أصبح التتار في غزة على مسافة تقل عن خمسة وثلاثين كيلومترًا فقط من سيناء، وبات معلومًا للجميع أن الخطوة التالية المباشرة للتتار هي..... احتلال مصر!

وهذا أمر لا يحتاج إلى كبير ذكاء! فالمتتبع لخط سير التتار سيدرك على وجه اليقين أن مصر ستكون هدفًا رئيسيًا لهم، وذلك لعدة أسباب منها:

أولًا:
سياسة التتار التوسعية واضحة، وهم لا ينتهون من بلد إلا ويبحثون عن الذي يليه، ومصر هي التي تلي فلسطين مباشرة.

ثانيًا:
لم يبق في العالم الإسلامي بأسره قوَّة تستطيع أن تهدد أمن التتار إلا مصر، فقد سقطت كل الممالك والحصون والمدن الإسلامية تقريبًا، وبقيت هذه المحطة الأخيرة.

ثالثًا:
مصر ذات موقع إستراتيجي في غاية الأهمية، فهي تتوسط العالم القديم، وخطوط التجارة عبر مصر لا تخفي على أحد.

رابعًا:
مصر بوابة إفريقيا، ولو سقطت مصر لفتح التتار شمال إفريقيا بكامله، وشمال إفريقيا لم يكن يمثل أي قوَّة في ذلك الوقت، لأن وصول التتار إلى الشام كان متزامنًا مع سقوط دولة الموحدين بالمغرب سقوطًا كاملًا، وتفكك الشمال الأفريقي المسلم إلى ممالك متعددة صغيرة، ولو سقطت مصر فلا شك أن كل هذه الممالك ستسقط بأقل مجهود.

خامسًا:
الكثافة السكانية الكبيرة في مصر، فقد كان سكانها يبلغون أضعاف سكان المناطق الإسلامية الأخرى.

سادسًا:
الحمية الدينية والصحوة الإسلامية عند أهل مصر عالية.. بل عالية جدًّا.. ويخشى التتار أنه لو تولى أحد الصالحين المجاهدين قيادة هذا البلد كثيف العدد، شديد الحمية، المحب للإسلام، والغيور على حرمات الدين، أن تتغير الأوضاع، وتتبدل الأحوال، ويهتز وضع التتار في المنطقة بأسرها.

لهذه الأسباب -وقد يكون لغيرها أيضًا-كان التتار يعدون العدة للانتقال من فلسطين إلى مصر، ومع متابعة سرعة انتقال التتار من بلد إلى بلد، فإن المراقبين للأحداث لا بُدَّ أن يدركوا أن تحرك التتار إلى مصر سيكون قريبًا، بل قريبًا جدًّا، حتى لا يعطي التتار الفرصة لمصر للتجهز للحرب الحتمية القادمة.

ولكن كيف كان الوضع في مصر عند احتلال التتار للشام وفلسطين؟

الوضع المصري:
كان الوضع في مصر عندما بدأ التتار في اجتياح الشام والاقتراب من الديار المصرية متأزمًا جدًّا.. فالمسرح السياسي الداخلي كان يموج بالاضطرابات العاصفة، والأزمات الشديدة.. وكانت الفتن الناتجة عن التصارع على كرسي الحكم -وخاصة في السنوات العشر الأخيرة بعد موت الملك الصالح- عنيفة ومتكررة.. نعم استقرت الأوضاع نسبيًا عندما تولى الملك المعز عز الدين أيبك، وذلك لفترة سبع سنوات متصلة، ولكنها عادت من جديد للاشتعال بمقتل الملك المعز ثم شجرة الدر، ثم ولاية الطفل نور الدين علي الهزلية.

وفي ضوء الخطر التتري الرهيب، والمشاكل الداخلية الطاحنة، واضطرابات وثورات المماليك البحرية، وأطماع الأمراء الأيوبيين الشاميين.. لم يجد سيف الدين قطز[3] أي معنى لأن يبقى السلطان الطفل «نور الدين علي» على كرسي أهم دولة في المنطقة، وهي مصر، والتي لم يعد هناك أمل في صد التتار إلا فيها.

وجد قطز أن السلطان الطفل مشغول باللهو عن أمور الحكم، وأن بعض أمراء المماليك يستغلون ذلك في التدخل في أمور الحكم، والتتار يهددون مصر بالاجتياح؛ فقام بعزله بعد موافقة العلماء، وأعلن نفسه سلطانًا على مصر.

وإن كان قطز الآن قد استقر على كرسي الحكم لكن لا شك أن هناك الكثير من الطامعين في الكرسي، ولا شك -أيضًا- أن هناك الكثير من الحاقدين على قطز شخصيًا، ومن المؤكد أن هؤلاء وهؤلاء سوف يتحركون -أو يحاولون التحرك- لإقصاء قطز عن العرش، أو قتله إذا لزم الأمر... كما اعتاد كثير من المماليك أن يفعلوا.

كما أن الفتنة ما زالت دائرة بين المماليك البحرية الصالحية الذين كانوا يؤيدون شجرة الدرّ والمماليك المعزية الذين يؤيدون الآن سيف الدين قطز، وقد فرّ كثير من المماليك البحرية إلى مختلف الإمارات الإسلامية في الشام، ومن بقي منهم في مصر بقي على وجل وترقب.. وهذا الانقسام -بلاشك- أضعف القوَّة العسكرية المصرية؛ لأن المماليك البحرية كانوا أساس الجيش المصري في ذلك الوقت.

وإذا كان الوضع السياسي والعسكري داخل البلاد على هذه الصورة الخطيرة فإن المسرح السياسي الخارجي كان يحمل مشكلات أخرى كبيرة.. ذلك أن العلاقات كانت ممزقة تمامًا بين مصر وبين كل جيرانها بلا استثناء.. فالعلاقات الدبلوماسية مع كل إمارات الشام كانت مقطوعة تمامًا، بل كانت روح العداء الشديد هي السائدة بين الطرفين، كما لم يكن لمصر أي سند من دول الشمال الأفريقي أو السودان.. ومعنى هذا أن هذه العزلة المقيتة ستسهّل جدًّا على الوحش التتري مهمة ابتلاع مصر كما فعل بأشياعها من قبل.

ولم يكن الوضع الاقتصادي في مصر بأحسن حالاً من الوضع السياسي أو الاجتماعي؛ فهناك أزمة اقتصادية طاحنة تمر بالبلاد من جراء الحملات الصليبية المتكررة، ومن جراء الحروب التي دارت بين مصر وجيرانها من الشام، ومن جراء الفتن والصراعات على المستوى الداخلي.. كما أن الناس انشغلوا بأنفسهم وبالفتن الداخلية والخارجية فتردّى الاقتصاد إلى أبعد درجات التردي، وباتت البلاد على حافة هاوية سحيقة شبه مؤكدة.

كل هذا وأعداء الأمة قد اجتمعوا عليها، وبضراوة شديدة، فهناك الغرب الصليبي الحاقد جدًّا والذي مُني بهزائم قاسية مخزية في مصر منذ عشر سنوات تقريبًا في المنصورة وفارسكور، ولاشك أن الصليبيين يريدون الثأر والانتقام، وقد يجدون أن الاضطرابات الأخيرة في مصر فرصة سانحة لرد الاعتبار، ولتحقيق أحلام الغزو.

وهناك الإمارات الصليبية المزروعة في فلسطين منذ عشرات السنين.. وفوق كل ذلك هناك الهم الكبير القادم من الشرق.. وهو التتار.

وهكذا استلم سيف الدين قطز هذه التركة المثقلة بالهموم والمشاكل.

فكيف تصرف الملك المظفر قطز مع هذا الوضع شديد التأزم؟!

وما هي خطواته التي خطاها من أجل التغيير؟!

وما هو الإعداد الذي قام به لمواجهة الهجمة التترية الشرسة؟!

هذا ما نتعرف عليه إن شاء الله في المقالات القادمة.



[3] سيف الدين قطز (ت658 هـ): هو سيف الدين قطز بن عبد الله التركي، أخص مماليك الملك المعزّ أيبك التركماني، أحد مماليك السلطان الملك الصالح نجم الدين أيوب، بيع مملوكًا في سوق الرقيق، ثم انتقل إلى الشام ومنها إلى مصر، واسمه الحقيقى محمود بن مودود ابن أخت جلال الدين خوارزم شاه السلجوقي، بطل معركة عين جالوت 658هـ وكاسر التتار، قال الملك المؤيَّد: وكان مدة سلطنته أحد عشر شهرًا وثلاثة عشر يومًا.


د. راغب السرجاني