تطورت العمارة الإسلامية العثمانية في عهد الخليفة سليم الأول بن السلطان أبا يزيد بن محمد الفاتح، واستمرت سلطنة سليم الأول ثمان سنوات من سنة 918 هـ/ 1512م حتى سنة 926 هـ/ 1520م، ونال بيعة الخلافة الإسلامية بعدما فتح القاهرة سنة 923 هـ/ 1517م، ونظرا لكثرة الحروب في عهده مع المماليك والصفويين والأوروبيين والروس، وقصر مدة حكمه فقد كان عدد منشآته العمرانية قليلا بالقياس إلى ما بُني في عهد والده السلطان أبا يزيد الثاني، أو جده السلطان محمد الفاتح يرحمهم الله تعالى.
المنشآت العمرانية في عهد سليم الأول:
أما الأبنية التي شيدت في عهد الخليفة العثماني سليم الأول فهي عبارة عن مساجد وجوامع بلغ عددها: 37، وكُتّاب بلغ عددها:10، ومدارس ومكتبات بلغ عددها: 7، وعمارات حكومية بلغ عددها: 2، وزوايا وتكايا وخانقاهات بلغ عددها: 6، وتُرب وأضرحة بلغ عددها: 8، وحمامات بلغ عددها: 3، وأسبلة شرب وتأسيسات مياه بلغ عددها: 14، وجسران، وقلعتان، وسراي واحدة.
وبذلك بلغ عدد المنشآت المعمارية في عهده: 92 منشأة، مازالت 21 منشأة منها قيد الاستعمال، و38 منشأة موجودة. والباقي تعرض للخراب.
وسبب قلة عدد المنشآت العمرانية في عهد السلطان سليم الأول كثرة الحروب مع أعداء السلطنة العثمانية من صفويين ومماليك وأوروبيين وبكتاشيين محليين، فلما جاء السلطان سليم الأول إلى الحكم، وشعر بتآمر الدول المحيطة بالسلطنة قرر توحيد بلاد المسلمين، فكسر شوكة الفُرس والصفويين وفتح بلادهم بعد ظفره في معركة جالديران، وبعدها دخل عاصمتهم تبريز سنة 920هـ/ 1514م، وفي سنة 922 هـ/ 1516م انتصر السلطان سليم على المماليك في معركة مرج دابق شمالي حلب، ثم دخل القاهرة سنة 923هـ/ 1517م، و أخذ الخلافة من محمد المتوكل على الله العباسي، و منذ تلك السنة صارت إسلامبول عاصمة الخلافة الإسلامية العثمانية.
وهكذا انتقلت عاصمة الخلافة من بغداد الآسيوية إلى القاهرة الإفريقية إلى إسلامبول الأوربية، وبسبب انشغال السلطان سليم الأول بالحروب لم يُخلف لنا سوى 92 مُنشأة معمارية توزعت في البوسنة وبلغاريا واليونان والقرم وسوريا وتركيا وحازت سرايفو خمس مُنشآت بينما حازت إسلامبول ثمانية عشر (18) مُنشأة.
نماذج الهندسة المعمارية في عهد سليم الأول:
جامع أبو شنب:
ولقد استمرت نماذج الهندسة المعمارية في عهد السلطان سليم الأول كما كانت في عهد والده من حيث التنوع، وظهر نوع مبتكر جديد في عهده حيث بني جامع أبو شنب "بيقلي" محمد باشا في مدينة ديار بكر سنة 921هـ/ 1515م، وامتاز هذا الجامع بسقف مكون من قبة دائرية كبيرة وسطى ترتفع على أربعة قناطر مرتفعة على أربع بوائك من النوع المسمّى: قوائم الفيل، وتحيط بالقبة الوسطى أربع قباب نصف دائرية أقل ارتفا، وترتفع على الزوايا الخارجية الأربعة أربعة قباب دائرية صغرى، وتجاور القبتان الخلفيتان قبتان دائريتان متوسطتان إحداهما عن يمين؛ والثانية عن شمال، وعلى يمين القبة المتطرفة اليمينية توجد المئذنة. ورواق الجامع مكون من سبع قباب دائرية ترتفع على جدار مدخل الجامع وثمانية أعمدة تصل بينها القناطر التي تحمل قباب الرواق.
مسجد وتكية وتربة محيي الدين بن عربي:
بعدما فتح السلطان سليم الأول مدينة دمشق وحررها من سلطة قانصو الغوري المملوكي عميل الشاه إسماعيل الصفوي سنة 922هـ/ 1516م، اهتم بمنطقة الشيخ محيي الدين بن عربي في حي ركن الدين فبنى فيها سنة 924 هـ/ 1518م؛ مسجد محيي الدين، وقد وضع المنبر في جامعه في 20 محرم سنة 924هـ؛ الموافق للثاني من شباط/ فبراير سنة 1518م. وبنى بمقابل المسجد تكيته ذات القبة الوحيدة التي تبلغ أبعادها: (ثمانية أمتار و35 سم × عشرة أمتار و70 سم) وشيّد أيضًا عمارة دار ضيافته وهي ذات قبة مماثلة لقبة التكية، ويلحق بها مطبخه. وتضم التكية تربة محيي الدين بن عربي، وقد عُين في التكية الناظر تقي الدين باكير الرومي سنة 926هـ/ 1520م، وفي تلك السنة كانت وفاة الخليفة العثماني سليم الثاني، وقد رممت تلك الأبنية في عهد ولده السلطان سليمان القانوني سنة 962هـ/ 1555م.
مسجد مدينة موستار:
وبنى السلطان سليم الأول مسجدا في الناحية الجنوبية من رأس جسر مدينة موستار الشرقي في البوسنة والهرسك، وقد تم تحويله إلى متحف في العهد الشيوعي اليوغوسلافي، ثم تعرض للخراب حينما دمر الصرب والكروات جسر موستار أثناء الحرب الأخيرة.
جامع الغازي المجاهد محمد بيك بن عيسى بيك:
ومن المنشآت التي بنيت في مدينة سراييفو في عهد السلطان سليم الأول منشآت محمد بيك بن عيسى بيك. وهي تقع على قارعة شارع مدرسة بستريك حيث يوجد جامع الغازي المجاهد محمد بيك بن عيسى بيك، ويبلغ طوله في الداخل من الباب إلى المحراب أحد عشر متر وخمسة وثمانين سنتمترًا، ويبلغ عرضه ثمانية أمتار وخمسة وتسعين سنتمترًا، أما جدرانه فتبلغ سماكتها خمسة وسبعين سنتمترا، وفي صدر الجامع يوجد محراب مُتقن الصنعة تعلوه زخارف إسلامية بديعة على شكل مدليات تتراكب في أربعة أنساق، وعلى يمين المحراب يوجد المنبر وهو آية من آيات الجمال الزخرفي الإسلامي، وفي كل واجهة توجد أربع نوافذ على صفين أحدهما موازٍ للباب والمحراب، والثاني موازٍ للمحفل وما فوق الباب والمحراب، وفي الخلف يوجد محفل المؤذنين على يمين وشمال المدخل، ويعلو المحفل مصلى النساء المستند على الجدران وأربعة أعمدة، وعلى يمين البناء تشمخ المئذنة المبينة من الحجر، ولها شرفة واحدة، أما قاعدة المئذنة فمربعة، ولكن المئذنة أسطوانية الشكل متعددة الأضلاع، وللمئذنة باب يؤدي إلى داخل محفل الجامع.
وأمام مدخل جامع الغازي محمد بيك يوجد رواق مستند على جدران الجامع الخلفي، وعلى ثمانية أعمدة خشبية، وسقف الرواق كسقف الجامع مصنوع من الخشب وهو هرمي الشكل، وتعلوه طبقة من القرميد، وفوق المدخل كتبت عبارة (النجاة في الصدق) وتحتها رخامة تعلو الباب مكتوب عليها (صاحب الخيرات والحسنات غازي محمد بيك سنة ست وعشرين وتسعمائة للهجرة).
غير أن الرحالة أوليا جلبي قد زار الجامع ودوّن لنا في كتابه "سياحة نامة" ثلاثة أبيات ليست لها وجود حاليًا وهي:
ابنُ عيسى بك مُحمد قد بَنَى
جامعًا للقائمين الخاشعين
كان موصوفًا بعدلٍ وسَخَاْ
وهو في الدُّنيا أمينُ السائلين
قيلَ تأريخًا لهذا الجامع:
معبدُ الأعيانِ دارُ العارفين
ويستخلص من الشطر الأخير بحساب الجُمل أن البناء قد بني سنة 926هـ/ 1520م.
لم تقتصر جهود المرحوم محمد بيك بن عيسى بيك على بناء الجامع بل بنى مدرسة لتعليم الطلاب؛ كما بنى خانقاه للزهاد والعابدين، ولكن المدرسة والخانقاه قد تعرضتا للدمار جراء المصائب التي تتالت على سرايفو التي تعرضت للعدوان النسماوي المجري، والعدوان الألماني، والعدوان الشيوعي، ثم تعرضت للعدوان الصربي الذي استهدف الرموز الإسلامية بقنابله الفظيعة، ومازال اسم شارع المدرسة يحمل نفس الاسم في المكان الذي كانت فيه المدرسة الأولى.
نشر بجريدة الحياة اللندنية، العدد:16243. في 12 رمضان سنة 1428هـ / 23 سبتمبر 2007م، ص21.