(النص بنية دلالية تنتجها ذات فردية او اجتماعية ضمن بنية نصية منتجة في اطار بنيات ثقافية واجتماعية محددة..) على حد تعبير سعيد يقطين في (انفتاح النص الروائي)....الذي هو اختزال لفوضى الحياة المتخيلة لتحقيق صور ذات ملامح تمسك بتلابيبها لغة شفيفة محتشدة بالصور الحسية القريبة من الرؤية السيمية التي تنقذ السرد من الرتابة من خلال تعاقبها واستحضار الحقائق المجردة في لحظة من الزمن..لخلق تشكيل قابل للتداول مكتظ بابعاده الجمالية وتاثيراته النفسية التي تسهم في نبش الخزانة الفكرية للمستهلك(المتلقي)للكشف عما خلف الالفاظ والمشاهد..علوان السلمان
ورواية(الصورة الثالثة) التي سجلت عوالمها انامل مبدعها علي لفتة سعيد واسهمت دار فضاءات في نشرها وانتشارها/2015..كونها تحاول ان تنتصر للانسان بادانتها للحروب التي تخلقها عقول سلطوية تريد ان تسجل خلودها على حساب مواطن مجهول لا يكن له التاريخ ذكرا لانه ينظر بعين واحدة تركز على ما تقوله السلطة وما تفعله..والذي كشف عن متنه النص الموازي المستل من الرقيم العاشر لملحمة كلكامش..(عندما كوّن الالهة البشر
خصّوا البشرية بالموت
وحفظوا الحياة بين ايديهم) ص7
(قلت لك ذات مرة انني اريد الهروب..كان ذلك قبل ثلاثة ايام..لنبحث عن مكان يشغلني وابتعد..سألتك: اين أجد هذا المكان؟ أجبتني:قل لاصدقائك لعلهم يجدونه بدلا منك..ذهبت الى مهند..كان يكتب قصيدته الجديدة..قلت له:
ـ عذرا وقبل ان اسمع قصيدتك العصماء..قل لي أين أجد مكانا منعزلا وغير منعزل؟
قال لي وهو يهز حروفه النثرية:
ـ القبر..عندما تموت ستجد مكانك الاثيري الذي تسمع ولا تُسمع..
غادرته الى ناهض..وقبل أن أساله..قال:
ـ لست مستعدا لقراءة ما كتبته..سأكتب النقد عندما تنشره..
أخبرته بطلبي وكان الليل يطبق على المدينة..أخرج ابتسامة عوراء وقال:
ـ انتظر حربا جديدة وستأخذ موضعا منعزلا عندها ترى الدنيا بأم عينيك..
قلت له من زاوية فمي:
ـ انها قادمة..فالاخبار تراقب اجسادنا.. /ص13 ـ ص14
فالنص يشتغل على يوميات قاص مأزوم نفسيا كونه عاش سني حياته يتيما فمقاتلا في حربين مدمرتين تركتا آثارهما السلبية على شخصية متنقلة من عمل الى آخر من اجل البقاء..اضافة الى اشغال بعض وقته مع شاعر وناقد نهارا ومعاشرته لامراة غاب عنها زوجها في هموم العسكرية ..والذي يعي ذاته عبر المفارقة التي سجلتها عيناه كوجود بصري ثالث لعينين تشكلتا من صورتين تبرزان جمال وفتوة ورتبة عسكرية مميزة فقدت رجولتها في حرب الكويت 1991..فلجأت زوجته الى القاص(محسن) لتعويضها عما تحتاج جسديا..(اسمعها تقول: أنت منقذي من الضياع..فيك وجدت ضالتي..فلا تدعني أبرح سعادتي الى التيه..ارجوك لقد كشفت ما خبأته فلا تهرب مني..) ص16..الا انه بتأمله الصور ينتفض على ذاته مخاطبا اياها( انا والحرب على زوجك..) فيهرب منها ويشغل جل وقته مع مولدة شاخصة على سطح فندق حتى استدعائه لخدمة الاحتياط للاسهام في مواجهة الجيوش المتجهة باصرار لاسقاط النظام في العراق عام 2003..لذا كان العنوان قد منح النص بعدا دلاليا كشف عن مضمون السرد..اذ الافعال تبدأ مع هذا التاريخ..فالفعل الاسترجاعي..هذا يعني ان الرواية تنطلق من رؤية الراوي المحصورة بين التذكر وتصوير الواقع وتفصيل حوادثه التي تمحورت حول شخوصها الرئيسية(محسن/سلوى) وحلمية اختصرت الزمن الحدثي..( رفعت حافة البطانية كان امامي صاحب الفندق وابنه يضرب ساقه بجريدة مطوية..احسست أنني كنت احلم بسلوى..)ص203.. فضلا عن ان شخصيات الرواية كلها مرتبطة بالشخصية الرئيسية والحدث يدور حوله بالرغم من تنوع المنظور السردي الذي يكشف عن تقنية امتازت بتعدد رؤيا السرد التي شكلت سمة فنية من سمات الرواية..اضافة الى اعتماد عناصر التشويق والاثارة بتوظيف العنصر النسوي متمثلا بـ (سلوى) التي شكلت مساحة واسعة تعادلت ومساحة الرجل والزمن..
(غافلني ودخل عليها الغرفة..سمعت صراخها:
ـ تعال واخرج هذا المعتوه من بيتي..
كانت تبكي صورتها وهي ترتعد..لن تزول لسنوات طويلة..حين يخلو لي الوضع للمراقبة..كان قلبها يتفطر متعرفة على قسوة الزمن من خلال مظهر ناهض وهو يقف عند راسها يتوسل ان تدعه ينام معها هذه الليلة فقط وسيعطيها ما تشاء من النقود..حاولت ان اسحب ناهض من الغرفة الى باب البيت مبينا ضجري من سوء تقديره..لكن الذي أدهشني حقا انني وجدتها بشكل آخر..حتى انها نسيت ان تعترف لي انها أساءت فهمي وانا ابين لها ان ليس لي علاقة بما حصل وانه كان يراقبني ليعرف العنوان..قلت لها:طبعا لا بد ان اكون قد تحدثت معه عن امراة احبها..اقضي الليل معها..لكن كلماتها كانت تنم عن مجرد انزعاج جعلتني افكر كثيرا معك.. أحقا انها لم تسلّم نفسها لرجل قبلي..او لرجل غيري؟ هل العلة في زوجها الذي لا اعرف عنه شيئا لكن سؤالا شب في راسي:ماذا لو تركتها..أتبحث عن رجل آخر؟
ـ ألم تقل لي إنني ضحية الحرب والحصار..انك لاتفهم شيئا..أنا لست أمراة داعرة أرجوك افهم هذا... / ص35
فالنص يكشف عن ثنائيات ذات دلالة تكشف عن نفسها متمثلة في(الحب والكبت/ البراءة والعهر..)..مع هذا فهي تقوم على التمرد بسبب الوضعية الاجتماعية المأساوية مع نزوع صوب التحرر من اسار مجتمع تقليدي..وهذا التمرد تمرد فني يكشف وظيفيا عن البعد النفسي والاجتماعي والفكري للشخصية.اضافة الى كشفه عن بنية التمرد على فضاء الحكاية وطبيعة مسيرة الحبكة من خلال علاقاتها الزمكانية..
فالروائي ينزع الستار عن شخصيات تتحرك وتتصارع باعتماد تقنية السؤال والجواب في ثنايا السرد..كونه يحاكي الواقع الانساني ويوثق للمكان ويسجل تاريخه ووجوده باستخدام لغة مشهدية تحاول ان تحلل او تعلق او تصف ببناء جملي قصير العبارة مع سرعة في الايقاع وكثافة المعنى بحيث تنسجم وطبيعة الشخصية والسرد الممزوج بالحوار الذي اضفى عليه ليونة وتناوبا في الازمنة..فاقترب مستواه اللغوي من الاداء اليومي بالرغم من فصاحته مع تنقلات متناوبة بين الضمائر(المتكلم/المخاطب/الغائب..)والتي تقوم على تقنية الفعل ورد الفعل..
(سمعت وقع اقدام تقترب من السقيفة جاءني الصوت:
ـ اخرج من السقيفة فصوت المولدة يصم الآذان..
كان صوت مهند وتبعه ناهض:
ـ دعنا ندخل فهذه الاصوات ليست غريبة علينا..الجو هنا بارد..
كيف صعدا الى سطح الفندق؟ من سمح لهما بالدخول أصلا؟ هذا الفندق للزائرين الاجانب..اذن ساتركك وحدك ..نؤجل قراءاتنا..وضعت القلم على المنضدة الصغيرة..
ـ ادخلا..البرد لا يرحم..
أطلا برأسيهما..كان ذلك ضروريا لهما ليعلنا عن اشتياقهما لرؤيتي مع ابتسامة كبيرة..الحقيقة انني لم أكن أستغرب في رؤيتهما لي وانا في هذا الوضع..اذ ان بناء السقيفة لا يمنع من تسري البرد الى اضلاعي..) ص13..
فالسرد ينزع صوب المشهدية المبنية على حوار موضوعي يسهم في الابطاء من سرعة السرد وتدفقه مفسحا لعقل المستهلك الافصاح عن رايه دون وسيط(الراوي العليم )..
فالشخصيات تتحرك في عمق وضعيتها الانسانية..فهي متوترة..منفعلة..مغتربة..لذا فالسرد يجر احيانا الى التعاطف مع بعض الشخوص كشخصية(محسن) و(سلوى) المهزومة والمتمردة اجتماعيا على واقع يتشكل خارج المألوف من خلال المفارقة الدرامية التي تنتج بدورها تحولا في الفكر والوجدان لدى الشخصية التي تعيش لحظتين: لحظة البراءة ولحظة التحول..وما بينهما يكون تسلسل الافعال المتعاقبة التي تقود المتلقي وفق تحولاتها التي يكتشفها السرد مرة ومرة يفصح عنها المشهد باعتباره زمنا حاضرا..
( أتذكر الفلم الاحنبي الذي رأيناه قبل شهر..ربما كان إنتاجا إمريكيا..كان البطل يقول للحرس الصيني..وهو يحاول انقاذ الامريكية المخطوفة..ليس لي علاقة بثيمة الصراع وكيفية المعالجة..بل بما تضمنه الفلم من وسائل يريد من المشاهد ان يصدقها..قال الامريكي: ان الشمس تشرق عندكم لكنها تغيب عندنا..هذه هي فلسفة العصر الجديد..ان كل شيء عائد اليهم..ولم تعد تلك الحكمة المشهورة..ايتها الغمامة: اينما تمطري فان خراجك لي لان الشمس مغيبها هناك..لذا تبدو الحقيقة ان الارض والحياة خاضعتان لهذا القانون..فناء الجسد واندماجه باللذة واللذة بالرغبة والرغبة بالخيال والخيال الذي هو حصتنا مجرد سراب../ص94..
فالراوي يولي المنظور السردي عنايته بالاستعانة بالوصف حينا والمعلومات التاريخية حينا آخر بتوظيف تقانة التذكر والاستذكار بلغة منبثقة من تفجير مفرداتها التي تنطلق من فضاء بساطتها التي تندرج على طبيعة الحدث وتنسج روايته..وفي هذا توكيد التوحد العضوي في البنائية الفنية..اذ الدمج بين بساطة تشكل الحدث وبساطة روايته التي تبدأ بزاوية النظر الاولى(محسن) مع توتر انفعالي ممزوج بقوة تدفق الذاكرة من خلال بؤر مكانية اسهمت في خلق زوايا نظر متعددة وسرد مستند الى ضمير الغائب الذي صار قناعا لضمير المتكلم(الراوي)..كي يحافظ على بؤرة ومسيرة السرد الداخلي المتكىء على اسلوبية شعرية معتمدة الزمن السردي المسترجع فشكل انطباعات على شريط الذاكرة بهيئة جمل قصيرة تنبعث نتيجة التداعي..
( أتدرك يامحسن ان لنا علاجات لكل شيء..ربما بعد عشرات السنين ستتحول هذه الاشياء البديلة الى آثار..لابد ان نتصور الصورة تاريخ وذاكرة..وربما ستكون انفع..الاغنية دليل مرحلة والصورة تبقى..الكتابة والصورة يخلدان المرحلة..أسمعه هذا الصوت الشجي( رديت وجدامي تخط قبل القلم..) ../ص95..
فالروائي يوظف النص الشعري الشعبي ويحوله الى مكون عضوي من مكونات النص الذي امتاز باتساع فضائه الذي يشمل الامكنة بتعددها(المغلق والمفتوح)..مع تنوع تقنيات السرد من وصف وحوار(ذاتي وموضوعي) وتعدد زوايا الرؤية المعلنة عن جمالية الحركة المتناوبة بين الزمكانية الطبيعية(الليل والنهار) والنفسية(مساحات الذاكرة التي فقدت الحس بالزمن..)وبانصهار المتناقضات تطفح بنية ايقاعية تتجاذب مع ثنائية مكونة مدارها الاكبر ولحنها الاوسع من خلال تجلي سلطة الراوي(الصوت غير المسموع الذي يقوم بتفصيل مادة الرواية الى المتلقي..) على حد تعبير عبدالله ابراهيم في (المتخيل السردي)..كونه يستطيع ان يدرك رغبات ابطاله الخفية فامتلك بذلك السلطة على الشخصية الحكائية..
وبذا فالرواية تقدم مجموعة من التداعيات التي تتوظف بقصدية لتعطي بعض التفسيرات المتسلطة على ذهن الراوي العليم بدءا بالطفولة والصبا ومرورا بالشباب ورغبة الحب المتفجرة..وانتهاء باليقظة والعمل الواعي والشعور بالمسؤولية وذلك عبر ساعة من الزمن الحالم الذي يبدأ من العاشرة وينتهي بنهايتها..
ـ محسن..محسن.. استيقظ لقد انتهت الساعة العاشرة الآن وعليك ان تبدأ بتشغيل المولدة..)../ص203..
لقد اتسمت هذه التجربة الروائية بالوصفية المثاقفة بي عناصر السرد كالحدث والحبكة والشخوص والزمكانية النفسية والطبيعية والحوار مع انقسام الانا الساردة الى انوات تنطلق نيابة عن(انا الراوي) الصامتة او المعلنة.