كانت سنة 617 هـ من أبشع السنوات التي مرَّت على المسلمين منذ بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلى هذه اللحظة؛ لقد علا فيها نجم التتار، واجتاحوا البلاد الإسلامية اجتياحًا لم يُسْبَق، وأحدثوا فيها من المجازر والفظائع والمنكرات ما لم يُسمع به، وما لا يُتخيَّل أصلاً.
فبعد أن دمَّر التتار مدينة بخارى العظيمة، وأهلكوا أهلها، وحرَّقوا ديارها ومساجدها ومدارسها، انتقلوا إلى المدينة المجاورة «سمرقند» (وهي -أيضًا- في دولة أوزبكستان الحالية)، واصطحبوا في طريقهم مجموعة كبيرة من أسارى المسلمين من مدينة بخارى، وكما يقول ابن الأثير: «فساروا بهم على أقبح صورة، فكلُّ من أعيا وعجز عن المشي قُتل»[1].
أمَّا لماذا كانوا يصطحبون الأُسارى معهم؟ فلأسباب كثيرة:
أولاً:
كانوا يُعطون كل عشرة من الأسارى عَلمًا من أعلام التتار يرفعونه، فإذا رآهم أحد من بعيد ظنَّ أنهم من التتار، وبذلك تكثر الأعداد في أعين أعدائهم بشكل مرهوب، فلا يتخيَّلون أنهم في قدرتهم أن يُحاربوهم، وتبدأ الهزيمة النفسية تدبُّ في قلوب مَنْ يواجهونهم.
ثانيًا:
كانوا يُجبرون الأسارى على أن يُقاتلوا معهم ضدَّ أعدائهم؛ ومَنْ رفض القتال أو لم يُظهر فيه قوَّة قتلوه.
ثالثًا:
كانوا يتترَّسُون بهم عند لقاء المسلمين؛ فيضعونهم في أوَّل الصفوف كالدروع لهم، ويختبئُون خلفهم، ويُطلقون من خلفهم السهام والرماح، وهم يحتمون بهم.
رابعًا:
كانوا يقتلونهم على أبواب المدن؛ لبثِّ الرعب في قلوب أعدائهم، وإعلامهم أن هذا هو المصير الذي ينتظرهم إذا قاوموا التتار.
خامسًا:
كانوا يُبادلون بهم الأسارى في حال أسر رجال من التتار في القتال، وهذا قليل لقلَّة هزائم جيش التتار.
كيف كان الوضع في «سمرقند»؟:
كانت «سمرقند» من حواضر الإسلام العظيمة، ومن أغنى مدن المسلمين في ذلك الوقت، ولها قلاع حصينة، وأسوار عالية؛ ولقيمتها الإستراتيجية والاقتصادية فقد ترك فيها «محمد بن خُوارِزم شاه» زعيم الدولة الخُوارِزمية خمسين ألف جُندي خُوارِزمي لحمايتها، هذا فوق أهلها، وكانوا أعدادًا ضخمة تُقَدَّر بمئات الآلاف؛ أمَّا «محمد بن خُوارِزم شاه» نفسه فقد استقرَّ في عاصمة بلاده مدينة «أورجندة».
وصل جنكيزخان إلى مدينة «سمرقند» وحاصرها من كل الاتجاهات؛ وكان من المفروض أن يخرج له الجيش الخُوارِزمي النظامي، ولكن -لشدَّة الأسف- لقد دبَّ الرعب في قلوبهم، وتعلَّقُوا بالحياة تعلُّقًا مخزيًا؛ فأَبَوْا أن يخرجوا للدفاع عن المدينة المسلمة!
فاجتمع أهل البلد وتباحثوا في أمرهم؛ وذلك بعد أن فشلوا في إقناع الجيش المتخاذل أن يخرج للدفاع عنهم، وقرَّر بعض الذين في قلوبهم حمية من عامَّة الناس أن يخرجوا لحرب التتار، وبالفعل خرج سبعون ألفًا من شجعان البلد، ومن أهل الجَلد، ومن أهل العلم؛ خرجوا جميعًا على أرجلهم دون خيول ولا دواب، ولم يكن لهم من الدراية العسكرية حظٌّ يُمَكِّنهم من القتال؛ ولكنهم فعلوا ما كان يجب أن يفعله الجيش المتهاون الذي لم تستيقظ نخوته بعد.
وعندما رأى التتار أهل «سمرقند» خرجوا لهم قرَّرُوا القيام بخدعة خطيرة؛ وهي الانسحاب المتدرِّج من حول أسوار المدينة، في محاولة لسحب المجاهدين المسلمين بعيدًا عن مدينتهم؛ وهكذا بدأ التتار يتراجعون بعيدًا عن «سمرقند» وقد نصبوا الكمائن خلفهم، ونجحت خطَّة التتار، وبدأ المسلمون المفتقدون لحكمة القتال يطمعون فيهم ويتقدَّمُون خلفهم؛ حتى إذا ابتعد رجال المسلمين عن المدينة بصورة كبيرة أحاط جيش التتار بالمسلمين تمامًا؛ وبدأت عملية تصفية بشعة لأفضل رجال «سمرقند»[2].
كم من المسلمين قُتل في هذا اللقاء غير المتكافئ؟!
لقد قُتلوا جميعًا! لقد استشهدوا عن آخرهم!
فَقَدَ المسلمون في «سمرقند» سبعين ألفًا من رجالهم دفعة واحدة![3]، (أتذكرون كيف كانت مأساة المسلمين يوم فقدوا سبعين رجلًا فقط في موقعة أُحُد؟!)، والحقُّ أن هذه لم تكن مفاجأة، بل كان أمرًا متوقَّعًا؛ لقد دفع المسلمون ثمن عدم استعدادهم للقتال، وعدم اهتمامهم بالتربية العسكرية لأبنائهم، وعدم الاكتراث بالقوى الهائلة التي تُحيط بدولتهم.
وعاد التتار من جديد لحصار «سمرقند».
وأخذ الجيش الخُوارِزمي النظامي قرارًا مهينًا!
لقد قرَّرُوا أن يطلبوا الأمان من التتار على أن يفتحوا أبواب البلدة لهم؛ وذلك مع أنهم يعلمون أن التتار لا يحترمون العهود، ولا يرتبطون باتفاقيات، وما أحداث بخارى منهم ببعيد، ولكن تمسُّكهم بالحياة إلى آخر درجة جعلهم يتعلَّقُون بأهداب أمل مستحيل.. وقال لهم عامَّة الناس: إن تاريخ التتار معهم واضح. ولكنهم أصرُّوا على التسليم؛ فهم لا يتخيَّلُون مواجهة مع التتار، وبالطبع وافق التتار على إعطاء الأمان الوهمي للمدينة، وفتح الجيش أبواب المدينة بالفعل، ولم يقدر عليهم عامَّة الناس؛ فقد كان الجيش الخُوارِزمي كالأسد على شعبه، وكالنعامة أمام جيوش الأعداء!
وفتح الجنود الأبواب للتتار وخرجوا لهم مستسلمين؛ فقال لهم التتار: ادفعوا إلينا سلاحكم وأموالكم ودوابكم، ونحن نُسَيِّركم إلى مأمنكم. ففعلوا ذلك في خنوع، ولمَّا أخذ التتار أسلحتهم ودوابهم فعلوا ما كان متوقَّعًا منهم؛ لقد وضعوا السيف في الجنود الخُوارِزمية فقتلوهم عن آخرهم[4]! ودفع الجند جزاء ذلَّتهم.. ولا حول ولا قوَّة إلا بالله!
ثم دخل التتار مدينة «سمرقند» العريقة، ففعلوا بها مثلما فعلوا سابقًا في «بخارى»؛ فقتلوا أعدادًا لا تُحصى من الرجال والنساء والأطفال، ونهبوا كل ثروات البلد، وانتهكوا حرمات النساء، وعذَّبُوا الناس بأنواع العذاب البشعة بحثًا عن أموالهم، وسبوا أعدادًا هائلة من النساء والأطفال، ومن لم يصلح للسبي لكبر سنِّه، أو لضعف جسده قتلوه، وأحرقوا الجامع الكبير، وتركوا المدينة خرابًا![5]، وهكذا سقطت سمرقند في شهر (المحرم 617هـ=مارس 1220م).
وليت شعري! كيف سمع المسلمون في أطراف الأرض آنذاك بهذه المجازر ولم يتحرَّكُوا؟!
كيف وصل إليهم انتهاك كل حرمة للمسلمين، ولم يتجمَّعُوا لقتال التتار؟!
كيف علموا بضياع الدين، وضياع النفس، وضياع العرض، وضياع المال، ثم ما زالوا متفرِّقين؟! لقد كان كل حاكم من حكَّام المسلمين يحكم قطرًا صغيرًا، ويرفع عليه عَلمًا، ويعتقد أنه في أمان ما دامت الحروب لا تدور في قطره المحدود! لقد كانوا يخدعون أنفسهم بالأمان الوهمي؛ حتى لو كانت الحرب على بُعد أميال منهم! ولا تندهش مما تقرأ الآن.. وخبِّرني بالله عليك: كم جيشًا مسلمًا تحرَّك لنجدة المسلمين في الفلوجة أو في فلسطين؟!
لم يُفَكِّر حاكم من حكام المسلمين آنذاك أن الدائرة حتمًا ستدور عليه؟! وأنَّ ما حدث في بخارى وسمرقند ما هو إلا مقدِّمة لأحداث دامية أليمة سيُعاني منها كلُّ المسلمين، ولن ينجو منها قريب ولا بعيد؟! ولا حول ولا قوَّة إلا بالله!
نهاية ذليلة!
واستقرَّ جنكيزخان -لعنه الله- بسمرقند؛ فقد أعجبته المدينة العملاقة التي لم يَرَ مثلها قبل ذلك، وأوَّل ما فكَّر فيه هو قتل رأس هذه الدولة ليسهل عليه بعد ذلك احتلالها دون خوف من تجميع الجيوش ضدَّه؛ فأرسل عشرين ألفًا من فرسانه يطلبون «محمد بن خُوارِزم شاه» زعيم البلاد، وإرسال عشرين ألف جندي فقط فيه إشارة كبيرة إلى استهزاء جنكيزخان بمحمد بن خُوارِزم وبأُمَّتِه؛ فهذا الرقم الهزيل لا يُقارن بالملايين المُسلمة التي سيتحرَّك هذا الجيش التتري في أعماقها! ولنشاهد ماذا فعلت هذه الكتيبة التترية الصغيرة..
قال لهم جنكيزخان: «اطلبوا خُوارِزم شاه أين كان، ولو تعلَّق بالسماء!»[6].
فانطلق الفرسان التتار إلى مدينة «أورجندة» حيث يستقرُّ «محمد بن خُوارِزم شاه»، وهي مدينة تقع على الشاطئ الغربي من نهر جيحون (نهر أموداريا)، وجاء الجنود التتار من الجانب الشرقي للنهر، وهكذا فصل النهر بين الفريقين، وتماسك المسلمون، ولكن هذا التماسك لم يكن إلاَّ لعلمهم أن النهر يفصل بينهم وبين التتار، وليس مع التتار سفن!
فماذا فعل التتار؟!
لقد أخذوا في إعداد أحواض خشبية كبيرة ثم ألبسوها جلود البقر؛ حتى لا يدخل فيها الماء، ثم وضعوا في هذه الأحواض سلاحهم وعتادهم ومتعلَّقاتهم، ثم أنزلوا الخيول في الماء، والخيول تجيد السباحة، ثم أمسكوا بأذناب الخيول، وأخذت الخيول تسبح والجنود خلفها.. يسحبون خلفهم الأحواض الخشبية بما فيها من سلاح وغيره[7].
وبهذه الطريقة عَبَرَ جيش التتار نهر جيحون، ولا أدري أين كانت عيون الجيش الخُوارِزمي المصاحب لمحمد بن خُوارِزم شاه! وفُوجئ المسلمون بجيش التتار إلى جوارهم، ومع أن أعداد المسلمين كانت كبيرة؛ فإنهم كانوا قد مُلِئُوا من التتار رعبًا وخوفًا، وما كانوا يتماسكون إلاَّ لاعتقادهم أن النهر الكبير يفصل بينهم وبين وحوش التتار؛ أمَّا الآن وقد أصبح التتار على مقربة منهم؛ فلم يُصبح أمامهم إلا طريق واحد.. أتراه طريق القتال؟!
لا.. بل طريق الفرار!
وكما يقول ابن الأثير: «ورحل خُوارِزم شاه لا يلوي على شيء في نفر من خاصته»[8]. واتجه إلى نيسابور (في إيران حاليًّا)، أمَّا الجند فقد تفرَّق كل منهم في جهة؛ ولا حول ولا قوَّة إلا بالله! وأمَّا التتار فكانت لهم مهمَّة محدَّدة؛ وهي البحث عن «محمد بن خُوارِزم شاه»؛ ولذلك فقد تركوا «أورجندة»، وانطلقوا في اتجاه نيسابور مخترقين الأراضي الإسلامية في عمقها، وهم لا يزيدون على عشرين ألفًا! وجنكيزخان ما زال مستقرًّا في «سمرقند»، وكان من الممكن أن تُحاصَر هذه المقدمة التترية في أي بقعة من بقاع البلاد الإسلامية التي يتجوَّلُون فيها؛ لكن الرعب وحب الدنيا والخوف عليها كان قد استولى على قلوب المسلمين؛ فكانوا يفرُّون منهم في كل مكان، وقد أخذوا طريق الفرار اقتداءً بزعيمهم الذي ظلَّ يفرُّ من بلد إلى آخر كما نرى!
لم يكن التتار في هذه المطاردة الشرسة يتعرَّضُون لسكان البلاد بالسلب أو النهب أو القتل؛ لأن لهم هدفًا واضحًا، فهم لا يُريدون أن يُضَيِّعوا وقتًا في القتل وجمع الغنائم، إنما يُريدون فقط اللحاق بالزعيم المسلم، ومن جانب آخر فإن الناس لم يتعرَّضوا لهم؛ لئلا يُثيروا حفيظتهم؛ فيصيبهم أذاهم!
هكذا وصل التتار إلى مسافة قريبة من مدينة نيسابور العظيمة في فترة وجيزة، ولم يتمكَّن «محمد بن خُوارِزم شاه» من جمع الأنصار والجنود؛ فالوقت ضيق، والتتار في أثره، فلمَّا علم بقربهم من نيسابور؛ ترك المدينة واتجه إلى مدينة «مَازَنْدَرَان» (من مدن إيران)، فلمَّا علم التتار بذلك لم يدخلوا نيسابور بل اتجهوا خلفه مباشرة، فترك مَازَنْدَرَان إلى مدينة «الرَّيّ»، ثم إلى مدينة «هَمَذَان» (وهما من المدن الإيرانية أيضًا)، والتتار في أثره، ثم عاد إلى مدينة «مَازَنْدَرَان» في فرار مخزٍ فاضح، ثم اتجه إلى إقليم «طبرستان» (الإيراني) على ساحل بحر الخزر (بحر قزوين) حيث وجد سفينة فركبها وسارت به إلى عمق البحر، وجاء التتار ووقفوا على ساحل البحر، ولم يجدوا ما يركبونه خلفه[9].
لقد نجحت خطة الزعيم الخُوارِزمي المسلم! نجحت خطَّة الفرار!
وصل الزعيم محمد بن خُوارِزم في فراره إلى جزيرة في وسط بحر قزوين، وهناك رضي بالبقاء فيها في قلعة كانت هناك، في فقر شديد وحياة صعبة؛ وهو الملك الذي ملك بلادًا شاسعة، وأموالًا لا تُعَدُّ! ولكن رضي بذلك لكي يفرَّ من الموت!
وسبحان الله! فإن الموت لا يفرُّ منه أحد؛ فما هي إلا أيام، حتى مات «محمد بن خُوارِزم شاه» في هذه الجزيرة في داخل القلعة وحيدًا طريدًا شريدًا فقيرًا؛ حتى إنهم لم يجدوا ما يُكَفِّنُونه به، فكفَّنُوه في فراش كان ينام عليه[10]!
وصدق الله القائل: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ المَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 78].
[1] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 10/ 405.
[2] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 10/405.
[3] ابن كثير: البداية والنهاية 13/105.
[4] المرجع السابق.
[5] ابن الاثير: الكامل في التاريخ 10/406.
[6] ابن كثير: البداية والنهاية 13/105.
[7] الذهبي: تاريخ الإسلام 44/43.
[8] ابن الاثير: الكامل في التاريخ 10/406.
[9] ابن الوردي: تاريخ ابن الوردي 2/138.
[10] المرجع السابق.
د.راغب السرجاني