عادت جيوش جنكيزخان من مهمَّتها في إشعال الحرب المعنوية من إبادة وتدمير تبثُّ الرعب في قلوب المسلمين في إقليمي خراسان وخُوارِزم. وبدأ جنكيزخان يُعِدُّ للمهمَّة الأقبح؛ وهي اجتياح الإقليمين.

اجتياح خراسان:

1- مدينة بلخ وما حولها (شمال أفغانستان الآن):
هذه المدينة تقع جنوب مدينة ترمذ التي دمَّرها التتار منذ أيام قلائل، ولا شكَّ أن أخبار مدينة ترمذ قد وصلت إليهم، وكان في قلوب أهل هذه البلدة رعب شديد من التتار، فلمَّا وصلت جيوش التتار إليهم طلبوا منهم الأمان، وعلى غير عادة التتار فقد قبلوا أن يُعطوهم الأمان[1]، ولم يتعرَّضُوا لهم بالسلب أو النهب.

وقد تَعَجَّبْتُ من فعل التتار مع أهل بلخ! وتَعَجَّبْتُ: لماذا لم يقتلوهم كما هي عادتهم؟! ولكن زال العجب عندما مرَّت الأيام ووجدتُ أن جنكيزخان قد عاد إلى بلخ وأمر أهلها أن يأتوا معه ليُعاونوه في فتح مدينة مسلمة أخرى هي «مرو» -كما سيأتي- والغريب أن أهلها جاءوا معه بالفعل لمحاربة أهل مرو[2]! والجميع من المسلمين؛ ولكن الهزيمة النفسية الكبيرة التي كان يُعاني منها أهل بلخ نتيجة الأعمال البشعة التي تمَّت في مدينة ترمذ المجاورة لهم جعلتهم ينصاعون لأوامر جنكيزخان؛ حتى إن كانوا سيقتلون إخوانهم! وبذلك يكون جنكيزخان قد وفَّر قوَّاته لمعارك أخرى، وضرب المسلمين بعضهم ببعض.

وإن كنا نذكر ذلك على سبيل العجب الآن، فقد رأيناه في بقاع كثيرة من العالم الإسلامي، وما زلنا نراه؛ فقد استخدم الأمريكان أهل الشمال في أفغانستان (منطقة بلخ نفسها) لحرب المسلمين في كابل سنة 2002م، واستخدم الأميركان -أيضًا- أكراد الشمال العراقي في حرب بقية العراق، ولا حول ولا قوَّة إلا بالله!

2- اجتياح الطَّالَقَان:
اتجهت فرقة من التتار من «سمرقند» إلى منطقة الطَّالَقَان (شمال شرق أفغانستان بالقرب من طاجيكستان)، وقد صعب عليهم فتحها لمناعة حصونها، فأرسلوا إلى جنكيزخان فجاء إليها وحاصرها شهورًا حتى تمَّ فتحها، وقتلوا رجالها، وسبوا نساءها وأطفالها، ونهبوا أموالها ومتاعها كما كانت عادتهم[3].

3- مأساة مرو:
ومرو مدينة كبيرة جدًّا في ذلك الوقت، وتقع الآن في دولة تركمنستان المسلمة، على بعد أربعمائة وخمسين كيلومترًا تقريبًا غرب مدينة بلخ الأفغانية، وقد ذهب إليها جيش كبير من التتار على رأسه بعض أولاد جنكيزخان، واستعانوا في هذه الموقعة بأهل بلخ المسلمين -كما ذكرنا من قليل- وتحرَّك الجيش التتري المرهوب الذي لم تذكر الروايات عدده، ولكنه كان جيشًا هائلًا يُقَدَّر بمئات الألوف؛ هذا غير المسلمين من شمال أفغانستان، وعلى أبواب مرو وجد التتار أن المسلمين في مرو قد جمعوا لهم خارج المدينة جيشًا يزيد على مائتي ألف رجل، وهو جيش كبير جدًّا بقياسات ذلك الزمان، وكانت موقعة رهيبة بين الطرفين على أبواب مرو؛ وحدثت المأساة العظيمة، ودارت الدائرة على المسلمين، وانطلق التتار يذبحون في الجيش المسلم حتى قتلوا معظمه، وأسروا الباقي، ولم يسلم إلاَّ أقل القليل، ونهبت الأموال والأسلحة والدوابُّ من الجيش، ويُعَلِّق ابن الأثير في أسى وإحباط على هذه الموقعة فيقول: «فلمَّا وصل التتر إليهم التقوا واقتتلوا، فصبر المسلمون، وأمَّا التتر فلا يعرفون الهزيمة»[4].

وتخيَّل جندًا يقاتلون عدوَّهم وهم يعتقدون أن هذا العدوَّ لا يُهزم؛ كيف تكون نفسياتهم؟ وكيف تكون معنوياتهم؟

وقعت الهزيمة المُرَّة بالجيش المسلم، وفُتح الطريق إلى مدينة مرو ذات الأسوار العظيمة؛ وكان بها من السكان ما يزيد على سبعمائة ألف مسلم من الرجال والنساء والأطفال.

وحاصر التتار المدينة الكبيرة، وقد دبَّ الرعب في قلوب أهلها بعد أن فني جيشهم أمام عيونهم، ولم يفتحوا الأبواب للتتار مدَّة أربعة أيام، وفي اليوم الخامس أرسل قائد جيش التتار (ابن جنكيزخان) رسالة إلى قائد مدينة مرو يقول فيها: «لا تُهلك نفسك وأهل البلد، واخرج إلينا نجعلك أمير هذه البلدة، ونرحل عنك».

فصدَّق أمير البلاد ما قاله زعيم التتار، أو أوهم نفسه بالتصديق، وخرج إلى قائد التتار، فاستقبله قائد التتار استقبالًا حافلًا، واحترمه وقرَّبه، ثم قال له في خبث: «أخرج لي أصحابك ومقرَّبيك ورؤساء القوم حتى ننظر مَنْ يصلح لخدمتنا، فنُعطيه العطايا، ونقطع له الإقطاعات، ويكون معنا». فأرسل الأمير المخدوع إلى معاونيه وكبار وزرائه وجنده لحضور الاجتماع المهمِّ مع ابن جنكيزخان شخصيًّا، وخرج الوفد الكبير إلى التتار، ولما تمكَّن منهم التتار قبضوا عليهم جميعًا وقيَّدوهم بالحبال!

ثم طلبوا منهم أن يكتبوا قائمتين طويلتين:

- أمَّا القائمة الأولى: فتضمُّ أسماء كبار التجار وأصحاب الأموال في مدينة مرو.

- وأما القائمة الثانية: فتضمُّ أسماء أصحاب الحِرف والصُنَّاع المَهَرة؛ ثم أمر ابن جنكيزخان أن يأتي التتار بأهل البلد أجمعين، فخرجوا جميعًا من البلد، حتى لم يبقَ فيها واحد، ثم جاءوا بكرسي من ذهب قعد عليه ابن جنكيزخان ثم أصدر الأوامر الآتية:

الأمر الأول: أن يأتوا بأمير البلاد وبكبار القادة والرؤساء فيُقتلوا جميعًا أمام عامَّة أهل البلد! وبالفعل جاءوا بالوفد الكبير وبدءوا في قتله واحدًا واحدًا بالسيف، والناس ينظرون ويبكون.

الأمر الثاني: إخراج أصحاب الحِرف والصُنَّاع المَهَرة، وإرسالهم إلى منغوليا للاستفادة من خبراتهم الصناعية هناك.

الأمر الثالث: إخراج أصحاب الأموال وتعذيبهم؛ حتى يخبروا عن كل ما لهم، ففعلوا ذلك؛ ومنهم مَنْ كان يموت من شدَّة الضرب ولا يجد ما يكفي لافتداء نفسه.

الأمر الرابع: دخول المدينة وتفتيش البيوت بحثًا عن المال والمتاع النفيس؛ حتى إنهم نبشوا قبر السلطان «سنجر» أملًا في وجود أموال أو ذهب معه في قبره.

واستمرَّ هذا البحث ثلاثة أيام.

ثم الأمر الخامس المفزع: أمر ابن جنكيزخان -لعنه الله ولعن أباه- أن يُقتل أهل البلاد أجمعون!

وبدأ التتار يقتلون كل سكَّان مرو.. يقتلون الرجال.. والنساء.. والأطفال!

قالوا: إن المدينة عَصت علينا وقاومت، ومَنْ قاوم فهذا مصيره.

يقول ابن الأثير: «وأمر ابن جنكيزخان بعد أن قُتلوا جميعًا أن يقوم التتار بإحصاء القتلى، فكانوا نحو سبعمائة ألف قتيل، فإنَّا لله وإنا إليه راجعون!»[5].

قُتل من مدينة مرو سبعمائة ألف مسلم ومسلمة، وهذا ما لا يُتَخَيَّل، وحقًّا فإنه لم تمرُّ على البشرية -منذ خُلق آدم- ما يُشبه هذه الأفعال من قريب ولا بعيد، ولا حول ولا قوَّة إلا بالله!

وفنيت مدينة مرو، واختفى ذكرها من التاريخ!

4- اجتياح نيسابور:
وهي مدينة كبيرة أخرى من مدن إقليم خراسان، (وهي تقع الآن في الشمال الشرقي لدولة إيران)، واتجه إليها التتار بعد أن تركوا خلفهم مدينة مرو وقد خربت تمامًا، وهناك حاصروا مدينة نيسابور لمدَّة خمسة أيام، ومع أنه كان بالمدينة جمع لا بأس به من الجنود المسلمين؛ فإن أخبار مرو كانت قد وصلت إلى نيسابور، فدبَّ الرعب والهلع في أوصال المسلمين، وما استطاعوا أن يقاوموا التتار، ودخل التتار المدينة، وأخرجوا كل أهلها إلى الصحراء، وجاء مَنْ أخبر ابن جنكيزخان أن بعضًا من سكان مدينة مرو قد سلم من القتل؛ وذلك أنهم ضُربوا بالسيف ضربات غير قاتلة، وظنهم التتار قد ماتوا فتركوهم؛ لذا فقد أمر ابن جنكيزخان في مدينة نيسابور أن يُقتل كل رجال البلد بلا استثناء، وأن تُقطع رءوسهم لكي يتأكَّدُوا من قتلهم، ثم قام اللعين بسبي كل نساء المسلمين في مدينة نيسابور، وأقاموا في المدينة خمسة عشر يومًا يُفَتِّشون الديار عن الأموال والنفائس، ثم تركوا نيسابور بعد ذلك أثرًا بعد عين[6]، ولا حول ولا قوَّة إلا بالله!

5- اجتياح هراة:
وهي من أحصن البلاد الإسلامية، وكانت مدينة كبيرة جدًّا كذلك، وتقع في الشمال الغربي لأفغانستان، وتوجَّه إليها ابن جنكيزخان بقوَّاته البشعة، ولم تَسْلَم المدينة من المصير الذي قابلته مدينتا مرو ونيسابور، فقُتل فيها كل الرجال، وسبيت كل النساء، وخُرِّبت المدينة كلها وأُحرقت[7]، وإن كان أميرها -وكان يُدعى: «ملك خان»- قد استطاع الهروب بفرقة من جيشه في اتجاه غزنة (في جنوب أفغانستان)! وهكذا كان الملوك والرؤساء في ذلك الزمن يُوَفَّقُون إلى الهروب، بينما تسقط شعوبهم في براثن التتار!

وبسقوط هراة يكون إقليم خراسان قد سقط بكامله في أيدي التتار، ولم يُبقوا فيه على مدينة واحدة.

اجتياح خُوارِزم:
وخُوارِزم هي مركز عائلة خُوارِزم شاه، وبها تجمُّع ضخم جدًّا من المسلمين، وحصونها من أشدِّ حصون المسلمين بأسًا وقوَّة، وهي تقع الآن على الحدود بين أوزبكستان وتركمنستان، وتقع مباشرة على نهر جيحون، وكانت تمثِّل للمسلمين قيمة اقتصادية وإستراتيجية وسياسية كبيرة.

ولأهمية هذه البلدة فقد وجَّه إليها جنكيزخان أعظم جيوشه وأكبرها، وقد قام هذا الجيش بحصار المدينة لمدَّة خمسة أشهر كاملة دون أن يستطيع فتحها، فطلبوا المدد من جنكيزخان، فأمدهم بخلق كثير، وزحفوا على البلد زحفًا متتابعًا، وضغطوا عليه من أكثر من موضع؛ حتى استطاعوا أن يُحدثوا ثغرة في الأسوار، ثم دخلوا المدينة، ودار قتال عنيف بين التتار والمسلمين، وفني من الفريقين عدد كبير جدًّا؛ إلاَّ أن السيطرة الميدانية كانت للتتار، ثم تدفَّقت جموع جديدة من التتار على المدينة، وحلَّت الهزيمة الساحقة بالمسلمين، ودار القتل على أشدِّه فيهم، وبدأ المسلمون في الهروب والاختفاء في السراديب والخنادق والديار.

ولم يتركهم التتار، إذ قاموا بهدم سدٍّ ضخم كان مبنيًّا على نهر جيحون، وكان يمنع الماء عن المدينة، وبذلك أطلقوا الماء الغزير على خُوارِزم، فأغرق المدينة بكاملها.. ودخل الماء كل السراديب والخنادق والديار، وتهدَّمت ديار المدينة بفعل الطوفان الهائل، ولم يَسْلَم من المدينة أحد البتَّة! عمل بشع حقًا! فمن نجا من القتل قُتل تحت الهدم، أو أُغرق بالماء، وأصبحت المدينة العظيمة خرابًا، وتركها التتار وقد اختفت من على وجه الأرض، وأصبح مكانها ماء نهر جيحون، ومَنْ مَرَّ على المدينة الضخمة بعد ذلك لا يستطيع أن يرى أثرًا لحياة سابقة؛ وهذا لم يُسمع بمثله في قديم الزمان وحديثه، اللهم ما حدث مع قوم نوح، ونعوذ بالله من الخذلان بعد النصر[8].

وتمَّت كل هذه الأحداث في عام واحد هو العام السابع عشر بعد ستمائةٍ من الهجرة، وهذا من أعجب الأمور التي مرَّت بالأرض على الإطلاق! ولا حول ولا قوَّة إلا بالله!

[1] الذهبي: تاريخ الإسلام 44/51.
[2] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 10/419.
[3] الذهبي: تاريخ الإسلام 44/51.
[4] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 10/420.
[5] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 10/420.
[6] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 10/421.
[7] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 10/422.
[8] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 10/346.


د.راغب السرجاني