القُرآن يُفَسّرُهُ الزَّمان,,
يتّفق المصلحون من عُلماء الاُمّة في العصر الحديث على أنّ إيقاظ الاُمّة واستنهاضها لن يتحقّق من دون العودة إلى القرآن الكريم والتمسّك به ، ويشدّد هؤلاء العلماء على ضرورة وعي القرآن وعياً جديداً يتحرّر من ترسّبات التأويلات المتنوّعة التي حجبتْ النص القرآني ، وحالتْ بينه وبين إنارة وجدان المسلم .
وقد وجد هؤلاء المصلحون أنّ دعوتهم لإعادة النظر في تفسير القرآن ، والعمل على صياغة تفسير حديث يبرّرها ـ مضافاً إلى ما تقدّم ، من اصطباغ التفسير وتلوّنه بالأفق الذهني للمفسّر ـ أنّ الأُطر التقليدية للتفسير لا تتّسع لتحوّلات العصر ومستجدّاته واستفهاماته ، والقرآن كتاب لا يختصّ بزمان دون زمان ، ولا يُعنى بمشكلات قوم دون سواهم ؛ ( لأنّ الله تبارك وتعالى لم يجعله لزمان دون زمان ، ولا لناس دون ناس ، فهو في كلّ زمان جديد ، وعند كل قوم غض إلى يوم القيامة )(1) ، كما قال الإمام الرضا (عليه السّلام) .
كما أنّ المكاسب التي جناها العلم الحديث في اكتشاف عالم الطبيعة ، والتعرّف بصورة أدق على سنن النفس والمجتمع ، وتطوّر البحث في مجال علم اللغة والدلالة ، ستساهم في التعرّف على مداليل آيات القرآن بصورة أجلى وأدق ؛ لأنّ القرآن الكريم يهدف إلى البناء الأمثل للاجتماع البشري ، ولذلك يعالج في مساحة واسعة منه سنن هذا الاجتماع ، فيلتقي القرآن مع العلم في بلوغ النموذج السَّليم للاجتماع البشري(2) , مضافاً إلى أنّ معطيات العلم يمكن توظيف بعضها ، خاصة العلوم الإنسانية ، في استكناه شيء من مداليل النص القرآني .
وبتعبير آخر أنّ بموازاة كتاب الوحي القرآني هناك كتاب ثانٍ هو كتاب الطبيعة الذي يتضمّن ظواهر الوجود الكوني كافّة ، ( فالقرآن العظيم والكون البديع كلاهما يدلّ على الآخر ويرشد إليه ، ويقود إلى قواعده وسننه ، فالقرآن يقود إلى الكون ، والكون أيضاً يقود إلى القرآن )(3) ، وهذا يعني وجود تناغم واتّساق بين نواميس الطبيعة وسنن الاجتماع البشري من جهة , ومعطيات القرآن الكريم ومدلولاته من جهة أخرى ، وأنّ الأبعاد الغائبة والمداليل الخفيّة في كتاب الوحي ستتجلّى بالتدريج تبعاً لِمَا يتجلّى في كتاب الكون وما يزخر به من ظواهر ، ولعلّ في الحديث المنقول عن ابن عبّاس ( إنّ القرآن يفسّره الزمان )(4) ما يشي بهذه الحقيقة .
غير أنّ ذلك لا يتحقّق وُِفق عملية دمج تبسيطية ، مثلما تفتعل ذلك بعض الكتابات التي تبالغ في توظيف معطيات العلم وفرضيّاته ، وتسعى لقراءة النص القرآني قراءة عاجلة ، تسرف في الافتراض والشطط ، وإنّما يتوقّف ذلك على اكتشاف ( العلاقة المنهجية بين الناظم المنهجي لآيات القرآن من ناحية ، وبين السنن والقوانين المبثوثة في الوجود من ناحية ثانية ، مع الناظم المنهجي الذي يربط بينهما )(5) .
المصادر:
(1) محمد باقر المجلسي . بحار الأنوار . ج92 : ص15 .
(2) الشهيد مرتضى المطهّري : التعرّف على القرآن : ترجمة : محمّد جواد المهري ، طهران : 1982م ، ص26 .
(3) د . طه جابر العلواني : الجمع بين القراءتين : قراءة الوحي وقراءة الكون ، القاهرة : المعهد العالمي للفكر الإسلامي ، 1417ه ـ 1996م ، ص15 .
(4) ذكر هذا الحديث الشيخ جعفر السبحاني في كتابه : مفاهيم القرآن : ج1 ، ص19 . عن كتاب : النواة في حقل الحياة . لمفتي الموصل الشيخ العبيدين .
(5) د . طه العلواني : مصدر سابق : ص18 .
اعداد: سيد مرتضى محمدي