ضياع الهويَّة المعماريَّة لبغداد القديمة
ضياع الهويَّة المعماريَّة لبغداد القديمة
بدأ العراق مطلع القرن الماضي مرحلة جديدة من تاريخه؛ تمثلت بزوال السلطة العثمانية وبدء الاحتلال البريطاني، ثم تأسيس الدولة العراقية الحديثة. هذه التحولات انعكست على تخطيط ونمو المدن العراقية؛ لا سيما بغداد.
كانت بغداد خلال الحكم العثماني مدينة ذات طابع حضري موحد، تتشابه فيها (غالبا) الطرز المعمارية، وتندمج المباني الجديدة مع محيطها. خلال تلك المرحلة أقيمت مباني متميزة، أشهرها- مبنى السراي (مقر الحكم قرب مسكن الوالي)، و»قشلاغ» الجنود (القشلة)، والقلعة (وزارة الدفاع في الباب المعظم)، وجوامع متميزة مثل- جامع الحيدرخانة (في شارع الرشيد حاليا) والاحمدي (بمنطقة الميدان)، وغيرها. كانت تلك الجوامع جزءا من محيطها التخطيطي والاجتماعي، وصار مبنى القشلة (مثلا) أنموذجا للمباني الرسمية التي كانت بغداد تخلو منها سابقا. تضم بغداد عددا من المدن الصغيرة داخل المدينة الكبيرة؛ فهناك الكاظمية، ذات النسيج الحضري المتجانس (بالنمط التخطيطي والمقياس (Scale) ومواد البناء وتصميم الدور والاسواق) التي قامت حول الروضة الكاظمية الشريفة. وكذلك الحال بالنسبة للاعظمية ومنطقة باب الشيخ. كما ان هناك مناطق قامت دون وجود مرقد كبير تلتف حوله؛ مثل منطقتي الرصافة والكرخ؛ وكلاهما مثال متكامل لنمو المحلات السكنية عضويا في المدينة الاسلامية التقليدية، بصورة تراكمية وبنفس انماط التوسع.
متغيرات جديدة
بعد الاحتلال البريطاني 1917 دخل عنصر مهم آخر سبب تغييرا بارزا وملحوظا في بنية المدينة: السيارة. فبعد ان كانت الأزقة الصغيرة تكفي لمرور الدواب التي تنقل المؤن وقِرب الماء الى كافة الدور، والشوارع الأعرض نسبيا تكفي لمرور العربات والخيول؛ ظهرت الحاجة الى تخطيط وتنفيذ شوارع واسعة تستوعب وسيلة النقل الجديدة. هنا بدأت اولى مراحل تمزق النسيج الحضري القديم، وبعدة اساليب: فعندما برزت الحاجة للشارع العريض تم شقه خلال المناطق القديمة المتجانسة بلا مرونة، مما قسّمها لاجزاء متقطعة وقضى احيانا على مبان متميزة لن تتكرر، منها (على سبيل المثال)- المدرسة المرجانية في شارع الرشيد. كما قادت الحاجة لتشييد مباني ومقار للشركات والمصالح التجارية الجديدة لإنشاء مباني جديدة في نفس المناطق القديمة، بدلا من الابتعاد عنها والبناء في مناطق جديدة. مما أدى لخلق مركز تجاري- اداري جديد في قلب الرصافة القديمة، وما تبعه من مستلزمات المرور وغيرها. وعلى سبيل المثال- خلقت مباني البنك المركزي ومصرف الرافدين وغيرها، فجوات كبيرة في نسيج سكني اصلا أو تجاري (بمقياس صغير). مثل هذه المباني ما زالت قيد الاستخدام حتى اليوم، وبنفس الوظيفة غالبا، لكن مواقعها لم تعد تلائم التغير الحاصل في المتطلبات الادارية والامنية الحديثة وارتفاع الزخم المروري. فصارت عبئا على مناطقها، يعاني مستخدموها وجيرانهم من صعوبة الوصول اليها والحركة حولها. وجاءت سنوات السبعينيات وما تلاها بكمٍّ من المشاريع الجديدة التي زادت من تقطيع نسيج المدينة القديمة، ومن أهمها- شارع حيفا في منطقة الكرخ؛ الذي قسم الكرخ الى جزءين يفصلهما صف من العمارات العالية ذات التصميم الحديث. وبرزت هنا مشاكل غياب الاعداد الكافية من مواقف السيارات والخدمات الساندة لاعداد السكان المتزايدة، والاختناق المروري الكثيف.
تناغم مفقود
مثل هذه المسيرة التخطيطية أدت لتناثر أجزاء المدينة القديمة، وقيام مباني جديدة (ذات تصاميم معمارية متباينة؛ منها السمين والغث) في أجزاء منها. لا بد من القول هنا ان اصحاب الاملاك في تلك المناطق التراثية يعانون مشكلة واضحة؛ فقد بات الكثير منها قديما بما لا يحتمل الصيانة، وواقعا في مناطق صعبة الوصول، مما يقلل من احتماليات استثمارها تجاريا بمردود مالي مقبول. كما ان العديد منها يقع ضمن مناطق الحفاظ التراثي التي حددتها المسوحات الموقعية لامانة بغداد؛ مما يفقِد اصحابها حرية التصرف الكامل بها. وهنا نكون قد فقدنا العمارة والنسيج معا، واصبحت المدينة القديمة لا تحمل اي هوية محددة. بل صارت مجموعة مباني متناثرة يحتاج اغلبها للصيانة المعمارية المتخصصة (تاريخيا وهندسيا). ولو نظرنا لتجارب مدن أخرى ذات طابع قديم؛ كمدينة تونس مثلا او مراكش، لرأينا الاتجاه بالحفاظ على المباني التاريخية/ التراثية ضمن منطقة نسيج متكامل. وهنا تكون صيانة المبنى بحد ذاته أسهل نوعا ما ضمن محيط متجانس، يحافظ على كيان متكامل للمدينة القديمة وخصائصها التراثية. كما يسمح بايجاد استخدامات جديدة مثل- معارض الفنون او المطاعم والمراكز الثقافية، يمكن من خلالها استثمار المبنى والحصول على مردود مالي للصيانة والادامة (على الأقل). *معمارية