يرى الكثير من الناس أن القرن العشرين هو أكثر القرون التي مرت على البشرية دمويةً وجنونًا؛ ويعود السبب في ذلك إلى عدة وجوهٍ وأسماء .. منهم زعماء دول وقادة جيوش وعملاء، ومنهم من تخفَّى تحت عباءة النضال الثوري أو الجهاد الإسلامي.
ومن أهم هذه الأسماء ’إليتش راميريز سانشيز‘ أو ’كارلوس الثعلب‘ كما يُعرف، والذي ظل لعقود رمز الإرهاب الأبرز على الساحة الدولية والرجل رقم واحد في قائمة الإرهابيين المطلوبين من أهم أجهزة المخابرات في العالم.
لكن يبقى الجدل حول ما إذا كان كارلوس حقًا مناضل يساري ثوري ومؤيد صادق للقضية الفلسطينية لجأ إلى العنف كوسيلة للضغط على الكيان الصهيوني والأنظمة الإمبريالية التي تدعمه أم مجرد عميل في طابور عملاء الموساد الذين يعملون لخدمة مصالح الصهيونية وإظهارها في مظهر الضحية دائمًا؟
النشأة ماركسية بامتياز
ولد إليتش أو ’كارلوس الثعلب‘ عام 1949 بالعاصمة الفنزويلية ’كاراكاس‘ للمحامي المرموق والمليونير الأرجنتيني الأصل ’راميريز نافاس‘ الذي عُرِف بفكره الماركسي وولائه للشيوعية حتى أنه اسمى ابنه بالاسم الأوسط للزعيم السوفييتي ’فلاديمير إليتش لينين‘؛ فكان الأب هو المنهل الأول الذي نهل منه الابن الأفكار اليسارية.
وقد التحق إليتش بجامعة السوربون الفرنسية المرموقة ثم لم يلبث ان انتقل منها إلى جامعة باتريس لومومبا بموسكو عام 1968 لكن تم رفده عام 1970 بسبب خلافاته المتكررة مع أساتذته وضعف مستواه الدراسي.
أعقب ذلك انضمامه إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين حيث شرع في التدرب على الثورات المسلحة كما حصل من خلالها على اسمه الحركي ’كارلوس‘ بترشيح من أحد رؤساءه بالجبهة الذي رأى أن الاسم مناسب للاتيني يعمل مع العرب ظنًا منه أن اسم ’كارلوس‘ هو تحريف أسباني للاسم العربي ’خليل‘، وفي رواية أخرى اختار إليتش اسمه الحركي بنفسه تيمنًا بالرئيس الفنزويلي ’كارلوس أندريس بيريز‘ أحد معارف أبيه.
كارلوس أندريس بيريز
أهم العمليات في سجل كارلوس الثعلب
مثَّل انضمام كارلوس للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين نقطة البداية في مشواره الحافل بعمليات العنف، فكانت أول مهمة اسندتها له الجبهة عام 1973 وهي اغتيال ’جوزيف إدوارد سيف‘ رجل الأعمال الصهيوني البارز ورئيس سلسلة متاجر ’ماركس آند سبنسر‘ الشعبية البريطانية، وبرغم نجاح كارلوس في اقتحام منزل سيف وإصابته بطلقٍ ناري في الرأس إلا أنه لم يتمكن من قتله، إذ توقفت البندقية قبل إطلاق الرصاصة الأخيرة؛ فاضطر كارلوس للهرب!
جوزيف إدوارد سيف
وفي يونيو 1975 قام كارلوس بقتل محققَيْن فرنسيَيْن ومعاونه لبناني الجنسية ’ميشيل مخربل‘ بعدما اصطحب الأخير ثلاثة محققين فرنسيين إلى مسكن كارلوس، فاستطاع كارلوس خداعهم باستقباله الهادىء وكرم ضيافته قبل أن يفتح النار عليهم فجأة ببندقيته الآلية فيقتل معاونه واثنين من المحققين الفرنسيين ويصيب الثالث ثم يلوذ بالهرب؛ وقد جعلت منه هذه الحادثة مادة إعلامية خصبة وأطلق عليه الإعلام حينئذٍ لقب ’كارلوس الثعلب‘.
لكن يبقى الهجوم على اجتماع وزراء بترول الدول المُصَدِّرة للنفط بمقر منظمة الأوبك بالعاصمة النمساوية فيينا في ديسمبر من نفس العام هو العمل الإرهابي الأشهر بتوقيع كارلوس الثعلب، حيث قامت مجموعة مسلحة أطلقت على نفسها اسم “ذراع الثورة العربية” تحت قيادة كارلوس باقتحام مقر الاجتماع واحتجاز 63 رهينة بينهم 11 وزيرًا للبترول.
تم الإفراج عن معظم الرهائن بعد فترة قصيرة لكن كارلوس اشترط للإفراج عن الباقين إذاعة بيان رسمي يشرح القضية الفلسطينية بالتليفزيون والإذاعة النمساوية كل ساعتين وحافلة مجهزة لنقل المسلحين والرهائن إلى مطار فيينا تمهيدًا لمغادرة البلاد.
وفي الجزائر تم إطلاق سراح جميع الرهائن مقابل فدية قدرها 50 مليون دولار رغم تلقي كارلوس تعليمات من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بوجوب قتل الوزيرين السعودي والإيراني بزعم عدم ولاء بلديهما للقضية الفلسطينية بالشكل الكافي وعدم حرصهما على زيادة أسعار النفط المُصَدَّر إلى الخارج!!
وبعد مطاردة أمنية استمرت عقودًا تخللتها سلسلة من التفجيرات والاغتيالات التي دبَّرها كارلوس أو شارك في تنفيذها نجحت المخابرات الفرنسية عام 1994 في القبض على كارلوس بالعاصمة السودانية الخرطوم، وتم ترحيله سرًا إلى فرنسا حيث تمت محاكمته ونال عدة أحكام بالسجن مدى الحياة.
انكر كارلوس كل التهم الموجهة إليه في أثناء محاكمته واتهم إسرائيل بأنها كيان إرهابي مدعيًا أن دوافعه دائمًا ما كانت ضمان تحرير فلسطين، فقال “عندما يشن أحد حربًا لمدة 30 سنة تُراق الكثير من الدماء، دمي ودم غيري، لكننا لم نقتل أحدًا أبدًا من أجل المال، بل من أجل هدف، وهو تحرير فلسطين.”
وللبعض وجهة نظرٍ أخرى…
على صعيدٍ آخر ينظر البعض إلى كارلوس نظرة ريبة وتشكك في خلفيته ومواقفه السياسية بناءً على تفكر موضوعي في تاريخه وشكل مساهمته في الترويج للقضية الفلسطينية عالميًا.
فيرى البعض أن كارلوس ما هو إلا عميل للموساد عَمِل تحت لواء جهة فلسطينية الظاهر صهيونية الباطن بهدف تشويه صورة الفلسطينيين والعرب وإضعاف موقف القضية الفلسطينية وإظهار الكيان الصهيوني بمظهر الضحية ومحارب الإرهاب، فواقع الأمر يقول أن إرهاب كارلوس لم يساهم إطلاقًا في تحقيق هدفه المزعوم وهو “تحرير فلسطين”، بل أضر بصورة القضية الفلسطينية والمقاومة الفلسطينية عالميًا.
دعَّم وجهة النظر هذه بعض الرسائل الإلكترونية المُسَرَّبة بواسطة ويكيليكس والمؤرخة بتاريخ 15 يونيو 2011 بين ’ديفيد فيرجيل دافينويو‘ رئيس وكالة نورام للاستخبارات ورئيس لجنة الأمن الداخلي بغرفة تكساس – إسرائيل التجارية و’فريد بورتون‘ نائب رئيس وكالة ستراتفور لمكافحة التجسس، وقد جاء فيها على لسان ’دافينويو‘ أن الموساد لم يسعى لاغتيال كارلوس أو احتجازه لأنه “أبدًا لم يمثل تهديدًا للأمن القومي الإسرائيلي ولم يكن راس اية مهمة ضد الاسرائيليين.”
الغريب أن هناك من العمليات الإرهابية الموجهة ضد أهداف إسرائيلية ما هو منسوب إلى كارلوس بالفعل! فيُنسَب إليه إلقاء قنبلة على فرع لبنك إسرائيلي بلندن متسببًا في انفجار جزءٍ منه بلا وفيات، وقيادة عملية تفجير ثلاثة مكاتب لجرائد ومجلات موالية لإسرائيل بباريس بلا وفيات، وهجومين بصواريخ محملة بالقنابل على طائرات تابعة لشركة العال الإسرائيلية بمطار أورلي الفرنسي خلَّفا بعض المصابين ولا وفيات أيضًا!!
كما أضاف دافينويو أن “(كارلوس) قام كذلك ببيع المعلومات التي جمعها عن البلاد العربية لوكالات (استخباراتية) غربية مقابل مبالغ كبيرة من المال” معقبًا أن عملية القبض على كارلوس عام 1994 كانت من أجل “حمايته” من “تحالف (استخباراتي) عربي بقيادة العراقيين .. كانوا في طريقهم لاغتياله”!!
الأمر الذي قد يُفَسِّر للبعض احتجاز كارلوس في سجن ’لا سانتيه‘ الباريسي بمعزل عن بقية السجناء، كما يُخَفف من دهشة البعض بسبب رفض فرنسا طلب النمسا تسليم كارلوس لمحاكمته في قضية عملية الأوبك عام 1975 بحجة فشل النمسا في تجديد مذكرة التوقيف خلال عشر سنوات، الأمر الغير ضروري أصلًا في القانون النمساوي!
هذا ويثير البعض تساؤلات أخرى مثل لماذا اتخذ كارلوس قرارًا مفاجئَا باعتناق الإسلام، وفي أوائل التسعينات تحديدًا؟!! وكيف ل”مناضل يساري” مثله أن يؤلف كتابًا من داخل محبسه عام 2003 بعنوان “الإسلام النضالي” يمدح فيه أسامة بن لادن رغم محاربة الأخير للاتحاد السوفييتي رمز اليسار في العالم في فترة من الفترات؟!!
وتساؤلات أخرى كثيرة تكشف عن حجم الغموض الذي لا يزال يحيط بشخصية كارلوس الثعلب والذي لم تستطع الكتب ولا الأفلام التي تناولت سيرته الإجابة عنها بشكلٍ وافي، الشيء الذي يجعلني أعتقد أن الجدل الذي تثيره شخصية كارلوس – وليست شهرته بالدهاء والقدرة على مراوغة الأمن – هو ما يجعله يستحق لقب “الثعلب” عن جدارة.