“إني أعجب لما يدعوني للقلم، فالكتابة فن لم أعرفه لا بالهواية ولا بالمهنة، ويمكن القول بأنه فيما عدا الواجبات الدراسية على عهد صباي، والأعمال المكتبية المتعلقة بوظيفتي، فإنني لم أكتب شيئا على الإطلاق”
بهذه الكلمات يبدأ العم نجيب فصلا جديدا من إبداعاته ورواية تحمل كل معاني المأساة، مأساة أن تولد بلا أب حنون ولا موهبة ولا هواية.
البداية
كعادة روايات نجيب محفوظ الفلسفية يبدأ بطل رواية السراب “كامل رؤبة لاظ” الحديث عن نفسه وعن عائلته المكونة من الأم التي تخشى على ولدها من أبسط الأشياء وتحاول عزله وحمايته من كل المخاطر وتمنعه من اللعب مع أقرانه خشية عليه، والأب رؤبة لاظ عاشق الخمر والسكر والمنفصل عن الأم، وجده لأمه الأميرلاي السابق بالجيش المصري، والذي تعيش معه الأم وكامل في بيته بعد انفصالها عن زوجها، ومدحت وراضية أشقاءه الذي يعيشون مع أبيهم نظرًا لتجاوزهم سن التاسعة وهو السن القانوني الذي يحق فيه للأب ضم أبناءه إليه.
يحكي كامل عن تاريخ عائلته وعن قصة زواج أمه بأبيه التي سرعان ما كرهت العيش معه وعن الخلافات العديدة التي تمت بينهم.
“قاتل الله العادة فهي التي تقتل روح العجب والإعجاب فينا.”
براعة الاستهلال
الملاحظ في بداية رواية السراب هي اللغة الاستثنائية لنجيب محفوظ في البداية، فالتزم باللغة العربية الفصحى التزاما شديدا لم يحد عنه إلا نادرا، وحتى في أدق الحوارات والتوصيفات كان نجيب ينسجها بقلمه بصورة خيالية تظهر رونق اللغة وجمالها وبنفس الوقت لا ينزل للعامية أبدا.
كما يظهر معاناة النفس البشرية من أم انفصلت عن زوجها وفقدت أبناءها مدحت وراضية ولم يجد لها الزمان سوى بكامل الذي سرعان ما يكبر في السن ويقترب من الانضمام إلى كنف أبيه، ووالدها الأميرلاي عبد الله المحارب السابق بالجيش المصري والذي يغدق عليها وعلى ولدها بكل ما يحتاجون إليه من عطف ومال وحنان.
“إن كل عذاب نصاب به في هذه الدنيا حق وعدل لأننا نتفانى في حبها على حين أنها لا تستحق إلا المقت.”
أحداث الرواية
بعد سرد تاريخ العائلة وأسباب انفصال والدته عن والده يحكي كامل عن نفسه وعن كراهيته للتعليم والدراسة ومع ذلك يستمر فيهما بإلحاح من جده الذي لطالما حلم برؤيته ضابطا بالجيش المصري مثلما كان هو.
تدور الأحداث وبمعجزة يبقى كامل مع أمه حتى ينهي دراسة البكالوريا بعد معاناة شديدة.
وسرعان ما يدق الحب أبواب قلبه فيغرم بفتاة يراها على رصيف المحطة ويتبعها بنظراته شهرا تلو شهر دون أن يملك الجراءة الكافية للتحدث معها وكيف لا وهو الطفل المدلل الذي ظل طوال عمره في المنزل لخوف أمه عليه ولم يختلط بالناس فسرعان ما انتقل من ظل أمه وجده إلى عالم آخر تستحوذ فيها حبيبته على لب عقله وكيانه وتملا عليه الدنيا كلها.
يحاول كامل العودة إلى أبيه ويطلب منه مساعدته خاصة وهو الرجل الغني الذي يملك أمولا طائلة لكنها يبددها على الخمر والسكر، ويرد الوالد ابنه كما جاء إليه، وحينها يفقد كل أمل في والده ويقرر المضي بعيدا في هذه الحياة اعتمادا على نفسه فقط.
“أروم بعثا جديدا حقا، ويوم ذاك تصبح آلامي لا شيء يطويها الفناء إلى الأبد، فيمكنني لقاء أحبائي بقلب صاف ونفس نقية طاهرة.”
الخاتمة
ولأن الحياة لا تطيب أبدا ولا يدوم لها حال، تلقي بكامل في بحرها وتتلقفه بأمواجها فيواجه كل أشكال الفقد والخيانة، وسرعان ما تتحول حياته الرغدة الطيبة إلى كابوس كبير لا يستيقظ منه أبدا.
الجانب الفلسفي من رواية السراب
من الصعب للغاية أن تجد أديبا يصف الحياة كما وصفها العم نجيب، إذ يتخلل إلى عمق النفس الإنسانية فيستخرج منها لوحة بديعة حزينة يراها القارئ فيشعر وكأنه يعيش مع أبطال الرواية حياتهم ويحس بمعاناتهم. فنجيب وصف كامل بالطفل الذي لا يملك أي موهبة ولا يتفوق في أي مجال فهو إنسان بائس لم تلق إليه الدنيا بطوق نجاة واحد إلا ويتضح أنه وهم كبير وسراب خادع.
وما أشد بؤسا من فقد الأم لأبنائها ومعاناتها قبلا مع والدهم ومن نشأة غلام صغير نشأة ينعزل فيها عن كل من سواه من الزملاء والأصحاب ويقابل بسخريتهم واستهزائهم في كل مكان يذهب إليه.
وبواقعية شديدة يخط نجيب بقلمه وقوع كامل في الحب كأي إنسان منا ينجذب إلى فتاة أحلامه ولكن حتى هذا لا يدوم طويلا ويتحول الحلم إلى واقع مرير لا يضاهيه في عذابه شيئا.
رواية السراب هي فلسفية بامتياز وأحداث واقعية للغاية ولغة عذبة بديعة وأسلوب سرد لا تمل منه أبدا بل سرعان ما تلتهم صفحاتها ال422 في سرعة وتشوق لكل سطر دون أدنى شعور بالرتابة ولا بالملل.
عمل مثل هذا يغوص في أعماق النفس الإنسانية بهذه الطريقة ويصدمنا ويشوقنا ويذهب بنا ويرجعنا ويضفي حالة من الأنس والحزن والشوق والحب والكآبة والخيانة والصفو والإخلاص وفي رواية واحدة بالطبع لا يقدر عليه غير نجيب محفوظ.