مقهى (الواق واق) في الأعظمية
بقلم:كريم مروّة*
تقع مدينة الكاظمية على ضفاف نهر دجلة. معلومة جغرافية عراقية لا تعني العراقيين. بل هي تعنيني أنا بالذات، في هذا الحديث عن ذكرياتي في المدينة. الأماكن السكنية كانت، في الفترة التي كنت أقيم فيها في تلك المدينة في أواخر أربعينيات القرن الفائت، تبتعد قليلاً عن النهر، وتتجه شمالاً. أي أن كثافة البنيان كانت تقترب من «الحضرة»،
هذا ما بدا لي فور وصولي إليها، وبدء إقامتي في منزل نسيبي حسين مروة، المنزل الذي كان يقع على مقربة من «الحضرة»، المقام الديني الذي يضم ضريح الإمامين موسى الكاظم ومحمد الجواد. لم تكن الكاظمية، كما أذكر، تتسع لمطامحي في مطالع العمر، في ذلك التاريخ.
لذلك كانت بغداد هي طريقي الأرحب إلى عالم المعرفة، المعرفة بكل ما كانت مطامحي تشدني إليه في العالم المعاصر خصوصاً، وفي التاريخ القديم كذلك. والطريق الذي كان عليّ أن أسلكه للوصول إلى بغداد يقضي بأن أجتاز نهر دجلة. وكان يربط الكاظمية ببغداد جسر خشبي، تكاد تشعر وأنت تعبره، مشياً على الأقدام، أو بإحدى الحافلات، كأنك مهدد بالوقوع في أي لحظة وسط النهر، الذي كانت مياهه المنسابة ستقودك، إذا ما وقعت فريسة لجريانها، إلى ما لا تعرف من أماكن في الأعماق وفي الأبعاد. لكن ذلك الجسر الخشبي كان، رغم ما كانت تشير إليه اهتزازاته وقعقعة جوانبه وضجيجها، أميناً على حياة العابرين فوقه، وقوياً يستعصي على التفكك والإنهيار. إلا أن الوصول إلى قلب بغداد، عبر ذلك الجسر الخشبي، كان يقضي بالمرور الإلزامي في حي الأعظمية. والميزة الأساسية لحي الأعظمية إنما تكمن في أنه يحتضن مقام الإمام أبي حنيفة. وكان ذلك المقام يقع في الطرف الغربي من ساحة كبيرة، لا أعرف أين أصبحت الآن وسط زحام الأحداث. وكان يقع في الطرف الشرقي من الساحة المقر العام لأمانة العاصمة. أثار فضولي، وأنا أعبر للمرة الأولى ذلك الجسر الذي يربط الكاظمية ببغداد، ما شاهدته من تشابه ومن اختلاف بين المعالم الدينية والعمرانية في كل من مدينة الكاظمية، وحي الأعظمية. وكان عليّ أن أبحث عن الطريق الموصل إلى اكتشاف السر الكامن في تلك المعالم في الضفة الشمالية من النهر، وفي الضفة الجنوبية منه، بالإختلاف وبالتشابه بين الضفتين وبين تلك المعالم ذاتها. لكنني لم أتابع ذلك البحث، بعد أن استقر بي المقام في العراق، وبعد أن تعمقت علاقتي ببغداد، المتعددة طوائفها، ومذاهبها، والمتعددة القوميات غير العربية فيها. وكان دليلي الطبيعي في ذلك الحين، إلى الكثير من المعارف وإلى الكثير من العلاقات، ابن عمي ورفيق عمري نزار مروة، الإبن البكر لحسين مروة. ذلك أننا كنا نجتاز الطريق ذاته كل صباح إلى بغداد، أنا إلى المدرسة «الجعفرية»، مدرستي، وهو إلى مدرسة «شمّاش» اليهودية، مدرسته. وكان أبو نزار رفيقنا في الطريق ذاته وفي الوقت ذاته وفي الإتجاه ذاته لإلقاء محاضراته في عدد غير قليل من مدارس بغداد، ومن بينها «الجعفرية» و«شمّاش»، فضلاً عن ممارسة مهنته الكتابية في صحف ومجلات تلك الفترة من حياته وحياتنا في العراق، في الربع الأخير من أربعينيات القرن الماضي. كنا، نزار وأنا، شغوفين في متابعة النشاط الأدبي. كنا، في ذلك الحين، مشاريع أدباء. وكنا، في الوقت ذاته، نحرص على إقامة علاقات مع من كانوا أصدقاء حسين مروة من أدباء تلك الحقبة من تاريخ العراق، الكبار منهم، والناشئون. وكنا نمارس الكتابة، كل على طريقته، في الميدان الأدبي، إبداعاً وترجمة. وكانت جريدتا «الرأي العام» و«الأخبار»، في ملحقيهما الأدبيين، المنبرين اللذين كنا نمارس فيهما بدايات اهتماماتنا الأدبية، قراءة ونشراً. وكنا نتابع ما كان ينشر في المجلات الأخرى، لا سيما «الهاتف» لمؤسسها جعفر الخليلي، و«الحضارة» لمؤسسها محمد حسن الصوري. كان بلند الحيدري، في ذلك الزمن، قد بدأ يشق طريقه كشاعر حداثي. وكان قد أصدر أول ديوان له بعنوان «خفقة الطين». وكان قد أنشأ مع عدد من الأدباء والفنانين الشباب جمعية أعطوها صفة المقهى الذي كانوا يلتقون فيه، «مقهى الواق واق»، تشبهاً بـ«جزيرة الواق واق» الأسطورية. واختاروا لهذا المقهى موقعاً وسطاً في حي الأعظمية بين طرفي ساحتها، أي بين مقام الإمام أبي حنيفة، ومقر أمانة العاصمة، وفي الجهة الجنوبية تحديداً. قررنا، نزار وأنا، أن نقيم علاقة مع تلك الثلة من أدباء وفناني تلك الحقبة، ليس للإنتماء إليها بالضرورة، بل للإستفادة من النقاشات التي كانت تجري بين أعضائها، عندما كانوا يلتقون في ذلك المقهى، الإستفادة بالإستماع وبالإستمتاع فقط. كانت الثلة مؤلفة من الشاعر بلند الحيدري ومن شقيقه صفاء الحيدري الشاعر البوهيمي، ومن المثقف القادم حديثاً من فرنسا ابراهيم اليتيّم، حاملاً معه حصيلة ما كان قد اكتسبه من ثقافة في عاصمة الثقافة العالمية، ومشيراً، خلال حديثه باللغة الفرنسية وباللهجة الباريسية، إلى أنه الإبن البار لتلك العاصمة ولثقافتها وللغتها وللهجتها، التي تجعل الراء غيناً. وكان من بين الثلة كذلك النحات خالد الرحال، والشاعر نزار سَليم، شقيق النحات جواد سَليم، الذي لم يكن قد عاد من أوروبا حاملاً معه تراثه الذي سرعان ما صار واحداً من الرموز الأساسية للفن العراقي الحديث. كان بلند الحيدري وابراهيم اليتيّم ينتميان في ذلك الحين إلى الحركة الوجودية. وكان جان بول سارتر هو الرمز الأكبر لتلك الحركة. ولم أكن قد سمعت بتلك الحركة قبل ذلك التاريخ. في حين أن رفيقي ونسيبي نزار كان قد سمع بها، وقرأ، واستوعب بعض ما تشير إليها أفكارها وأفكار سارتر. لكنني لم أجهد يومذاك لمعرفة أسرار تلك الحركة وأفكارها ومبادئها. واكتفيت بما سمعته يتكرر في أحاديث كل من بلند وابراهيم. وقد بدا لي في ذلك الحين ما يشبه التنافس بين الاثنين حول من هو الأكثر ثقافة، بشكل عام، ومن هو الأكثر تعبيراً عن الوجودية في أفكاره وفي سلوكه. وفي حين كانت ثقافة بلند إنكليزية فإن ثقافة ابراهيم كانت فرنسية. لكن ابراهيم اليتيّم بدا لي أكثر غروراً من بلند، لا سيما في الطريقة التي كان يعرض بها أفكاره، الطريقة التي كان يبدو لي فيها ابراهيم كعالم بأمور لا يمتلك أسرارها سواه. غير أن ذلك الإنطباع سرعان ما تبدد عندما دخلنا، بعد عقد ونيف، في علاقة صداقة حميمة عرفتني إليه وإلى شخصيته وإلى ثقافته وإلى خصاله الإنسانية. إذ كنا قد انتقلنا كلانا من أفكارنا القديمة وتحولنا يساراً. أما بلند فكان، برغم إحساسه الصارخ، في ذلك الوقت، بأنه كان يشق الطريق إلى الحداثة في الشعر في التنافس مع صديقيه بدر شاكر السياب ونازك الملائكة، أكثر مرونة وأكثر احتراماً لمشاعر الشابين، نزار وأنا، القادمين حديثاً إلى عالم الأدب. وبدأت العلاقة بيني وبين بلند تتوطد، منذ ذلك التاريخ. لكنها صارت، في ما بعد، صداقة عمر بكل المعاني. وكان قد تحوّل هو الآخر من الوجودية إلى اليسار مثلنا. كان خالد الرحال إنساناً جميلاً، محباً للحياة، سريعاً في تكوين علاقات الصداقة مع الآخرين. لذلك توطدت علاقة الصداقة بيني وبينه منذ البدايات. واستمرت على مدى العامين اللذين قضيتهما في العراق. ولم نعد نلتقي منذ ذلك التاريخ. ومعروف أن خالد الرحال قد تحول منذ الأعوام الأولى لممارسة فن النحت إلى واحد من كبار رموز الفن العراقي الحديث مع جواد سَليم وآخرين من رعيل تلك الحقبة من الفنانين العراقيين. لم يعش طويلاً مقهى «الواق الواق» في حي الأعظمية. وانقطعت علاقاتي به، بعد أن توسعت علاقتي أفقياً بعالم الأدب والسياسة، وبعد أن اخترت السير في حياتي في يسار الطريق، ضد يمينها. وفي مطالع ستينيات القرن الماضي، أي بعد عقد ونيف من ذلك التاريخ الأول، صارت لعلاقتي مع بلند الحيدري خصوصاً نكهة أخرى. وإذ انقطعت الصلة بيني وبين ابراهيم اليتيّم، ولم أعد أسمع عنه وعن أخباره شيئاً، فقد ودعت بحزن كبير صديقي بلند في أواسط تسعينيات القرن الماضي، بعدما كنا قد التقينا في لندن، وتحدثنا عن مشاريع كثيرة وكبيرة.
*كاتب لبناني
كاردينيا