الزهاوي شاعر العقل .. ومعرّي العصر
الزهاوي شاعر العقل .. ومعرّي العصر
مرّت علينا الذكرى السنوية لرحيل الشاعر الكبير جميل صدقي الزهاوي، ذلك المؤسس وبامتياز لحركة التجديد وبشهادة كلّ معاصريه، فالقصيدة عند الزهاوي لم تكن شعراً ينظمه ليقرأه على الملأ، إنما كانت لديه حقيبة مليئة بالأسئلة والمشاريع لا تنغلق في موضع إلا وتفتح في موضعٍ آخر، فقد خرج من ضيق التقاليد التي كبلت الشعر لقرون إلى الفضاء الواسع متناسيا المبالغات ومسايراً لروح العصر.
فالزهاوي وكما عبّر عنه الكاتب الكبير طه حسين عندما توفاه الأجل “إنه لم يكن شاعر العربية فحسب، ولا شاعر العراق، بلّ هو شاعر مصر وغيرها من البلدان، إذاً فليس العراق وحده هو الذي يحزن على الزهاوي، وإنما مصر أيضاً ،فقد كان مربياً لهذا الجيل الشعري، و كان شاعر العقل، وكان معرّي هذا العصر، ولكن المعرّي الذي اتصل بأوروبا والعلم الحديث”.
كما يعدّ الزهاوي ثاني اثنين من شعراء العراق، اللذين كانا حديث الشعراء والنقاد وكان لهما الأثر الكبير في حياة العامة في العراق، فقد كان مع الرصافي يتنافسان فيما بينها منافسة شريفة في إثبات الذات والتباهي في الخدمة العامة، فقد سيطرت على ميدان الأدب خصومتهما الدائمة وصلحهما المؤقت وقد وصل صيتهما إلى كلّ البلدان العربية.
وقد شغل الزهاوي دوراً كبيراً في تغيير مجرى بناء الدولة الوطنية، وكان مؤثراً في أقدار السياسة والثقافة والمجتمع في إطار العقلانية والمنطق، فقد كان شغوفاً بالحرية إلى حد بعيد، ونادى بحرية الفكر وحرية الاعتقاد والقول والنشر وحرية المرأة الشرقية.
والزهاوي لم يقتصر جهده في حقول الشعر ورياض الأدب، و إنما تعداه إلى ميادين الفلسفة والفلك والطبيعيات، وألف فيها كتب وناظر رجالاتها وجادلهم، حتى انه رد على نظرية نيوتن حول الجاذبية، مبينا إنّ المادة لا تجذب المادة كما يقول نيوتن، بلّ تدفعها، وذهب مذهباً إصلاحياً، فقد اخترع حروفاً عربية على أساس إنّ الحروف العربية لا تصلح للكتابة، ودعا إلى استخدام العامية في التأليف والبحث.
والزهاوي هو ابن محمد فيضي ابن أحمد بن حسن بن رستم بن خسرو ابن الأمير سليمان الزهاوي، وهو شاعر وفيلسوف عراقي كبير كردي الأصل, وقد عرف بالزهاوي منسوبا إلى بلدة (زهاو) من أعمال ولاية كرمنشاه، وكانت موطناً لأسرته في العهد الأخير.
ولد جميل الزهاوي في بغداد يوم الأربعاء في 18 حزيران عام 1863، و بها نشأ ودرس على أبيه وعلى علماء عصره، وعيّن مدرساً في مدرسة السليمانية ببغداد عام 1885م، وهو شاب ثم عين عضواً في مجلس المعارف عام 1887م، ثم مديراً لمطبعة الولاية ومحرراً لجريدة الزوراء عام 1890م، وبعدها عين عضواً في محكمة استئناف بغداد عام 1892م، وسافر إلى إستانبول عام 1896م، فأعجب برجالها ومفكريها وتأثر بالأفكار الغربية، وبعد الدستور عام 1908م، عين أستاذاً للفلسفة الإسلامية في دار الفنون بإستانبول ثم عاد لبغداد، وعين أستاذا في مدرسة الحقوق، وانضم إلى حزب الاتحاديين، وأنتخب عضوا في (مجلس المبعوثان) مرتين، وعند تأسيس الحكومة العراقية عين عضواً في مجلس الأعيان، ونظم الشعر بالعربية والفارسية منذ نعومة أظفاره فأجاد واشتهر به.
وكان له مجلس يحفل بأهل العلم والأدب، وأحد مجالسه في مقهى الشط، وله مجلس آخر يقيمه عصر كلّ يوم في قهوة رشيد حميد في الباب الشرقي من بغداد، واتخذ في آخر أيامه مجلساً في مقهى أمين في شارع الرشيد وعرفت هذه القهوة فيما بعد بقهوة الزهاوي، وكان من المترددين على مجالسه الشاعر معروف الرصافي، والأستاذ إبراهيم صالح شكر، والشاعر عبد الرحمن البناء، وكانت مجالسه لا تخلو من أدب ومساجلة ونكات ومداعبات شعرية، وكانت له كلمة الفصل عند كلّ مناقشة ومناظرة، ولقد قال فيه الشيخ إبراهيم أفندي الراوي وفي قرينه الرصافي: مقال صحيح إن في الشعر حكمة وما كلّ شعر في الحقيقة محكم وأشعر أهل الأرض عندي بلا مرا جميل الزهاوي، والرصافي.
كان الزهاوي معروفاً على مستوى العراق والعالم العربي، بجرأته وصلابته طوحه وثباته على مواقفه، فاختلف مع الحكّام عندما رآهم يلقون بالأحرار في غياهب السجن ومن ثم تنفيذ أحكام الإعدام بهم فنظم قصيدة في تحيّة الشهداء مطلعها
على كلّ عود صاحب وخليل وفي كل بيت رنة وعويل
وفي كل عين عبرة مهراقة وفي كل قلب حسرة وعليل
وله عدة دوواوين هي: الكلم المنظوم ـ صدر في بيروت سنة 1908، ديوان الزهاوي ـ صدر في القاهرة 1924، الرباعيات ـ صدر في بيروت 1924، ديوان اللباب ـ صدر في بغداد 1928، ديوان الأوشال ـ صدر في بغداد 1934، وفي أخر الديوان قصيدته ثورة في الجحيم، وديوان الثمالة ـ صدر في بغداد 1939 ـ بتقديم المرحوم فهمي المدرس.
صدر بعد وفاته، ديوان نزغات الشيطان ـ صدر في القاهرة 1963 ـ أصدره هلال ناجي، وله عدة مؤلفات منها (الجاذبية وتعليلها، الظواهر الطبيعية والفلكية، الخيل وسباتها، الدفع العام، الفجر الصادق).