وللإمام الصادق (عليه السلام) مناظرات علمية كثيرة مع الملحدين والزنادقة، منهم من كان يأتيه ويسأله سؤال استفهام واسترشاد، ومنهم من كان على عناده وسابق رأيه، وفي كلتا الحالتين، كان الصادق (عليه السلام) يستقبلهم بصدر رحب، وحلم عظيم، ووجه باش، فكم من معارض وملحد جاءه وخرج من عنده مقتنعاً مسترشداً، وكم غيرهم خرج من مجلسه وهو متماد في غيه وجهله، ولكن الكل يكن له الاحترام والتبجيل.
رُوي أن ثلاثة من الدهريه اتفقوا على أن يعارض كل واحد منهم ربع القرآن، وكانوا بمكة، وتعاهدوا على ان يجيئوا بمعارضته في العام القابل.
وكان من هؤلاء الثلاثة عبد الكريم بن أبي العوجاء، وهو من الملاحدة المشهورين الذي اعترف بدسه الأحاديث الكاذبة على أحاديث النبي (صلى الله عليه وآله).
وكان ابن أبي العوجاء في بداية أمره موحداً مؤمناً حسن السيرة والسلوك يتردد على مدرسة الحسن البصري، فلما انحرف عن التوحيد، اعتزل حوزة الحسن البصري. وانتهى أمره بالقتل لأنه ملحد، قتله محمد بن سليمان عامل الكوفة من قبل المنصور العباسي.
كان ابن أبي العوجاء يوماً هو وعبد الله بن المقفع في المسجد الحرام، فقال ابن المقفع: ترون هذا الخلق، وأومأ بيده إلى موضع الطواف. ما منهم أحد أوجب له اسم الإنسانية إلا ذلك الشيخ الجالس يعني أبا عبد الله جعفر بن محمد (عليه السلام)، أما الباقون فرعاع وبهائم.
فقال ابن أبي العوجاء: وكيف أوجبت هذا الاسم لهذا الشيخ دون هؤلاء؟.
فقال: لأني رأيت عنده ما لم اره عندهم.
فقال أبن أبي العوجاء: لا بد من اختبار ما قلت فيه منه.
فقال ابن القفع: لا تفعل، فإني أخاف أن يفسد عليك ما في يدك!.
فقال: ليس ذا رأيك، لكن تخاف أن يضعف رأيك عندي في إحلالك إياه هذا المحل الذي وصفت.
فقال ابن المقفع: أما إذا توسمت علي، فقم إليه وتحفظ من الذل، ولا تثن عنانك إلى استرسال فيسلمك إلى عقال.
فقام أبن أبي العوجاء إلى الصادق (عليه السلام) فلما رجع منه قال: ويلك يا أبن المقفع، ما هذا ببشر، وإن كان في الدنيا روحاني يتجسد إذا شاء ظاهراً، ويتروح إذا شاء باطناً، فهو هذا.
فقال له: كيف ذلك؟
فقال: جلست إليه، فلما لم يبق عنده أحد غيري، ابتدأني فقال: إن يكن الأمر على ما يقول هؤلاء، وهو على ما يقولون ـ يعني أهل الطواف ـ فقد سلموا وعطبتم، وإن يكن الأمر كما تقولون وليس هو كما تقولون، فقد استويتم وهم.
فقلت: يرحمك الله، وأي شيء نقول، وأي شيء يقولون؟ ما قولي وقولهم إلا واحد.
فقال: وكيف يكون قولك وقولهم واحد، وهم يقولون إن لهم معاداً وثواباً وعقاباً، ويدينون بأن للسماء إلهاً وإنها عمران، وأنتم تزعمون ان السماء خراب ليس فيها أحد.
قال: فأغتنمتها منه، فقلت له: ما منعه إن كان الأمر كما يقولون أن يظهر لخلقه يدعوهم إلى عبادته حتى لا يختلف فيه اثنان. ولم يحتجب عنهم، ويرسل إليهم الرسل، ولو باشرهم بنفسه كان أقرب إلى الإيمان به؟
فقال لي: ويلك كيف احتجب عنك من أراك قدرته في نفسك، نشوّك بعد أن لم تكن، وكبرك بعد صغرك، وقوتك بعد ضعفك، وضعفك بعد قوتك، وسقمك بعد صحتك، وصحتك بعد سقمك، ورضاك بعد غضبك، وغضبك بعد رضاك، وحزنك بعد فرحك، وفرحك بعد بغضك، وبغضك بعد حبك، وعزمك بعد إنابتك، ورغبتك بعد رهبتك، ورهبتك بعد رغبتك، ورجاؤك بعد يأسك، ويأسك بعد رجاءك، وخاطرك لما لم يكن في وهمك وغروب ما أنت معتقده عن ذهنك.
وما زال يعد عليّ قدرته التي هي فيَّ التي لا أدفعها، حتى ظننت انه سيظهر فيما بيني وبينه.
ودخل إبن أبي العوجاء على الإمام الصادق (عليه السلام) يوماً فقال: أليس تزعم أن الله تعالى خالق كل شيء؟.
فقال أبو عبد الله (عليه السلام): بلى.
فقال: أنا أخلق.
فقال له: كيف تخلق؟
فقال: أحدث في الموضوع، ثم ألبث عنه، فيصير دواب، فكنت أنا الذي خلقتها.
فقال ابو عبد الله (عليه السلام): أليس خالق الشيء يعرف كم خلقه؟
قال: بلى
قال: أفتعرف الذكر من الأنثى وتعرف عمرها؟ فسكت ابن أبي العوجاء. ثم أنه عاد في اليوم الثاني إلى الصادق (عليه السلام) فجلس وهو ساكت لا ينطق.
فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): كأنك جئت تعيد بعض ما كنا فيه.
فقال: أردت ذلك يا ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله)
فقال أبو عبد الله (عليه السلام): ما أعجب من هذا، تنكر الله وتشهد أني ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله).
فقال: العادة تحملني على ذلك!.
فقال له الصادق (عليه السلام): فما يمنعك من الكلام؟
قال: إجلال لك ومهابة، ما ينطق لساني بين يديك، فإني شاهدت العلماء، وناظرت المتكلمين، فما تداخلني هيبة قط مثلما تداخلني من هيبتك.
فقال الصادق (عليه السلام): يكون ذلك، ولكن أفتح عليك سؤالاً، ثم أقبل عليه فقال له: أمصنوع أنت أم غير مصنوع؟
فقال له ابن أبي العوجاء: أنا غير مصنوع.
فقال له الصادق (عليه السلام): فصف لي لو كنت مصنوعاً كيف كنت تكون؟
فبقي عبد الكريم مليا لا يحير جوابا وولع بخشبة كانت بين يديه وهو يقول:
طويل عريض، عميق قصير، متحرك ساكن، كل ذلك من صفة خلقه.
فقال له الصادق (عليه السلام) فإن كنت لم تعلم صفة الصنعة من غيرها، فاجعل نفسك مصنوعا لما تجد في نفسك مما يحدث من هذه الأمور.
فقال له عبد الكريم: سألتني عن مسألة لم يسألني أحد عنها قبلك، ولا يسألني أحد بعدك عن مثلها.
فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): هبك علمت أنك لم تسال في ما مضى، فما علمك أنك لم تسأل في ما بعد؟ على أنك يا عبد الكريم نقضت قولك، لأنك تزعم أن الأشياء من الأول سواء، فكيف قدمت وأخّرت؟
ثم قال: يا عبد الكريم أنزيدك وضوحاً؟ أرأيت لو كان معك كيس فيه جواهر، فقال لك قائل: هل في الكيس دينار؟ فنفيت كون الدينارفي الكيس، فقال لك قائل: صف لي الدينار، وكنت غير عالم بصفته، هل لك أن تنفي كون الدينار في الكيس وأنت لا تعلم؟ قال: لا.
فقال أبو عبد الله (عليه السلام): فالعالم أكبر وأطول وأعرض من الكيس، فلعل في العالم صنعة من حيث لا تعلم، صفة الصنعة من غير الصنعة.
فانقطع عبد الكريم، وأجاب بعض أصحابه، وبقي معه بعض.
فعاد في اليوم الثالث فقال: أقلب السؤال، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): سل عما شئت.
فقال: ما الدليل على حدوث الأجسام؟
فقال (عليه السلام): أني ما وجدت صغيراً ولا كبيراً إلا وإذا ضم إليه مثله صار أكبر، وفي ذلك زوال وانتقال عن الحالة الأولى، ولو كان قديماً ما زال ولا حال، لأن الذي يزول ويحول يجوز أن يوجد ويبطل، فيكون بوجوده بعد عدمه دخول في الحدث، وفي كونه في الأولى دخوله في العدم، ولن تجتمع صفة الأزل والعدم في شيء واحد.
فقال عبد الكريم: هبك علمت بجري الحالين والزمانين على ما ذكرت، واستدلت على حدوثها، فلو بقيت الأشياء على صغرها، من أين لك أن تستدل على حدوثها؟
فقال الصادق (عليه السلام): إنما نتكلم على هذا العالم الموضوع، فلو رفعناه ووضعنا عالم آخر، كان لا شيء أدل على الحدث من رفعنا إياه ووضعنا غيره، ولكن أجبت من حيث قدرت إنك تلزمنا وتقول: إن الأشياء لو دامت على صغرها لكان في الوهم لأنه متى ما ضم شيء منه إلى مثله كان أكبر، وفي جواز التغيير عليه خروج من القدم، كما بان في تغيير دخوله في الحدث أن ليس وراءه يا عبد الكريم.
فانقطع ابن أبي العوجاء.
أقول: إِن خلاصة كلام الصادق عليه السّلام: أن هذا العالَم إِذا ضمّ شيء منه إِلى شيء آخر حدث شيء اكبر، وفي ذلك زوال عن الحالة الاُولى وانتقال الى حال اُخرى، والقديم لا تطرأ عليه هذه التحوّلات، ولو كان ذلك التأليف بالفرض والوهم، كما لو كانت الأشياء حسب فرض ابن أبي العوجاء باقية على صغرها لا تكبر، لأنه من الاُمور البديهيّة بل أبده البديهيّات أنه بضمّ شيء إِلى شيء تحصل زيادة على كلّ من الشيئين، وهذه إِحدى بديهيّات أربع هي أساس العلوم الرياضيّة كلّها، فقد أرجع الإمام الدليل على حدوث العالَم الى أوضح بديهيّة في العقول التي لا يختلف فيها اثنان، على أنه عليه السّلام مع ذلك أجاب على تقدير هذا الفرض المحال وهو أن الأشياء تبقى على ما هي عليه بضمّ بعضها الى بعض أجاب بأن هذا الفرض نفسه هو فرض جواز التغيير عليه وخروجه من القِدم ودخوله في الحدث، لأن المفروض أن العالَم تقبل الأشياء فيه الزيادة بضمّ بعضها الى بعض، فلو فرضناه عالماً آخر لا يقبل ذلك فقد فرضنا رفع هذا العالَم وتغييره، فيتحقّق فيه الاستدلال على المطلوب. ما أدقّ هذا الدليل وأبدعه، ولذلك انقطع به ابن أبي العوجاء وخزي.
ولما كان في العام القابل، التقى الإمام في الحرم، فقال له بعض شيعته إن أبي العوجاء قد أسلم.
فقال الصادق (عليه السلام): هو أعمى من ذلك، لا يسلم، فلما بصر بالصادق (عليه السلام) قال: سيدي ومولاي.
فقال له الإمام (عليه السلام) ما جاء بك إلى هذا الوضع؟
فقال: عادة الجسد وسنة البلد ولنبصر ما الناس فيه من الجنون والحلق ورمي الحجارة.
فقال له الصادق (عليه السلام): أنت بعد على عتوك وضلالك يا عبد الكريم.
فذهب يتكلم، فقال له الإمام (عليه السلام): لا جدال في الحج، ونفض رداءه من يده، وقال:
إن يكن الأمر كما تقول، وليس كما تقول، وهو كما نقول، نجونا وهلكت.
وسأل أبن أبي العوجاء الصادق (عليه السلام) يوماً في تبديل الجلود في النار.
فقال: ما تقول هذه الآية: (كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها)؟
هب هذه الجلود عصت فعذبت فما بال الغير يعذب؟
قال أبو عبد الله (عليه السلام): ويحك هي هي، وهي غيرها.
قال: أعقلني هذا القول.
فقال له الصادق (عليه السلام): أرأيت أن رجلاً عهد إلى لبنة فكسرها ثمَّ صب عليها الماء وجبلها ثمَّ ردها إلى هيئتها الأولى، ألم تكن هي هي وهي غيرها؟ فقال: بلى أمتع الله بك.
منقول