هنا

[شذى الربيع]

عالمنا ذلك الغريب: أحافير من ورق

عالمنا ذلك الغريب.
قيمنا … الصدق، الشجاعة، والمروءة؛ تلك التي صارت كالأحافير القديمة وقد نراها في المتاحف قريبًا مع شرح لما كانت عليه.
دليل بشريتنا وأعظم ما امتلكه الإنسان يومًا: المعرفة ومرادفها الساحر… الكتاب! الكتاب وصفحاته الرقيقة الهامسة كبتلات الزهور، الحادة الصارخة كالأمواس، والمزينة بالحروف الملتوية وعطر المطابع الأزلي: الحبر! الحبر … عبق التاريخ نفسه. الطين البركاني الأحمر الذي غمس فيه الإنسان الأول أصابعه ورسم على جدران الكهوف حياته؛ صبغة الكربون وأكسيد الحديد والسكر التي خطت بها الطابعات القديمة والحاديثة ملايين الكتب. سجلات بشريتنا… إلى المتاحف والمعارض الفنية!

كوخ إيجلو الكتب



كما يبني سكان إنويت أو الإسكيمو بيوت الإيجلو Igloo من قطع الجليد والثلج المنحوتة في شمال الكرة الأرضية، لم يجد الفنان الكولومبي ميلر لاجوس Miler Lagos إلا الكتب لصنع إيجلو من نوع خاص ومهيب. لا أعلم القيمة الفنية وراء هذا العمل، لكني أنظر إلى الكتب باعتبارها خسارة فادحة لأنك لا تستطيع سحب كتاب واحد وإلا انهار كل شيء. هذا أشبه بما كانوا يفعلونه قديمًا في صعيد مصر عندما كانوا يحرقون المومياوات الأثرية التي لا تقدر بثمن الآن لصنع بضع أكواب من الشاي!

متاهة الكتب
أثناء أوليمبياد لندن للألعاب الصيفية 2012، كانت تقام تلك الفعاليات التي كان يحلو لهم أن يسموها “أدبية” و”فنية” ويعقدوها على هامش الحدث الرياضي الضخم. ومن ضمنها كان هذا العرض الفني لمتاهة ضخمة من تصميم وتشييد الفنانان البرازيليان ماركوس سابويا Marcos Saboya وجوالتر بوبو Gualter Pupo، تحت عنوان “أبهرني aMAZEme” بدمج كلمة متاهة بالانجليزية Maze مع فعل Amaze للحصول على اسم شيق ربما.

كم كتاب تطلب الأمر لصنع هذه الحوائط المرتفعة؟ 250 ألف كتاب في مختلف المجالات، منها الجديد ومنها المستعمل، وأغلبها تمت استعارته من مكتبة أوكسفام Oxfam، ثم تمت إعادتها مرة أخرى عقب انتهاء المعرض.

وبالطبع فالإحصائيات التي سنخرج بها من هذا العرض لن تتضمن أي أرقام تتعلق بالقراءة أو الاستفادة بالمعارف التي يضمها كل كتاب بين جلدتيه. المتاهة غطت مساحة تقدر بـ 500 متر مربع (نصف كيلو متر كامل)، بجدران ارتفعت لمسافة 2.5 متر للأعلى. ومرة أخرى، كان هذا عرض لتلمس الكتب من الخارج وشم رائحة ورقها الأصفر دون أن يجرؤ أحدهم على تناول كتاب واحد وفتحه!

عندما مات أبي، بدا الأمر وكأنما قد قام أحدهم بحرق مكتبة كاملة
الرؤية القادمة كابوسية إلى حد كبير. فقد قامت الفنانة السويدية سوزانا هيسلبيرج Susanna Hesselberg ببناء هذه المكتبة المشئومة والموحية بالنذر في قلب التربة وكأنما هي فم قبر أو فوهة منجم صغير.


ثم أن الفنانة قد اختارات اسمًا عظيمًا هو الآخر لتحفتها الفنية:
عندما مات أبي، بدا الأمر وكأنما قد قام أحدهم بحرق مكتبة كاملة!
!When My Father Died It Was Like a Whole Library Had Burned Down
لا، لم يمت أباها كما اعتقدت أنا أيضًا في بداية الأمر. فبعد قليل من البحث وجدت أن أغنية معينة لـ لوري أندرسون Laurie Anderson، هي ما أوحت لها على ما يبدو بهذا التصميم. الأغنية كئيبة وإن كانت مؤثرة وموحية بالفعل وتحمل اسم “عالم بلا نهاية”، وفيها تمارس لوري أندرسون طريقتها المميزة في الغناء … هذا إن كنت تطلق على السرد بطريقة الحكاية غناء بالطبع.
عندما مات أبي، دفناه عميقًا في الأرض

عندما مات أبي، بدا الأمر وكأنما قد قام أحدهم بحرق مكتبة كاملة!
هل هي نظرة تشاؤمية بالفعل لمستقبلنا؟ مستقبل بلا كتب مادية إلا في المتاحف والمكتبات العتيقة التي تجمع الغبار لا أكثر؟
قد يبدو هذا السيناريو مستبعدًا ومستهجنًا بدرجة تستمرئ مهاجمته ودحضه بلا تفكير، لكن من قال أننا نتكلم عن مستقبلنا نحن؟ هذا مستقبل جيل الأجهزة اللوحية وقوارئ كيندل التي ستحل محل الكتب في النهاية لأسباب عديدة ليس الحفاظ على شجر الأرض أهمها.

وحتى هذا الحين، سأنعم بحمل ومطالعة ما لدي من كتب وسماع حفيف أوراقها بينما أقلبها في عناية، قبل أن تتحول لمجرد ملفات PDF أو ePUB بلا رائحة أو ذكريات تتراكم بمرور الوقت!

[بٰـہٰٖغٰـہٰٖدآديٰـہٰٖة]

لجهودك باقات من الشكر والتقدير
على المواضيع الرائعه والجميلة