجاء قوله عليه السلام «مستفحلة» أي هائجة هيجان الفحول واستفحل الأمر تفاقم واشتد زخر الماء: أمتد جداً وارتفع. والاواذى جمع آذى وهو الموج. تصطفق: يضرب بعضها بعضاً. والإثباج هيهنا أعالى الأمواج وأصل الثبج: ما بين الكاهل الى الظهر فنقل الى هذا الموضع استعارة, والرغاء: صوت البعير وغيره من ذوات الخف. وجماح الماء: صعوده وغليانه واصله من جيح الفرس: ركب لا يثنيه شيء يقال رجل جموح لمن يركب هوله فلا يمكن رده.
وهيج الماء: اضطرابه وارتمائه: تلاطمه, وكلكلها: صدَّرها. والمستحذى: الخاضع وتمعكت: تمرغت والكواهل جمع كاهل وهو ما بين الكتفين والاصطخاب: افتعال من الصخب وهو الصياح والجلبة. والساجى: الساكن. وحكمه ـ محركه ـ : ما أحاط بحنك الدابة قوله عليه السلام «مدحورة» أي مبسوطة والتيار: أعظم الموج. ولجته: أعمقه والبأو: الكبر والفخر. والشموخ: العلو. قوله عليه السلام «غلوائه» أي غلوه وتجاوزه الحد وكعمته أي شدت فمه لماهاج، من الكعام وشيء يجعل في فم البعير، والكظة: الجهد والثقل الذي يعترى الإنسان عند الإمتلاء من الطعام. وهمد بمعنى سكن. النزقة: الخفة والطيش. ولد الشيء بالأرض: لصق بها. الزيفان: شدة هبوب الريح.
الإمام الصادق والأبرش:
جاء في تفسير علي بن ابراهيم حدثني أبي عن علي بن الحكم عن سيف بن عميرة عن أبي بكر الحضرمي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: خرج هشام بن عبد الملك حاجاً ومعه الأبرش الكلبي فلقيا أبا عبد الله عليه السلام في المسجد الحرام فقال هشام للأبرش: تعرف هذا؟ قال: لا. قال: هذا الذي تزعم الشيعة أنه نبي من كثرة علمه، فقال الأبرش: لأسألنه عن مسئلة لا يجيبني فيها إلاّ نبي أو وصي نبي فقال وددت انك فعلت ذلك فلقى الأبرش أبا عبد الله عليه السلام أخبرني عن قول الله: (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا) سورة الأنبياء: 30، بما كان رتقهما؟ فقال أبو عبد الله عليه السلام يا أبرش هو كما وصف نفسه كان عرشه على الماء والماء على الهواء والهواء لا تحد ولم يكن يومئذ خلق غيرهما والماء يومئذ عذب فرات فلما اراد أن يخلق الأرض أمر الرياح فضربت الماء حتى صار موجاً ثم زبداً واحداً فجمعه في موضع البيت ثم جعله جبلاً من زبد، ثم دحى الأرض من تحته فقال الله تعالى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً) سورة آل عمران: 96، ثم مكث الرب تبارك وتعالى ما شاء فلما أراد ان يخلق السماء امر الرياح فضربت البحور حتى ازبدتها فخرج من ذلك الموج الزبد من وسطه دخان من غير نار فخلق منه السماء وجعل فيها البروج والنجوم ومنازل لشمس والقمر واجراها في الفلك وكانت السماء خضراء على لون الماء الأخضر وكانت الأرض غبراء على لون الماء العذب والحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة.
الإنفجار العظيم وخلق الأرض:
يذهب العلماء الى ان الأصل في خلق الأرض كان نتيجة الانفجار الكوني العظيم فخلقت الأرض والسماوات بما فيها مليارات المجرات والفرضية الشائعة في كيفية هذا الانفجار أنه حدث في الفراغ حيث كانت مادة خالصة لا فضاء فيها ومن ثم انفجرت هذه المادة نتيجة ارتفاع درجة حرارتها الى درجة مرتفعة جداً ليبدأ الكون بالتوسع وما زال مستمراً في التوسع الى اليوم، لتعمل الجاذبية عملها هنا لتتشكل المجرات الكونية بنجومها وكواكبها وشهبها وغير ذلك بما فيها مجرتنا درب التبانة ونظامنا الشمسي ومجموعة الكواكب بما فيها الأرض، ويقدر العلماء عمر الكون الآن بأربعة عشر بليون سنة، وفيه من تجمعات النجوم المجرية في الكون المرئي خمسة وعشرون مليار تجمع نجمي وفيه من المجرات العملاقة ثلاثمائة وخمسون بليون مجرة والصغيرة سبعة تريليون مجرة وعدد النجوم ثلاثون مليار ترليون نجم.
العلم والدين توافق ام تضاد:
وما تقدم نجد اتفاق نظرية الانفجار الكوني العظيم مع النظرية الإسلامية في أصل الكون وهو مادة إلا أن النظرية الإسلامية توضح لنا كيفية خلق المادة ذاتها كما ورد في نهج البلاغة لأمير الفصاحة والبلاغة علي عليه السلام حيث قال: «أنشأ الخلق انشاءً وابتدأه ابتداءً بلا روية أجالها ولا تجربة استفادها ولا حركة احدثها ولا همامة نفسٍ اضطرب فيها أحال الأشياء لأوقاتها ولأم بين مختلفاتها وغرز غرائزها وألزمها أشباحها عالماً بها قبل ابتدائها محيطاً بحدودها وانتهائها عارفاً بقرائنها واحنائها ثم أنشا ـ سبحانه ـ فتق الأجواء وشق الأرجاء وسكائِك الهواء فأجرى فيها ماءً متلاطماً تياره متراكماً زخاره. حمله على متن الريح العاصفة والزعزع القاصفة فأمرها برده وسلطَّها على شده, وقرنها الى حده الهواء من تحتها فتيق والماء من فوقها دفيق ثم أنشأ سبحانه ريحاً اعتقم مهبها و أدام مربها واعصف مجراها وابعد منشاها فأمرها بتصفيق الماء الزخار وإثارة موج البحار فمخضته مخض السقاء وعصفت به عصفها بالفضاء ترد اوله الى آخره ساجيه الى مائره حتى عبَّ عبابه ورمى بالزبد ركامه فرفعه في هواء منفتق وجو منفهق فسوى منه سبع سماوات جعل سفلاهن موجاَ مكفوفاً وعلياهن سقفاً محفوظاً وسمكاً مرفوعاً بغير عمد يدعمها ولا دسار ينظمها».
أعمال يوم الدحو:
أكدت الروايات الشريفة على استحباب صوم هذا اليوم والاشتغال بالعبادة وذكر الله تبارك وتعالى في ليلها ونهارها واستحباب الغسل فيها والصلاة والدعاء ومن تلك الاحاديث:ـ
الحسن بن علي الوشّاء قال: كنت مع أبي وأنا غلام فتعشّينا عند الرضا عليه السلام ليلة خمس وعشرين من ذي القعدة, فقال له: ليلة خمس وعشرين من ذي القعدة ولد فيها إبراهيم عليه السلام وولد فيها عيسى بن مريم, وفيها دحيت الأرض من تحت الكعبة, فمن صام ذلك اليوم كان كمن صام ستين شهراً. الوسائل ج10،ح 13816.
وروي عن الامام موسى بن جعفر عليه السلام انه قال: في خمس وعشرين من ذي القعدة أنزل الله الكعبة البيت الحرام, فمن صام ذلك اليوم كان كفّارة سبعين سنة, وهو أوّل يوم أنزل فيه الرحمة من السماء على آدم عليه السلام. نفس المصدر الحديث 13816.
وعن الإمام علي بن محمد الهادي عليهما السلام ـ في حديث ـ قال: الأيّام التي يصام فيهنّ أربعة ـ إلى أن قال:- ويوم الخامس والعشرين من ذي القعدة فيه دحيت الكعبة. نفس المصدر 13820.
وفي كتاب الإقبال ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: أوّل رحمة نزلت من السماء إلى الأرض قي خمسة وعشرين من ذي القعدة, فمن صام ذلك اليوم كان كصوم سبعين سنة.
والحمد لله رب العالمين.