أذا كان الشاعر مظفر عبد المجيد النواب قد ولد في بغداد الكرخ عام 1934 من أسرة ثرية مهتمة بالفن و الأدب والثقافة، فأنه لم يكن يدور في مخيلته أن يقيم في الأهوار العراقية لمدة من الزمن تمكنه من معرفة معاني مفردات اللهجة العراقية والغوص في مفرداتها، فنشأته لم تكن توحي بقدرته على معايشة حياة الهور القاسية، الحياة المجردة الا من الماء والسماء وأغصان الخيزران وكثافة القصب الذي يعيق الحركة والمرور، لكن مظفر النواب كان يحتضن جبشات القصب العائم ويتوسد كمشات البردي الحادة ثائراً ضد سلطة تملك جيشاً والعديد من الأجهزة الأمنية الفتاكة يحاربها بالكلمة الرصاصة وبضميره الناصع الذي لايملك سواه والذي لم تستطع ان تلوثه السنوات الجمر ولامخططات السلطات البائدة. وكان مظفر الإنسان قد تابع دراسته في كلية الآداب ببغداد وبعد انهيار النظام الملكي في العراق عام 1958 تم تعيينه مفتشاً فنياً بوزارة التربية في بغداد، وكان مظفر متعدد المواهب شاعراً ورساماً ويتميز خطه بالجمال وفنانا متميزا ومنشداً ساحراً للشعر، وصاحب ذوق موسيقي، لكن كل هذا لم يشغل روحه عن الانتصار الى قضايا الانسان في كل مكان ليرسم من خلال هذا الانحياز مايقدمه للناس وللعراق بشكل خاص .
ربما كان قدر مظفر النواب أن لا يكون شاعراً فقط، انما ثائراً ومعارضاً للسلطات القامعة والأنظمة الطاغية في كل زمان ومكان، لذا صار قدره ان يكون ثائراً ومتمرداً ضد كل ظلم وظلام، ولم يكن يقيده المكان وهذا سبب منطقي يدفعه للمشاركة في كل الثورات والحركات الثورية متنقلاً بين المدن والقارات، وبعد هروبه من نفق سجن الحلة (جنوب بغداد) وهي العملية الجريئة التي قام بها عدد من السجناء السياسيين بحفر خندق طويل يتجاوز خمسة عشر متراً من ارض السجن الى خارجه كانت كل عدتهم في الحفر الملاعق وسكاكين الطعام ليخرج وسط باحة كراج الديوانية العتيق المجاور للسجن وتتم عملية الهروب نحو الحرية التي سجلها التاريخ السياسي في العراق .
مجبول من طينة العراق وممتلئ بمياهه الطاهرة والجارية التي يغتسل بها المندائي ويتطهر بها تراب العراق المشمس، تجد في تقاطيع وجهه حزن الجنوب وماتحملته كوردستان من حيف، وما خطه سعف النخيل النابت على امتداد الفرات فوق روحه، ولأننا نقرأ كل العراق في تلافيف روحه التي اضناها الرحيل والاغتراب والنأي والحنين وفاضت من حزنها وانتظارها، فإننا نتلمس في كلمات قصائده وجع الفقراء ولهفة المظلومين وحرقة الجروح والمواجع التي تنتشر كمسامات الهواء في عراق الجوع والفقر والمرض والسجن والهواء والماء وطيور الهور مثلما تنتشر في روحه .
حزين بقدر الحزن كله، لانه لم يزل يحمل العراق في تلافيف روحه التي لم يستطع الزمن ان يجعلها متشظية، ولم يكن في مخيلة مظفر النواب ان يستل قصبة يتبختر بها على حافات المياه الطاهرة في اهوار الغموكة والطار والجبايش يلقي السلام على الفلاحين بمهابة وشموخ، ولم يكن بباله ان يصير فارس كلمة الماء النقي الذي ينبع من رحم العراق ويدفن روحه فيها، لكنه يعرف يقينا انه استطاع ملامسة وجع الناس وصار قريبا منهم بل صار جزءاً من تنفسهم وحديثهم في مجالسهم وزوايا حياتهم، وصارت كلماته القلائد التي تتزين بها بنات العراق ويترنم بها شباب العراق ويستذكرها رفاق الدرب، ويخط بعصاه رسوماً فوق سطح الماء تتحول الى حروف تجمعها موجات الماء الرقيقة فتطفو كما البط البري فوق سطح الماء، منزلقاً كما ينزلق المشحوف السومري بين غابات القصب .
استلال هموم الناس ومعرفة دقائق حياتهم في الهور تلك مشكلة عصية على من لم يسبر غور هذه الأنهار الممهورة بالأزل والغافية عند مسارب الجنوب المدمن على الوجع والفقر والظلم، وأن يتعرف على خبز الرز المطحون المشوي فوق نار تستمد لهيبها من أقراص فضلات الجاموس اليابس تلك حالة تدل على تفرد في شخصية مظفر النواب الإنسان .
وليس غريباً أن يتمكن النواب من سبر أغوار اللهجة الجنوبية ذات المفردات الصعبة وأن يوظفها في شعره قبل ان يلج حافات الأهوار ويحتضن القصب والبردي في رحلة الماء التي استطاعت ان تجيش بإرهاصاتها روح الشاعر فتخرج من لبه ما يصيرها قصائد يتغنى بها اهل العراق ابدا، فقد تمكن بتفرد وبخصوصية أن يمزج كل الأشعار التي نقشها شعراء أور وسومر فوق جدران الزقورات مع وجع العراق الأزلي يصيرها شعرا يلامس الروح .
فقصيدته للريل وحمد لم تكن وليدة تجربة الأهوار ولم يكن قد لامس أكواخ القصب ومشاحيف الفلاحين ولاجالسهم في المضايف ليعبيء صدره برائحة القهوة والدخان وعبق الفلاحين المتعبين، ولم يكن قد دخل في ارواحهم عارفاً بلغة الحياة التي يتداولونها بينهم، ولاحتى راكبا لفراكين الريل الحديدية اللاهبة (القاطرات الحديدية) التي يستخدمها فقراء العراق عند الانتقال بين المدن لرخصها، فقد كتبها بين عامي 1956-1958، ويبدو لنا ان نمو الحس الفني والقدرة على الإبداع والتجديد هو مادفع مظفر النواب ان يطلق مدرسته الشعرية إن لم نقل تجربته الشعرية الرائدة في الشعر الشعبي الحديث، متمرداً على ضوابط الشعر الشعبي التقليدي الصارمة . يقول مظفر النواب : ((أما عن معايشتي.. فلم أعش طويلاً في الهور، وهذه ظاهرة غريبة يسألونني عنها باستمرار، وأحياناً لا أستطيع تعليل ذلك.. بعد أن استمعت الى مغني الهور، صارت لدي رغبة قوية في أن أذهب الى الهور. كان علي أن أعرف شيئاً عن العالم الذي يكمن وراء ذلك الغناء)) .
وتلك الرغبة لم تكن وحدها الدافع الأساس لبناء هذا الزخم الرائع والتعبير الانساني الذي كانت تجيش بين ارواح الفقراء من الفلاحين واهالي الهور بانتظار أن يتمكن احدهم بلورة احاسيسهم ليحولها الى قصائد شعرية وهوسات تتنفس وتعبر عن واقعهم، بالإضافة الى ماجاشت به روح مظفر النواب من افكار وعقائد اوجبت عليه أن يكشف عن تلك القصائد التي نبعت من روحه قبل أن تصل الى لسانه .
حمد تفكة بثنايا الهور والبيرغ ركد نصه
حمد والعار طر الهور مامش زلم وتكصه
ومن خلال ذلك نستطيع أن نستنتج أن الشاعر في هذه المرة بدافع من إحساسه وكوامن الإبداع في روحه ما ألح وسيطر عليه، وساهم مع ظروف أخرى من أن يكون في حضن الأهوار تلك الطبيعة الساحرة المتموسقة المليئة بالأسرار والكوامن في أرض لم تر الشمس منذ بدايات الخليقة البشرية، مكامن يتوالد فيها السمك والبط والطيور كما ينتشر العكيد والخريط، ومن خلال تلك الرحلة وبالرغم من قصر فترتها الزمنية اكتشف لهجة الهور التي وظفها في شعره، وأهل الهور لا يتداولون الشعر مثلما يتناولون الخبز والسمك، فالشعر يتم استعماله في لغتهم اليومية باعتباره جزءاً من هذه المنظومة الكلامية المتداولة، ومن المفردات التي يتداولها اهل الجنوب عموما والهور خصوصاً منها العديد من المفردات السومرية .
اطرن هورهه مصكك واصيحنهن عليك جروح
يجحلن جالمطبجات الزرك صلهن يشوغ الروح
واجيك شراع ماهو شراع غركانه سفينة نوح
كما تمكن من تطويق الزمن بكلمات الهور ليؤرخ لأسطورة من أساطير العراق التي تناساها التأريخ وأغمض عينيه عنها العراق، فيكتب للفلاح الثائر (حجام البريز) الذي قاوم السلطة الدكتاتورية ونذر روحه وفاء لهذه المقاومة، والذي يقدمه مظفر لنا انه فلاح من كل جموع الفلاحين وأخته اسمها سعيدة وعمرها سبع عشرة سنة والحرة لم تخف يوماً فيقول على لسانه :
أواكح جني أيد تفوج ومكطوعه اصابعهه
اشوغ ويه الشمس ليفوك أشمس كاع مدفون بنباعيهه
تحفر بيه مساحيهه
واشمس روحي للسنبل يجي بروجة شمس للكاع يسكيهه
أبوس أيد اللي يسقي الكاع
ويحمل تمر ورصاص وسلاح بشرايعهه
أفه يا كاع ينبت بيج للواوي عنب
ويعرس عليج الذيب
باعوني عليهه وخضرت عيني بدمعهه وماني بايعهه
كتب مظفر كلماته عن الأهوار ليؤرخ بها دهراً يتجسد في ثورة الفلاحين في هور ازيرج وفي انتفاضات الفقراء من الفلاحين في هور الغموكة، وفي تعاضد الفلاحين والصيادين مع الثوار، كما يجسد لنا اهازيج (فدعة) اخت صويحب التي لم تزل جراحه لاتلمها العطابات ولاكل ضمادات الدنيا حين تطلب من كل النسوة أن يتزحزحن عن جثته المهيبة (ميلن لاتنكطن كحل فوك الدم
ميلن وردة الخزامة تنكط سم
لاتفرح بدمنه لا يلقطاعي
صويحب من يموت المنجل يداعي .
**********
صويحب عالعكل صندوك عرس جبير
حزمه من الحصاد يلفها طيب جثير
وينه اللي يكلي الدنيه وين تصير
اوصله وادك شراعه بشراعي
صويحب من يموت المنجل يداعي
وقدرة مثل هذه التي يمتلكها مظفر النواب لاتكمن في توظيف تلك المفردات الصعبة الفهم على ابن بغداد وبقية المدن البعيدة عن الأهوار، فلأهل الهور لغتهم الممتدة من أور وسومر والمتلازمة مع جريان الماء وصفاء السماء، وانما قدرته على استيعاب تلك المفردات ليضعها في مكانها المتناسب مع حجم القصيدة وقابليتها على النفاذ في قلوب العراقيين وعقولهم، واختراقها بعد كل هذا تأريخ الشعر الشعبي العراقي لتتصدر مقدماته (النكش والخزامة والعطابة والثناية والثوايا وصم التتن والمطبك والجحيل وشوغة الروح ووردة الخزامة والمطال وألاحاه والوشلة والدك) .
كان مظفر النواب فارساً في هور الجبايش متسلحاً بعصى لاغير يتبختر بين القرى التي يوزع أيامه عليها، ومع عصاه التي تشعره بفخر وزهو يكمش من طينها ومياهها كل كلماته التي تمكن من أن ينقش اسمه فوق ارواح العراقيين، حتى انه تمكن من أن يكون قاسماً مشتركاً ليس فقط في الغناء والغزل والوصف وإنما امتد الى الوجع الإنساني الذي حمل رايته ولم يشخ ولم ينثن بعد أن منحه العافية والقدرة والموهبة، فصار جزءاً من تأريخ العراق ومن أغاني الفقراء وهوساتهم التي يتباهون بها .
كان مظفر النواب يقول: إن الكثير من الناس يستغربون كيف يستعمل عامية الجنوب وهو الذي لم يعش فيها وفعلاً لم يعش حياة الهور بل كان يزور المنطقة لخمسة ايام او ستة ايام ولكن لشدة حساسية المفردة هناك وموسقيتها والانفعالية التي بها، فقد سيطرت عليه تلك المفردات ليعجنها في شعره، فصار عنده مفاتيح يفتتح بها قصائده التي تنساب كما تنساب مياه الهور .
يانهران اهلنه، ولن محطتنه محطة من جذب
صاح القطار بليل بيهه وماوكف، وتغامزن جذبات
ماجانت الظنه العمر كله ويالسجج يكضي، وليالي بالحماد نبات
لابد بالسريع النه نصيب ويه العشك ونحط عذر للي جزانه وفات
ولم يزل مظفر النواب وبالرغم من ابتعاده قسراً عن شهيق الهور وزفرة القصب وحركة السمك اللابط بين موجات المياه، لم يزل مظفر النواب مسكوناً بالتوغل عميقا في لجة الهور الذي استعاد قسماً من العافية مع عودة البربش والحذاف والخضيري، وعاد يلح بالسؤال عن من خلد وكتب تلك القصائد الممتلئة بالموسيقى والشجن والمفردات العراقية، وسيبقى مظفر النواب موجوداً في كل قصبة من قصبات الهور وبين كل موجة تحركها نسمات الهواء اللافح في جنوب العراق، ومهما امتد به الاغتراب سيطفو كل لحظة على بيرغ الشرجية وعلى رصاصات حجام وفي تلافيف جراح صويحب ومنقوشاً فوق مقابض المناجل وداخل أكواخ الفلاحين وفي دفة البلم، واقفاً معهم فوق المشاحيف لابطا كسمك العراق، يبيت معهم دون بيت، فبيته العراق، لم تزل نسمات الهواء في الغروب تنقل غناءه وصوته المتميز، سيبقى مظفر النواب شاهدة عريضة من شواهد الهور، فقد تمكن أن ينقش أشعاره فوق الماء الأزلي لأهوار الجنوب العراقي، وقصائده التي لم تزل طافية فوق صفحة الهور تلتقط منها الناس حبات قلائدها وترانيمها، وصار اسم مظفرالنواب وشماً في قلوب العراقيين كلماته الممهورة بمحبة العراق وحزن العراق وهوسات العراق .
بقلم : زهير كاظم عبود