اكتشفي الوجه الآخر لفيينا
فيينا... يذكّرنا وقع اسم هذه المدينة بأغنية أسمهان الشهيرة «ليالي الأنس فيفيينا». من منا لا تردّدها، حين يلفظ اسم عاصمة النمسا التي تنضح بالتاريخالإمبراطوري، وتصدح في فضائها المزخرف بالحياة المخملية موسيقى هايدنوشتراوس وفرانز شوبيرت وموزارت، وتحضن المتاحف المثيرة المعاصرة، والحياة الليليةالصاخبة، ومقاهي الرصيف والكثير من الزوايا الهادئة التي تدعوك لاستكشافها.
في فيلم Before Sunrise أو «قبل الشروق»، جيس (إيثان هوك) شاب أميركي،وسيلين (جولي دلبي) شابة فرنسية، التقيا في مقصورة قطار قادم من بودابستيتوقف في محطة فيينا.
وبعد حديث سفر طويل، أقنع إيثان سيلين بدل إكمال رحلتها إلى باريس بالتجوال معهفي فيينا إلى حين موعد رحلته إلى أميركا صباح اليوم التالي، ما يعني 24 ساعة دورانفي هذه المدينة.
ومع بطلي الفيلم تأخذنا الكاميرا الهوليوودية إلى شوارع فيينا وأروقتها، وإلى معالمهاالإمبراطورية، نسير معهما افتراضيًا على أحد الجسور المعلّقة فوق قناة الدانوب،ونجول في رياضها الغنّاء، ونستمتع بالقهوة، وندور معهما في دولاب Wierner Riesenrad الأكثر ارتفاعًا في متنزه بارتر الترفيهي.
قناة الدانوب Donaukanal
إنها الذراع السابقة لنهر الدانوب، عُدّلت لتكون قناة مياه عام 1598. تقع على حدود وسط مدينة فيينا، في شارع إينر، حيث مصب نهر فيينا Wienfluss.
تخترق قناة الدانوب كل شرايين فيينا فترويها بسخاء لا يحتسب. بدأت عام 1990 الأشغال في القسم الجنوبي للقناة بين الحيين الثاني والثالث لإنشاء منطقة ترفيهية على طول ضفة القناة.
إذا أردت عبور القناة سيرًا على القدمين كما فعل بطلا Before Sunrise، فهناك 15 جسرًا معلقًا على طول القناة، وما عليك سوى الاختيار.
يشغل مسارات ضفتي القناة بانتظام هواة الركض، وراكبو الدراجات، وهواة الرسم الغرافيتي الذين تسمعين نقر قارورات ألوانهم وكأنهم عازفون يُسقطون خيالهم في أشكال يرسمونها، فتخرج من أفكارهم رسومًا تضفي على جدران السلالم سحرًا يخصّ فيينا وحدها.
فلا عجب في أن يتحوّل المكان، ولا سيما خلال فصلي الربيع والصيف إلى منطقة ترفيهية هي الأكثر جاذبية في المدينة، مثل أسواق البرغوث ومهرجانات الموسيقى.
أما إذا أردت الاستمتاع بفيينا من على صفحة الماء، ففي إمكانك ركوب العبّارة حيث تستمتعين بجمال التاريخ الصامت وحركة العصر الصاخبة، فيظهر، في مزيج الفن المعماري المعاصر المجاور لقرينه التاريخي، التنافس القوي بين ماضي المدينة وحاضرها.
رسوم غرافيتية على طول جدار ضفة القناة تغازل مياهها، ومشاة بعضهم يحثّ خطاه ربما نحو أعماله، وآخرون يجلسون في المقاهي المنتشرة على طول الضفة، يرتشفون القهوة ويتأملون في مدينتهم التي تغمرهم بالحياة المترفة، وينظرون بشغف إلى تاريخ ينشر أبّهته في مبانٍ تشكّل روائع فنية لمبدعين رفضوا أن يطويهم النسيان.
للقهوة في فيينا حكايات وبيوت
ومن المياه وتموّجاتها، جولي في شوارع فيينا، وتحديدًا في وسطها التجاري، وادخلي في متاهة سمفونية حركة سكّانها وزوّارها حيث نوافذ البيوت كلها من دون استثناء، تزيّنها الزهور المتدلية من أصص مزخرفة تكسر رمادية الشوارع المرصوفة بالحجارة، تشاركها في ذلك حركة المشاة على أرصفة ضيّقة حيث ينهمك أصحاب المتاجر الصغيرة بعرض بضائعهم وتحفهم التذكارية، فيما يسارع رجال الأعمال والموظّفون إلى مكاتبهم، فيبدو وقع أقدامهم مقاطع لموسيقى إيقاعية معاصرة.
ادخلي في طقس سكان فيينا «القهوجي»، واكتشفي وجهًا ثقافيًا آخر لها. خذي استراحة في أحد مقاهيها التي ليست مجرّد مقاهٍ لتناول القهوة والحلوى، وإنما هي أسلوب ثقافي بحد ذاته، إذ يطلقون عليها «غرفة جلوس فيينا»، ويعتبرونها بيوتًا ثقافية، ذلك أنه في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، كانت ملتقى كبار الكتّاب يجلسون فيها لساعات، يتبادلون الأفكار والحوارات، وحتى أهم المقالات التي نشرت في الصحف كانت تكتب فيها، من بينها مقالات مجلة «الشعلة»لصاحبها كارل كراوس، كما كانت العنوان الثابت ليتسلم الكتّاب بريدهم مثل مقهى The Café Central.
ويطلق على الأدب الذي وُلد هناك «أدب بيت القهوة»، وكذلك «بيت قهوة الشعراء». وهناك أسطورة طريفة عن اكتشاف سكان فيينا للقهوة، نُشرت عام 1783 في كتاب «تاريخ الحصار التركي الثاني»، تقول إن جنود هابسبورغ - البولنديين، وجدوا أثناء تحريرهم المدينة من الحصار التركي عام1683 كمية كبيرة من الأكياس المعبّأة بالحبوب، ظنوا أنها طعام للجِمال، فأهدى الملك يان الثالث سوبيسكي، الأكياس إلى أحد ضبّاطه وكان يدعى جيرزي فرانشيسكي كولتزيكي الذي أنشأ أول بيت للقهوة
في فيينا، فيما وجدت الأبحاث الحديثة أن أول بيت قهوة في فيينا فتحه يوهان ديوداتو عام 1685، وهو رجل أعمال أرمني، وبعد خمسة عشر عامًا، افتتح أربعة يونانيين بيوت القهوة.
عرفت بيوت القهوة في فيينا عام 1950 ركودًا، وأغلق الكثير منها بسبب اقتناء الناس التلفزيون في بيوتهم، وظهور مقاهي الإسبريسو، ولكن هذه المقاهي عادت لتصبح مقصدًا للسكان والسياح، رغم أنف التلفزيون، وأقرانه من التكنولوجيا.
ومهما اختلفت الحكايات والأساطير حول بيوت القهوة، وخلافًا للمقاهي في جميع أنحاء العالم، فإن من الثابت والمؤكد راهنًا أنه يمكنك تمضية ساعات في قراءة صحيفة أو كتاب، وأنت ترتشفين فنجان قهوة واحدًا، يقدّم خلالها النادل كوب ماء من الصنبور، وغالبًا يجلب لك كوب مياه إضافية ليشعرك بالاهتمام، رغم أنك لم تطلبي سوى فنجان قهوة واحد.
القهوة لا تكتمل إلا بقطعة كيك زاخر
إضافة إلى القهوة، تعتبر الوجبة الخفيفة Jause، أو ما يُعرف بالعصرونية، تقليدًا في حياة سكان فيينا يمارسونه بحماسة.
والوجبة عبارة عن فنجان قهوة وقطعة كيك زاخر Sacher التي أخذت اسمها من فندق زاخر Sacherحيث اخترعت حلوى الكيك كما يشاع، وهي عبارة عن كيك من الشوكولا اللذيذة عند تذوّقها عليك تجاهل مسألة الحمية نظرًا إلى غناها بالسعرات الحرارية.
وإذا أردت أن تجرّبي هذا التقليد، وتنعمي بالاسترخاء فما عليك سوى التوجّه إلى مقهى ديميل الواقع في المنطقة الرقم واحد في شارع كول ماركت حيث اعتاد أفراد العائلة المالكة، الهابسبورغ تناول وجبتهم الخفيفة المحضّرة في مقهى ديميل. تخيّلي نادلاً يقدم لك فنجان القهوة وهو يرتدي بدلة التوكسيدو الرسمية. إنها الحياة المخملية على طريقة فيينا!
من محطة قطار غرب فيينا أو «فيينا يستباهنهوف» انطلقي إلى عالم التسوّق
من هنا، من محطة قطار غرب فيينا أو «فيينا يستباهنهوف» انطلق جيس وسيلين لاكتشاف المدينة. إنها محطة رئيسية تقع الى الغرب من وسط المدينة التجاري، بالقرب من شارع التسوّق الشهير مارياهيلفير الذي يضم أكبر عدد من المحلات التجارية.
صحيح أن الكاميرا الهوليوودية لم تأخذنا إلى أروقة أسواق فيينا، ولكن هذا لا يمنع من أن تكتشفيها. من المؤكد أنك خصصت ميزانية للتسوّق.
هنا تعرض المتاجر الكبرى في محيط من الترف المعماري والجمال الطبيعي، الأزياء الراقية والمنتجات الجلدية والأثاث والأكسسوارات، وفي كواليس هذه المتاجر محلات صغيرة تبيع التذكارات.وبالطبع تنتشر فيه المقاهي التي توفر لك استراحة قهوة لذيذة.
تأرجحي في الهواء ودوري مع العجلة العملاقة في متنزّه براتر
عند مدخل متنزّه براتر في يبولدشتات، تلوح عجلة «ينر ريسنراد» العملاقة التي تحمل 15 جندولاً(عربة مستطيلة تشبه عربات القطار) يبلغ ارتفاعها 64.75 مترًا وهي واحدة من المعالم السياحية الأكثر شعبية، وتعتبر رمز فيينا.
شُيدت عام 1897، وكانت أعلى عجلة موجودة في العالم من عام 1920 وحتى 1985. شيّد «ينر ريسنراد» المهندس الإنكليزي الملازم والتر باسيت (1864-1907)، من البحرية الملكية، وكان الغرض منها الاحتفال باليوبيل الذهبي للإمبراطور فرانز جوزيف الأول.
اللافت أنه عام 1916 صدر تصريح لإزالتها، ولكن نظرًا إلى عدم وجود تمويل، بقيت العجلة والمقهى الموجود أيضًا في متنزه براتر الذي أُلحقت به أضرار بالغة في الحرب العالمية الثانية وأعيد بناؤهما في وقت لاحق. إذًا لا يمكن تفويت زيارة هذا المتنزه وخوض تجربة الدوران في عربة قطار تتأرجح في الهواء.
جولي في عالم الأباطرة في قصر شونبرون Schonbrun
كان قصر شونبرون المقر الصيفي لعائلة الهابسبورغ. يحتوي القصر على 1400 غرفة، ومن المؤكد أنه كان كبيرًا كفاية ليتسع للأبناء الستة عشر للإمبراطورة ماريا تيريزا آخر إمبراطورات النمسا.
يأخذك التجوال في أروقة القصر وأجنحته إلى عالم جميل تسكنه أبّهة الأمراء والدوقات، وتقودك قدماك إلى حدائق القصر الغنّاء التي يمكن القول إنها تفوق جماله الداخلي وفخامته، فالنسيم هنا يداعب متاهة الممرات المزروعة بالشجر والمجسمات ونوافير المياه والأزهار التي تجتاح الحدائق اجتياحًا يشبه رقصة الفالس، ناسفًا المفهوم المتعارف عليه. إنه اجتياح للسكينة والاسترخاء ينسيك ما في العالم من حروب ومآسٍ.
شارع هوبت شتراسيه HAUPTSTRASSE
تضم المنطقة الثالثة في فيينا ثاني أكبر شوارع التسوّق في العاصمة «هوبت شتراسيه». تم ترميم هذا الشارع في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، وأضيفت إليه محطة مترو الأنفاق.
يضم عددًا كبيرًا من المتاجر التي تلبي جميع الميزانيات. إذا كنت في حاجة للتزوّد بوقود المرح والتسوق، عليك إذًا بسوق روشو، الذي يقع على يمين هوبت شتراسيه، هو مكان عظيم للاسترخاء والانغماس في الأطباق النمسوية اللذيذة، جرّبي طبق العجل شنيتزل، والبطاطا المشوية الممزوجة بالحبق التقليديين.
شارع ماريا تيريزا شتراسيه
الجلوس في أحد مقاهي الرصيف ومشاهدة الجمال المصاغ حولك من أروع ما يمكن أن تفعليه حين تريدين الاستراحة في شارع ماريا تيريزا الذي يعتبر واحدًا من أكثر الشوارع الرائعة في أوروبا.
في خلفيته تقف قمة نوردكيت Nordkett، وفي وسطه مجسم القديسة آنا، والكثير من المتاجر الصغيرة والكبيرة... وتحتشد فيه المباني الرائعة التي تعود إلى العصور الوسطى وعصر الباروك.
كرامير غاسيه وألتر بلاتز
من الفن القوطي إلى الباروكي انطلقي من شارع كرامير غاسيه الرقم واحد للتسوق في منطقة كلاغنفورتن وأقدم شارع للمشاة في النمسا.
هنا في هذا الشارع تصطف المباني بالنمط الباروكي إلى جانب البيوت ذات نمط الفن المعاصر الذي لاقى رواجًا بين عامي 1890 و1910.
ومنه تسحبك ساحة ألتر مركز المدينة التاريخي، حيث البيوت القديمة الجميلة والقصور الملكية والمتاجر والمقاهي. ويبدو أن انطباع المهندسين المعماريين الإيطاليين الذين شيّدوا هذه المنطقة في القرنين السادس عشر والسابع عشر ينسحب على المتاجر والبوتيكات التي تعرض لأهم دور الأزياء الإيطالية، مما يجعلك تعيشين مغامرة تسوّق نمسوية بروح إيطالية.
ولمَ لا تدخلين في تجربة جيس وسيلين وتتناولين القهوة في مقهى شبرل Sprel ، جنوب ساحة ماريا- تيريز؟ فهنا صوّر مشهد لعبة الهاتف التي ادعاها بطلا الفيلم، من المؤكد أنك لن تقومي بها، ولكن ارتيادك هذا المقهى فرصة للاسترخاء والاستمتاع في أحد المقاهي الشهيرة في فيينا، الذي يعود إلى نهاية القرن التاسع عشر، وترتشفين قهوتك وسط ديكور يحضن نوستالجيا ذاك العصر بجدرانه وأعمدته وأقواسه من الخشب المصقول، والمرايا اللامعة.
من الصعب أن نتصوّر مدينة أكثر ملاءمة للعيش من فيينا. إنها المدينة التي تجلسين في مقاهيها الرائعة وترتشفين القهوة التي تنسيك الفوضى التي تعمّ العالم. مدينة تحضن كل الجمال، فلا عجب في أن يترك موتسارت مدينته سالزبورغ ويعيش هنا ويبدع في موسيقاه...ولا غرابة في أن يهاجر إلى فيننا بيتهوفن وهايدن وبراهمز.
كم كانوا محظوظين بمكوثهم في هذه المدينة. كيف يمكن من تعرّف إليها أن يهجرها! فالموسيقى تبدو في جينات الإنسان الذي يولد فيها وفي ذرّات الهواء. ولا عجب في أن يجول فيها بطلا Before Sunrise يومًا كاملاً بنهاره وليله من دون أن يشعرا بالتعب، ولكن من المؤكد أنك ستحتاجين إلى أيام لتعرفي بعضًا من تفاصيل هذه المدينة وريثة أكبر إمبراطوريات التاريخ.
بطاقة هوية النمسا
البلد: النمسا
العاصمة: فيينا
اللغة: الألمانية
العملة: اليورو
الفيزا: الشينغين
مقولتان نمسويتان:
- من يحافظ على قدرته في رؤية الجمال، فلن يشيخ أبدًا.
- التاريخ يعلّم باستمرار، ولكنه لا يجد الكثير من التلامذة.