بين أيدينا الآن حدث من الأحداث المهمَّة جدًّا في تاريخ المسلمين؛ بل في تاريخ الأرض بصفة عامَّة.. وهو حدث ظهور قوَّة جديدة رهيبة على سطح الأرض في القرن السابع الهجري، وقد أدَّى ظهور هذه القوَّة إلى تغييرات هائلة في الدنيا بصفة عامَّة، وفي أرض الإسلام بصفة خاصة.
تلك القوَّة هي «دولة التتار»!
وقصَّة التتار عجيبة حقًّا؛ عجيبة بكل المقاييس، ولولا أنها مُوَثَّقة في كل المصادر -وبصورة تكاد تكون متطابقة في كثير من الأحيان- لقلنا: إنها خيال، أو أغرب من الخيال.
القصَّة عجيبة لأن التغيير فيها من ضعف إلى قوَّة، أو من قوَّة إلى ضعف لم يأخذ إلا وقتًا يسيرًا جدًّا؛ فما هي إلا أعوام قليلة جدًّا حتى يُعِزَّ الله دولة ويُذِلَّ أخرى، ثم تمرُّ أعوام أخرى قليلة فيُذِلُّ الله عز وجل الأولى ويُعِزُّ الأخرى!
{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[آل عمران: 26].
والقصَّة عجيبة -أيضًا- للمبالغة الشديدة في الأحداث: المبالغة في الأرقام في كل حدث؛ المبالغة في أعداد القتلى، وفي أعداد الجيوش، وفي أعداد المدن المنهارة، وفي مساحات البلاد المحتلَّة، وفي أعداد الخيانات وأسلوبها.
بداية ظهور دولة التتار:
ظهرت دولة التتار في سنة (603هـ=1206م) تقريبًا، وكان ظهورها الأول في «منغوليا» في شمال الصين، وكان أول زعمائها هو «جنكيزخان[1]»[2].
و«جنكيزخان» كلمة تعني: قاهر العالم، أو ملك ملوك العالم، أو القوي.. حسب الترجمات المختلفة للغة المنغولية، واسمه الأصلي «تيموجين»، وكان رجلًا سفاكًا للدماء، وكان كذلك قائدًا عسكريًّا شديد البأس، وكانت له القدرة على تجميع الناس حوله، وبدأ في التوسُّع تدريجيًّا في المناطق المحيطة به، وسرعان ما اتَّسعت مملكته؛ حتى بلغت حدودها من كوريا شرقًا إلى حدود الدولة الخُوارِزمية الإسلامية غربًا، ومن سهول سيبريا شمالًا إلى بحر الصين جنوبًا، أي أنها كانت تضم من دول العالم حاليًّا: (الصين، ومنغوليا، وفيتنام، وكوريا، وتايلاند، وأجزاء من سيبيريا، وذلك إلى جانب مملكة لاوس، وميانمار، ونيبال، وبوتان).
ويُطلق اسم التتار -وكذلك المغول- على الأقوام الذين نشئوا في شمال الصين في صحراء «جوبي»، وإن كان التتار هم أصل القبائل بهذه المنطقة، ومن التتار جاءت قبائل أخرى مثل قبيلة «المغول»، وقبائل «الترك» و«السلاجقة» وغيرها، وعندما سيطر «المغول» -الذين منهم جنكيزخان- على هذه المنطقة أُطلق اسم «المغول» على هذه القبائل كلها.
وكان للتتار ديانة عجيبة، هي خليط من أديان مختلفة؛ فقد جمع جنكيزخان بعض الشرائع من الإسلام، والمسيحية، والبوذية، وأضاف من عنده شرائع أخرى، وأخرج لهم في النهاية كتابًا جعله كالدستور للتتار؛ وسمى هذا الكتاب بـ«الياسك» أو «الياسة» أو «الياسق»[3].
وكانت حروب التتار تتَّسم بأشياء خاصَّة جدًّا؛ مثل:
1- سرعة انتشار مُدهشة.
2- نظام محكم وترتيب عظيم.
3- أعداد ضخمة من البشر.
4- تَحَمُّل ظروف قاسية.
5- قيادة عسكرية بارعة.
6- أنهم بلا قلب!
فكانت حروبهم حروب تخريب غير طبيعية؛ فكان من السهل جدًّا أن ترى في تاريخهم أنهم دخلوا مدينة كذا أو كذا فدمَّرُوا كل المدينة وقتلوا سُكانها جميعًا؛ لا يُفَرِّقُون في ذلك بين رجل وامرأة، ولا بين رضيع وشاب، ولا بين صغير وشيخ، ولا بين ظالم ومظلوم، ولا بين مَدني ومحارب! إبادة جماعية مرعبة، وطبائع دموية لا تصل إليها أشدُّ الحيوانات شراسة.
وكما يقول الموفَّق عبد اللطيف[4] في خبر التتار: «وكأن قصدهم إفناء النوع، وإبادة العالم، لا قصد الملك والمال»[5].
7- رفض قبول الآخر، والرغبة في تطبيق مبدأ «القطب الواحد»! فليس هناك طرح للتعامل مع دول أخرى محيطة؛ والغريب أنهم كانوا يتظاهرون -دائمًا- بأنهم ما جاءوا إلاَّ ليُقيموا الدين، ولينشروا العدل، وليُخَلِّصُوا البلاد من الظالمين!
8- أنهم لا عهد لهم؛ فلا أيسر عندهم من نقض العهود وإخلاف المواثيق.. {لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً}[التوبة: 10]، كانت هذه صفة أصيلة مُلازمة لهم، لم يتخلَّوْا عنها في أي مرحلة من مراحل دولتهم منذ قيامها إلى أن سقطت.
هذه هي السمات التي اتَّصف بها جيش التتار، وهي صفات تتكرَّر كثيرًا في كل جيش لم يضع في حسبانه قوانين السماء وشريعة الله عز وجل؛ فالذي يملك القوَّة ويفتقر إلى الدين لا بُدَّ أن تكون هذه صورته؛ قد يتفاوتون في الجرائم والفظائع، لكنهم في النهاية مجرمون.
كانت حروب المرتدِّين قريبًا من هذا، كذلك حروب الفرس، وكذلك كانت حروب الرومان، وكذلك كانت حروب الصليبيين في الشام ومصر، وكذلك كانت حروب الصليبيين في الأندلس، ثم سار على طريقتهم بعد ذلك أتباعهم من المستعمرين الإسبان والبرتغال والإنجليز والفرنسيين والطليان واليهود.. ثم الأميركان!
قد يختلف الشكل الخارجي، وقد تختلف الوجوه والأجسام، لكنَّ القلوب واحدة؛ حقد وضغينة وشحناء وبغضاء على كل ما هو مسلم، أو كل ما هو حضاري.
وسبحان الله! إذ يقول في حقهم جميعًا: {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ}[الذاريات: 53].
[1] جنكيز خانتيموجين (550-624هـ = 1155-1226م):وُلد في «منغوليا في دولون بولداق، توجد اليوم في الأراضي الروسية»، أراد التوسع على حساب ممتلكات التتار، وكان النصر في صالح تيموجين سنة (600هـ) نودي به خاقانًا، وعُرف باسم «جنكيز خان»؛ أي إمبراطور العالم.
[2] ابن الأثير: الكامل في التاريخ 10/335، 336.
[3] انظر: حافظ حمدي: الدولة الخوارزمية والمغول ص128، بسام العسلي: المظفر قطز ومعركة عين جالوت ص86.
[4] الموفق عبد اللطيف (557-629هـ= 1162-1231م): موفَّق الدين عبد اللطيف بن يوسف البغدادي، المعروف بابن اللَّبَّاد، من فلاسفة الإسلام، كان عالمًا بأصول الدين والنحو واللغة والطب والفلسفة والتاريخ، في غاية الذكاء شافعيًّا محدثًا، وأحد العلماء المكثرين
من التصنيف. انظر: السيوطي: حسن المحاضرة في تاريخ مصر والقاهرة 1/541، والسبكي: طبقات الشافعية الكبرى 8/ 313، والزركلي: الأعلام 4/ 61.
[5] السيوطي: تاريخ الخلفاء ص403.
د. راغب السرجاني